أجرى رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال مارك ميلي زيارة إلى منطقة الشمال السوري في الثالث من مارس الجاري، حيث زار المسؤول العسكري الأمريكي إحدى القواعد العسكرية الموجودة في الشمال السوري، وقال في تصريحات إن هذه الزيارة تستهدف “تقييم الجهود المبذولة لمنع عودة ظهور الجماعة المتشددة ومراجعة إجراءات حماية القوات الأمريكية من الهجمات، بما في ذلك من الطائرات المسيرة التي تطلقها فصائل مدعومة من إيران”، وقد عبرت الزيارة عن رغبة أمريكية واضحة في استمرار لعب دور التوجيه للقوات الموالية المتمركزة في مناطق الشمال السوري، وعلى رأسها قوات سوريا الديمقراطية، خصوصًا في ظل المتغيرات التي تشهدها الساحة السورية في الآونة الأخيرة.
متغيرات ما بعد الزلزال
أشار رئيس هيئة الأركان الأمريكية في تصريحات صحفية إلى أن زيارته إلى منطقة الشمال السوري تستهدف “تقييم عمليات محاربة تنظيم داعش”، لافتًا إلى أن “القوات الأمريكية وشركائها السوريين، الذين يقودهم الكرد، يحرزون تقدمًا في ضمان إلحاق هزيمة دائمة بالتنظيم الإرهابي“، ويمكن القول إن زيارة “ميلي” إلى منطقة الشمال السوري تأتي في ظل متغيرين أساسيين، ارتبطا بزلزال السادس من فبراير، وما تبعه من تداعيات، وذلك على النحو التالي:
1- استبق رئيس هيئة الأركان الأمريكية زيارته للشمال السوري، بزيارة إسرائيل، في مطلع مارس الجاري، وقال الكولونيل ديف باتلر، المتحدث باسم الهيئة إن الزيارة استهدفت “بحث قضايا الأمن الإقليمي، والتحديات والفرص الكثيرة التي تواجهها إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط”، وبعد الزيارة بأيام قام سلاح الجو الإسرائيلي بتنفيذ هجمات صاروخية استهدفت مطار حلب الدولي من جانب البحر المتوسط، ما أسفر عن خروج المطار عن الخدمة.
ويُجمع الطرفان الأمريكي والإسرائيلي على ضرورة مواجهة التحركات الإيرانية في منطقة الشمال السوري في مرحلة ما بعد زلزال 6 فبراير، خصوصًا وأن الاعتداء الإسرائيلي على مطار حلب، سبقه بأيام، تحركات إيرانية مكثفة في المنطقة تحت غطاء “نقل المساعدات”، حيث وصلت خلال الأيام الماضية أكثر من 14 طائرة إيرانية قالت وسائل إعلام سورية محلية إنها تحمل “مساعدات طبية وغذائية وإغاثية”، وهبطت في مطارات حلب ودمشق واللاذقية، في وقت أكدت فيه تقديرات أن مطار حلب تحول إلى وجهة آمنة لتهريب الأسلحة من قبل إيران خلال فترة نقل المساعدات لمتضرري الزلزال، ما يعني ضمنيًا أن العملية جاءت بضوء أخضر أمريكي وأن هناك توافقًا أمريكيًا إسرائيليًا حول ضرورة عدم تجاوز إيران لفائض قوة معين في سوريا، مستغلةً في ذلك ملف المساعدات من أجل تقوية نفوذها وتدعيم قواتها على الأراضي السورية.
2- جاءت زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية للشمال السوري في أعقاب زلزال 6 فبراير، وما صاحبه من تداعيات سلبية على المستوى الأمني، خصوصًا على مستوى سعي تنظيم داعش لتوظيف هذه التداعيات بما يخدم مساعيه الرامية إلى استعادة نفوذه ونشاطه في الجغرافيا السورية. وقد تعددت أنماط تعاطي التنظيم مع تداعيات الحادث، بين الترويج لسردياته المتطرفة في قراءته للزلزال، مرورًا بتعزيز المعدل العملياتي الخاص به، ووصولًا إلى السعي إلى تفعيل “استراتيجية كسر الأسوار” وتحرك بعض عناصره من أجل الفرار من السجون، مستغلًا في ذلك التداعيات الكارثية للزلزال وحالة الاضطراب التي سادت الأراضي السورية عقب الحادث، وقد أكد “ميلي” بشكل واضح على أن الزيارة تستهدف تنسيق جهود مكافحة تنظيم داعش، ما يعبر عن هواجس أمنية كبيرة لدى الولايات المتحدة بخصوص عودة نشاط التنظيم في الشمال السوري.
رسائل متعددة
حملت زيارة “ميلي” إلى الشمال السوري، العديد من الرسائل المهمة المباشرة والضمنية، التي تُعبر في مجملها عن مضمون الاستراتيجية الأمريكية في سوريا في المرحلة الراهنة، وذلك على النحو التالي:
1- أولوية التنسيق الأمني: تؤكد الزيارة وما انطوت عليه من تصريحات رسمية، على أن البعد الأمني يقع على رأس الملفات التي تُركز عليها الإدارة الأمريكية الحالية إزاء الملف السوري، خصوصًا على مستوى مواجهة التحركات الإيرانية التي تدفع باتجاه تعزيز حالة عدم الاستقرار، وكذا مواجهة التهديدات الإرهابية التي تنامت وتيرتها في الأشهر الأخيرة، وذلك مع تصاعد نشاط تنظيمات داعش والقاعدة، وتوجه بعض التنظيمات التي كانت تدور في فلك ورعاية تركيا (على غرار هيئة تحرير الشام) نحو تبني التصعيد العملياتي كرد على التوجه نحو تطبيع العلاقات التركية السورية.
وفي هذا السياق تعمل الولايات المتحدة على مواجهة هذه المهددات الأمنية عبر تبني مقاربة تقوم على آليات متنوعة، فمن جانب تُعطي الولايات المتحدة الضوء الأخضر للعمليات الإسرائيلية التي تستهدف العمق السوري، لضرب الحضور الإيراني وإضعاف حليف إيران متمثلًا في النظام السوري، ومن جانب آخر تُحافظ الولايات المتحدة على حيز تنسيق كبير مع القوات الموالية في مناطق الشمال وبالتحديد قوات سوريا الديمقراطية وبعض فصائل ما يُعرف بالجيش الحر، على أن يكون الدور الأمريكي ذا طابع إشرافي وتوجيهي واستشاري فضلًا عن الطبيعة الاستخباراتية، بالإضافة إلى استعمال بعض الأسلحة النوعية الخاصة والتي لا يمكن إتاحتها للوكلاء والحلفاء، خصوصًا مضادات الطائرات وأجهزة التشويش.
2- تعزيز التحالف مع الفصائل الموالية: حملت زيارة رئيس الأركان الأمريكي للشمال السوري وما نقلته بعض الوكالات من لقاءات جمعته بمسؤولين وقيادات في قوات سوريا الديمقراطية، تأكيدًا على مقاربة واشنطن القائمة على التحالف مع ودعم قوات سوريا الديمقراطية التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية، والتي تنتشر في مناطق ما يُعرف بـ “الإدارة الذاتية”، وهي رسالة ضمنية مناهضة لأنقرة وسياساتها في الشمال السوري، إذ تعتقد الولايات المتحدة أن التواجد العسكري الأمريكي في هذه المنطقة حتى وإن لم يكن بشكل مكثف، سوف يحول دون توجيه ضربات تركية إلى القوات الحليفة، أو على الأقل تقليل هذه الضربات.
فضلًا عن أن هذه التحركات الأمريكية تعبر عن رفض لسياسات “التتريك” التي تتبناها أنقرة في الشمال السوري، وهي السياسات التي بدأت في أغسطس 2016 مع العملية التي أطلقت عليها تركيا “درع الفرات”، واستهدفت بشكل رئيس فرض السيطرة على جزء من الشريط الحدودي بين البلدين، الممتد بين جرابلس في الشرق واعزاز من الغرب ومنطقة الباب إلى الجنوب، بما يضمن منع قوات سوريا الديمقراطية من ترسيخ مشروع حماية مناطقها المتمثلة بالشمال الشرقي السوري، ولعل الإدراك التركي لهذه الرسالة هو ما دفع أنقرة في السادس من مارس الجاري لاستدعاء السفير الأمريكي على أراضيها جيف فليك، والاحتجاج على الزيارة.
3- التأكيد على فاعلية الدور: يمثل الوجود الأمريكي المباشر على الأرض في الشمال السوري، وكذا الزيارات المتكررة للمسؤولين الأمريكيين للمنطقة، والتي كان آخرها زيارة “ميلي”، محاولة للتأكيد على فاعلية الدور الأمريكي في سوريا بشكل عام، فحتى وإن كان هذا الحضور رمزيًا إلى حد كبير (تُشير بعض التقارير إلى أن عدد القوات الأمريكية في سوريا يُقدر بالمئات أو يزيد على الألف)، إلا أنه يمثل إثباتًا للحضور، وتأكيدًا على محورية الدور الأمريكي في صياغة المعادلات الميدانية والسياسية الخاصة بالمشهد السوري، وموازنة لنفوذ القوى المنافسة في الساحة السورية.
4- ضمان حضور دائم في سوريا: كانت بعض التقديرات ومع بروز تنظيم داعش الإرهابي، وتشكيل التحالف الدولي لمحاربة التنظيم، ونشر وحدات أمريكية في سوريا، ترى أن هذا الحضور يرتبط بشكل رئيس بمحاربة داعش والقضاء عليه، لكن السنوات اللاحقة خصوصًا في مرحلة ما بعد الهزيمة العسكرية لداعش، أثبتت أن الولايات المتحدة تنظر إلى أبعد من ذلك، حيث كانت الرغبة الأمريكية أكثر استراتيجية، تستهدف التأسيس لحضور مستدام متعدد المهام في سوريا، وهو أمر يمكن تفسيره في ضوء بعض الاعتبارات، أولها، أن الحضور عبر بعض الوحدات العسكرية في سوريا يمنحها وجودًا مباشرًا في قلب المشهد السوري خصوصًا في ظل تحول الساحة السورية إلى مساحة تنافس جيوسياسي بين الفاعلين الدوليين، وثانيها، أن الحفاظ على التوازن النسبي لهذا التواجد يأتي في إطار سياسة خارجية تقليدية أمريكية متبعة منذ سنوات، تقوم على ضرورة الاحتفاظ بحضور عسكري دائم وملموس في كافة دول العالم، وثالثها، أن هذا الوجود في العمق السوري يعد أحد الركائز الأساسية للتواجد الفعال في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الختام، يمكن القول إن زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية مارك ميلي إلى سوريا، جاءت في إطار المقاربة الأمريكية للتعامل مع تداعيات ما بعد زلزال 6 فبراير الماضي، خصوصًا التداعيات الأمنية، فضلًا عن أنها تمثل تأكيدًا على الحضور الأمريكي الفعال في أي ترتيبات مستقبلية خاصة بالمشهد السوري.
.
رابط المصدر: