رغبة في إعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة تجاه شركائها الاستراتيجيين، وتعميق وتعزيز الشراكة طويلة الأجل بين الولايات المتحدة والقارة الأفريقية، وفي سياق من التراجع الذي شهدته العلاقات بينهما خلال سنوات رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب، وتعهدات الرئيس الحالي جو بايدن بإعادة التزام الولايات المتحدة تجاه شركائها الاستراتيجيين، وكذلك تصاعد التنافس والاستقطاب الدولي على القارة؛ تأتي القمة الأمريكية الأفريقية الثانية التي دعا إليها الرئيس الأمريكي في يوليو الماضي، والمنعقدة في واشنطن خلال الفترة 13-15 ديسمبر 2022، لتعيد صياغة العلاقات الأمريكية الأفريقية وإعادة تعريف الأولويات وأطر العمل واستعادة الحضور الأمريكي في القارة من جديد.
الأهداف المعلنة
حدد البيت الأبيض في إعلانه عن القمة مجموعة من الأهداف التي تنطلق منها الرؤية الأمريكية حول الرسائل والأهداف التي ينبغي إيصالها والعمل عليها، والتي تنطلق من الأولويات الاستراتيجية التي حددتها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء في أغسطس 2022. ووفقًا للمعلن، تتمثل هذه الأهداف في:
أولًا) التأكيد على الالتزام الأمريكي بشراكه طويلة الأمد مع القارة، وبالتالي وضع أطر جديدة للتعاون معها في قضايا المناخ وبناء قدرات المجتمعات والتحول العادل للطاقة، وتعزيز قدرات الحكومات الأفريقية للاستجابة للتداعيات الناجمة عن وباء كورونا، من خلال التعاون في تعزيز القدرات الصحية ونقل التكنولوجيا، وكذلك التعاون في قضايا الأمن الغذائي ومواجهة الآثار السلبية للحرب الروسية الأوكرانية. وكذلك التعاون في مجالات الأمن وقضايا الديمقراطية، عبر تأكيد الالتزام على القيم المشتركة وتعزيز قيم الحرية والشفافية والمجتمعات المنفتحة، فضلًا عن تعزيز دور المجتمع المدني والنساء والشباب، والالتزام بخلق شراكات تعمل على تخفيف الأعباء وخلق التزام ذاتي.
ثانيًا) الاعتراف بأفريقيا شريك وصوت عالمي مؤثر، يمكنه التأثير والمشاركة في صياغة المستقبل ومواجهة تحدياته؛ إذ تأتي النظرة الأمريكية لأفريقيا كلاعب مؤثر في صياغة النظام والأولويات العالمية وفقًا لاعتبارات متعددة، تمثل أكثرها في الكتلة التصويتية المؤثرة للقارة الأفريقية في الأمم المتحدة؛ إذ فاجأ السلوك التصويتي للقارة الأفريقية خلال الحرب الروسية الأوكرانية الكتلة الغربية التي سرعان ما انتبهت إلى تراجع التأثير لصالح المنافسين لها في أفريقيا والمتمثلين في روسيا والصين تحديدًا.
هذا فضلًا عن الاعتراف بالإمكانيات الواعدة التي تتمتع بها القارة كواحدة من أسرع مناطق العالم نموًا سكانيًا، يجعل منها سوقًا اقتصادية واعدة إذا ما تم الاستثمار في تأهيل وتعزيز كفاءة الأيدي العاملة بها، عبر تعزيز برامج التعليم والتدريب للشباب، وهو ما يضع الشباب على رأس أولويات جدول القمة. هذا علاوة على الآفاق المحتملة للاقتصادات الأفريقية ومنطقة التجارة الحرة القارية والموارد التي تمتلكها الدول الأفريقية.
الأولويات الاستراتيجية
أصدر البيت الأبيض في أغسطس الماضي، الاستراتيجية الأمريكية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء، التي تعبر عن رؤية الإدارة الحالية إزاء أفريقيا، وحددت الأولويات والمصالح الأمريكية في القارة، وهي نفس الأهداف التي تكرر التأكيد عليها ضمن أهداف القمة، وهذه الأهداف هي:
1 – تشجيع الانفتاح والمجتمعات المفتوحة، عبر تعزيز الشفافية والمساءلة، ودعم وتعزيز الهيئات القضائية المستقلة واحترام السيادة، على نحوٍ يعزز من استفادة الدول الأفريقية من مواردها، بما يدعم التعاون في القضايا المشتركة والتبادل التجاري.
2 – تحقيق مكاسب ديمقراطية وأمنية وذلك من خلال تعزيز الشفافية ومبادئ الديمقراطية، ومعالجة الاستياء الشعبي من الحكومات، ومواجهة التراجع الديمقراطي الذي شهده عدد من دول القارة مؤخرًا، فضلًا عن تعزيز الاستقرار والأمن الإقليمي، ودعم وتمكين المجتمع المدني والفئات المهمشة من النساء والشباب.
3 – دعم التعافي من الوباء والفرص الاقتصادية، عبر مساندة شراكات القطاعين العام والخاص، بما في ذلك المشاركة في جهود إنعاش المنطقة اقتصاديًا، والشراكة من أجل البنية التحتية العالمية وقضايا الطاقة والأمن الغذائي.
4 – الحفاظ على البيئة وعدم تحول الطاقة، من خلال مساندة جهود حماية النظم البيئية الطبيعية، ودعم جهود تقليل آثار المناخ والتكيف معها، بما في ذلك دعم المرونة وسلال التوريد، وتسريع عملية الانتقال العادل للطاقة النظيفة، فضلًا عن تأمين المعادن والتعاون في قطاع التعدين الأفريقي.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية، حددت الاستراتيجية أولويات واقترابات للتعاون مع القارة، تمثلت في:
1 – زيادة الانخراط الدبلوماسي الأمريكي في أفريقيا، من خلال تعزيز التبادل الثقافي والشباب والنساء، فضلًا عن دعم الدبلوماسيين في أفريقيا.
2 – دعم التنمية المستدامة والصمود الاقتصادي، من خلال التعاون مع الهيئات والمنظمات الإقليمية لدعم عملية التنمية المستدامة وتحسين مرونة المؤسسات ومواجهة تداعيات فيروس كورونا.
3 – مراجعة أدوات التعامل مع الجيوش الأفريقية، من خلال مراجعة برامج التدريب المهني وبناء القدرات المؤسسية، وإجراء إصلاحات في قطاع الأمن؛ في محاولة لتعزيز بناء جيوش احترافية بعيدة عن العمل السياسي، والحد من التراجع الديمقراطي في القارة.
4 – تعزيز العلاقات التجارية مع دول المنطقة، من خلال التركيز على القطاعات الحاسمة للنمو الأفريقي، مع تأكيد الاستمرار في الأولويات الأمريكية في قطاعات الزراعة والطاقة والرعاية الصحية والتكنولوجيا.
5 – قيادة عملية التحول الرقمي في المنطقة، من خلال العمل على تعزيز البنية التحتية السلكية واللا سلكية، وضمان الوصول إلى الإنترنت المفتوح، وتعزيز التعاون البيئي والرقمي، والتعاون في مجال تكنولوجيا الاتصالات.
6 – مساندة جهود التجديد الحضري بالمنطقة، من خلال العمل على البنية التحتية، ودعم المدن الأفريقية في التخطيط والقطاعات الحيوية مثل الطاقة والمياه والنقل وتغير المناخ.
وهذه هي الأدوات والأهداف الاستراتيجية التي حددتها الاستراتيجية الإدارة الحالية، تترجم في الأهداف المعلنة للقمة، بوصفها منصة دبلوماسية لإعادة تأكيد الأولويات المشتركة.
السياق والمحددات
تأتي هذه القمة في سياق من صعود التنافس الدولي على القارة، في وقت الذي تراجع فيه الحضور الأمريكي في ولاية ترامب تحديدًا، وبذلك تحمل هذه القمة أهمية بالغة للولايات المتحدة في وقت يتنامى فيه الاتجاه الأفريقي شرقًا.
- التنافس الدولي
تُصاغ هذه التحركات الأمريكية في سياق تصاعد التنافس الغربي مع كلٍ من روسيا والصين، وقد عُدت الساحة الأفريقية واحدة من المناطق التي تشهد تجليات هذه المنافسة، رغم التأكيد الأمريكي على أن هذه القمة بعيدة عن سياق التنافس وأنها مدفوعة بالأولويات المشتركة.
ووضحت هذه الرؤية بشكلً جليّ في المراجعة الاستراتيجية للناتو؛ إذ أوضحت الوثيقة الاستراتيجية الصادرة عن قمة مدريد في يونيو 2022 أن منطقة الساحل وشمال أفريقيا والجنوب العالمي بشكل عام واحدة من مناطق التهديد للأمن الأوروبي، وأن النشاط الروسي في المنطقة واحد من عوامل التهديد.
وبنفس المنطق، أقر الكونجرس الأمريكي في نهاية أبريل الماضي قانونًا يقضي بمواجهة الأنشطة الروسية الخبيثة في أفريقيا. وربما تعد كافة التحركات التالية لهذا القانون سواء إصدار الاستراتيجية الجديدة أو الأنشطة الدبلوماسية مدفوعة بتصور رئيس يتمثل في مواجهة تنامي النشاط الروسي ويليه النفوذ الصيني.
- الانخراط الدبلوماسي
حددت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لنفسها أهدافًا تتعلق بالانخراط الدبلوماسي في أفريقيا، كأول آليات ترجمة رؤيتها الاستراتيجية. تأتي هذه القمة لتعزيز التواصل الدبلوماسي مع قادة الدول والحكومات الأفريقية. وقد انخرطت الولايات المتحدة بشكل دبلوماسي من خلال مجموعة من التحركات الدبلوماسية للإدارة الحالية، فواصلت الانخراط الدبلوماسي في الصراع الإثيوبي، وفي الأزمة السودانية، ومؤخرًا في الأزمة التي يشهدها شرق الكونغو، من خلال العمل مع الشركاء الإقليميين.
وقد ترجمت هذا الانخراط الدبلوماسي بتعيين مبعوث أمريكي للقرن الأفريقي في أبريل 2021؛ للانخراط بنشاط مع منطقة القرن الأفريقي. واستُتبع هذا النشاط الدبلوماسي بجولتين لوزير الخارجية الأمريكي، جاءت الأولى منهما إلى كينيا ونيجيريا والسنغال في نوفمبر 2021، أما الثانية فشملت كلًا من جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا في أغسطس 2022.
ورغم هذا الانخراط الدبلوماسي الأمريكي، فقد توازى معه نشاط للقوى الإقليمية والدولية المنافسة في القارة؛ إذ شهد القرن الأفريقي حالة من زخم تعيين عدد من الدول مبعوثين لها إليه. وبالمثل عُقدت قمم مختلفة بما فيها القمة الصينية الأفريقية ومنتدى التعاون الصيني الأفريقي في ديسمبر 2021، فضلًا عن الجولات الدبلوماسية الموازية بما في ذلك جولة وزير الخارجية الروسي إلى أفريقيا في يوليو 2022، وكذلك القمة الروسية الأفريقية المقرر عقدها العام المقبل.
- المراجعة الاستراتيجية
تأتي هذه الأهداف المعلنة وفق هدف استراتيجي رئيس يتمثل في إعادة التأكيد على التزام الولايات المتحدة تجاه أفريقيا، في ضوء التراجع الذي شهدته العلاقات بين الجانبين وفقًا لاستراتيجية إدارة الرئيس السابق، والتي أصدرها مستشار الأمن القومي حينها “جون بولتون”، كانت منافسة روسيا والصين هدفًا استراتيجيًا وأساسيًا للرؤية الأمريكية.
واقترن هذا الهدف بمبدأ تعزيز المعاملة بالمثل الذي تبناه ترامب، عبر تأكيد التعاون مع الشركاء الأفارقة؛ لتعزيز اعتمادهم على أنفسهم سواء في جهود التنمية أو قضايا الأمن، ومن ثمّ إعادة صياغة الجهود الأمنية والمساعدات التنموية، إذ كان يرى أن هذا المساعدات يجب أن يعاد توجيهها لبناء القدرات وليس المساعدات الإغاثية الطارئة.
وصاحب هذا التحول الاستراتيجي الإعلان عن تخفيض الالتزام العسكري الأمريكي في أفريقيا، وبناءً عليه صدر قرار سحب القوات الأمريكية من الصومال في فبراير 2020. هذا فضلًا عن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، بما خفض من التزامها أمام أفريقيا كشريك موثوق فيه؛ لعدم التزامها بالعمل المناخي، في وقت تمثل القارة فيه هي أكثر المتأثرين. لهذا يمكن فهم قرارات إدارة بايدن بالعودة إلى العمل المناخي، وإعادة الجنود الأمريكية للانخراط في الصومال مرة أخرى، وغيرها من القرارات التي تحاول أن تجد طريقها من جديد لاستعادة المكانة والنفوذ.
على هذه الخلفية، جاءت الإدارة الحالة بوعود انتخابية لإعادة تعريف العلاقات مع أفريقيا، وترجمة توصيات من المستشارين المحيطين بالإدارة الديمقراطية؛ لإعادة صياغة العلاقة وتأكيد الالتزام مع القارة، من خلال مراجعة استراتيجية للسياسات السابقة.
.
رابط المصدر: