رؤية في أبعاد عالم انزواء القوة الأمريكية مقابل الصعود الصيني

داليا يسري

 

ربما تكون إشكالية العثور على جذور وباء كوفيد-19 قد توارت وراء اهتمام العالم بمتابعة أخبار الحرب الروسية الأوكرانية، غير أن ذلك لا يمنع الجزم بأنه مثلما شكلت لحظة اشتعال الحرب الجارية في فبراير 2022 نقطة تحول في مسار السياسة الدولية، فإن الوباء أيضًا منذ لحظات تفشيه الأولى في 2020 شكّل بدوره لحظة محورية أكثر دقة وأهمية من انطلاق شرارة الحرب بالنسبة للعالم أجمع.

بل من الجائز أيضًا الذهاب بالاحتمالات إلى مسافة تجعل من الوباء بحد ذاته نذير حرب برية كبيرة، وليس من الضروري أن يكون الحديث هُنا دائرًا عن الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ إنه من الأجدر القول إنه يتعداها إلى أبعاد واستنتاجات أخرى يستلزم الوقوف عليها المرور بمحطات متعددة، تبدأ من البحث في نشأة الوباء والاستدلال بالمعلومات المنشورة في هذا السياق بحثًا عن هوية اليد المسؤولة عن تفشيه، مرورًا بالاستراتيجية التي ربما تكون وقفت خلف الرغبة في نشر الوباء، والإجابة عن سؤال كيف سردت التنبؤات علامات انزواء القوة الأمريكية، وصولًا الإجابة عن سؤال كيف انعكس الوباء على تشكيل النظام العالمي الجديد؟

نشأة وباء كورونا

أوردت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، بتاريخ 26 فبراير 2023، أن وزارة الطاقة الأمريكية قدمت تقريرًا استخباراتيا سريًا للبيت الأبيض تضمن موقفها من أصول نشأة فيروس كورونا، وذكرت من خلال التقرير أن الفيروس ربما يكون قد نشأ نتيجة عن تسريب أحد المعامل في مدينة ووهان الصينية. تلا ذلك بوقت قصير، تصريح أصدره مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي “كريستوفر وراي” ذكر من خلاله أن وكالته ظنت لبعض الوقت أن الفيروس تسرب عن طريق الخطأ من أحد المعامل الصينية بدون ذكر أي دليل واضح يبرهن على ذلك.

ردًا على ذلك، صرح “ماو نينج”، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، 27 فبراير 2023، بأنه ينبغي على بعض الأطراف التوقف عن إعادة صياغة سرد رواية التسريبات المختبرية، والتوقف عن تشويه سمعة الصين، والتوقف عن تسييس تتبع أصول الفيروس. وأكد أن بلاده كانت دائما تُبدي تعاونًا ودعمًا لمهام تعقب أصول الفيروس. تلا ذلك أن عقد مجلس النواب الأمريكي في 8 مارس 2023 الجلسة الأولى من سلسلة جلسات الاستماع المخصصة لاستكشاف أصول نشأة كوفيد-19، وانتهت الجلسة إلى إقرار أعضاء اللجنة الفرعية المختارة بأن هناك فرضيتين حول نشأة الوباء إحداهما تذهب إلى إمكانية أن يكون تسرب عن طريق الخطأ عن معمل صيني. واختتمت الجلسة بأن اتفق الجميع على أنه لايزال لا يوجد هناك إجابات محددة حول أصول الوباء.

وبينما يدور الحديث عن النشأة المجهولة للفيروس سريع الانتشار، وإلى جانب أيضًا غرابة التوقيت الفاصل بين ما يصيبه من فترات يصل فيها إلى ذروة نشاطه يعقبها فترات أخرى تخفت فيها حدته، نجد أن هناك خلافًا بين العلماء البيولوجيين حول السبب وراء سرعة الطفرات التي شهدها الفيروس، والتي تعد بدورها شيئًا غريبًا! فمن جهته، قال عالم الأوبئة الذي يدرس تطور الأمراض المُعدية في “إمبريال كوليدج” بلندن” الدكتور “إريك فولز” إن الفيروس يتطور بسرعة، وإن ظهور متغيراته الجديدة كان مفاجئًا بعض الشيء. بينما علقت مجلة الاتحاد الأوروبي للبحوث والابتكار، 29 مارس 2021، أنه لا يزال غير معروف كيف ظهرت كل هذه المتغيرات. فيما قدر علماء آخرون أن طفرة واحدة للفيروس تحدث كل 11 يومًا، بينما ذهب آخرون إلى أنه وعلى خلاف الفيروسات الأخرى لا يمكن الجزم بشأن وتيرة تطور الفيروس.

وعند هذه النقطة، ينبغي البحث في احتمالات أن يكون الفيروس قد تم بالفعل تصنيعه في مختبر علمي وليس نتاج تطور طبيعي نشأ بالاحتكاك المباشر بين الحيوان والإنسان. وفي هذا السياق، نشرت صحيفة “دراج. تارجت. ريفيو“، 15 سبتمبر 2020، تقريرًا ناقش الإمكانية العلمية التي من الممكن على أساسها ترجيح فرضية أن يكون الفيروس مُخلقًا بشكل صناعي عن عمد. أوضح التقرير أن الفيروس المصمم بشكل صناعي ينبغي أن يحتوي على أجزاء من الحمض النووي تنتمي إلى فيروسات أخرى أقدم منه. وبالتالي، يصبح في مقدورنا الاستدلال –وفقًا لآراء العلماء- عما إذا كان فيروس كورونا مُخلقًا صناعيًا أم نتج عن تطور طبيعي من خلال فحص الفيروس والوصول إلى تسلسله الجيني. وفي هذا السياق، نجح علماء الفيروسات في الوصول إلى بنية الفيروس في خلال أسابيع من تفشيه، وتوصل العلماء من ذلك إلى أن العمود الفقري المكون للفيروس هو في الواقع جديد، غير أن هيكله ليس كذلك؛ إذ أن العلماء قد توصلوا إلى البنية الرئيسة للفيروس وقاموا بمقارنتها مع الهياكل الفيروسية الأخرى، ووجدوا أن أقرب الفيروسات المشابهة له هو فيروس ” ARS-CoV RaTG13″، والذي أظهر تشابهًا بنسبة 96% مع فيروس كورونا.

وفي بحث علمي آخر، نُشر بتاريخ 24 أكتوبر 2022، وجد أن الفيروس كان عبارة عن نتائج لتجميع جينوم اصطناعي بنسبة تفوق إمكانية أن يكون نتاج تطور طبيعي؛ إذ إن الفيروس يمتلك بصمة اصطناعية من غير المحتمل أن تكون عبارة عن نتاج لتطور أحد الفيروسات التاجية التي ينتمي الفيروس إلى أسرتها. ووضعت هذه الورقة احتمالات كبيرة لأن يكون الفيروس عبارة عن نسخة معدية من فيروسات أقدم منه تم تجميعها بالفعل في المختبر.

الرابح الأكبر من كورونا: ما تقوله حسابات المكسب والخسارة

في الأيام الأوائل من تفشي وباء كورونا العالمي، كانت جميع أصابع الاتهام تشير نحو الصين بوصفها بلد المنشأ الأول للفيروس من جهة، والبلد المُتبني لنمط احتكاك واسع النطاق بين الخفافيش والحيوانات البرية الغريبة والبشر من جهة أخرى. عززت من هذه الاتهامات شكاوى بعض الباحثين من أن الصين كانت بطيئة في التحرك المبكر للتحذير العالمي من الوباء بدرجة عززت من انتشاره العالمي.

علاوة على ذلك، عزز رفض “زينج يكسين”، نائب وزير الصحة الصيني، في عام 2021، لخطة منظمة الصحة العالمية مواصلة التحقيقات في احتماليات أن يكون خرق الصين لبرتوكولات المختبرات قد تسبب في تفشي الفيروس من هذه النظريات. من ناحية أخرى، تبادلت القوى الدولية الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة الاتهامات حول المسؤولية عن نشأة هذا الفيروس، وبدأت الاتهامات بين كل الأطراف تتخذ شكلًا مُسيسًا لا يخلو من نظريات مؤامرة. لكننا نستند، فيما يلي، كمحاولة للتعرف على هوية الطرف المستفيد من الفيروس وفقًا لحسابات المكسب والخسارة الناجمة عنه بعد مرور أكثر من عامين على تفشيه.

● في أوائل 2021 أي بعد مرور قرابة العام على بدء تفشي الفيروس، اتضح أن الاقتصاد الصيني وعلى عكس غالبية الاقتصادات العالمية لم يتراجع بفعل الوباء، بل تسبب الوباء في تعزيز حصة بكين من التجارة والاستثمار العالميين. ففي غضون ذلك، أعلنت الصين عن زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2,1% عن عام 2020. بشكل يجعل منها الاقتصاد الرئيس الوحيد في العالم الذي لم ينكمش خلال الأزمة، وفقًا لمسح اقتصادي أجرته “بلومبرج”. ترتب على ذلك أن أصبح من المتوقع للصين أن تسير في طريقها لتجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد على مستوى العالم في توقيت أسرع بعامين، أي بدلًا من 2030، في 2028.

● من ناحية أخرى، ورد في تقرير صندوق النقد الدولي السنوي عن آفاق الاقتصاد العالمي للعام 2020، أن الاقتصاد الصيني بات بالفعل أكبر من الاقتصاد الأمريكي بفارق نحو 3 تريليونات ونصف التريليون دولار خلال الثلاثة أرباع الأولى من العام. مما يجعل من العام 2020 بداية للعقد الزمني الأول الذي لن تمتلك فيه الولايات المتحدة الاقتصاد الأكبر حول العالم.

● الازدهار الاقتصادي الذي شهدته الصين عقب الجائحة يرجع إلى اكتشاف العالم، في هذه الأثناء، أن الصين تشغل دورًا يضعها في مرتبة ترقى لأن تُلقب بـ “المَصنع العالمي” للمنتجات الطبية والدوائية. فخلال الجائحة، قامت الصين بتصدير أقنعة الوجه، والمعدات الطبية، ومعدات العمل من المنزل، بشكل أثار انزعاج العديد من زعماء الغرب ولفت انتباههم إلى ضرورة الاتجاه لتصنيع المزيد من المواد الطبية في الداخل مثل الرئيس الفرنسي، “إيمانويل ماكرون”، الذي ردد بعد مرور عام واحد فقط على الجائحة الخطابات الأمريكية حول ضرورة الانفصال عن الصين. فيما لم تبتعد الولايات المتحدة عن نطاق الاعتمادية ذاته على الصين فيما يتعلق بالمنتجات الطبية؛ إذ إنه وفقًا لتقارير الحكومة الأمريكية لعام 2019، فإن هيمنة الصين على المنتجات الطبية كانت بالفعل آخذة في النمو، بشكل دفع الخبراء إلى نشر تحذيرات من المخاطر التي قد يتعرض لها النظام الصحي في الولايات المتحدة من جراء هذه الاعتمادية.

● أعلنت جامعة “جونز هوبكنز”، في يوليو 2021، أن وفيات الولايات المتحدة من وباء كورونا تجاوزت الـ 600 ألف شخص. ونوهت الجامعة إلى أن عدد القتلى، وصولًا إلى تلك اللحظة، يفوق عدد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا في الحربين العالمية الأولى والثانية مجتمعين. ويمثل هذا العدد حوالي 15% من إجمالي وفيات كورونا حول العالم، بشكل يضع الولايات المتحدة في مرتبة الصدارة من الدول الأكثر تضررًا من الفيروس. مع التنويه إلى تصريحات سبقت ذلك، صدرت عن الدكتور “أنتوني فاوتشي”، المستشار الصحي للبيت الأبيض، والذي شكك في مايو 2021 في الأرقام الرسمية لوفيات كورونا مؤكدًا أنها تفوق هذه الأعداد في الحقيقة بمراحل.

● ومن الجانب الاقتصادي، فقد ترتب على جائحة كورونا انكماش في الاقتصاد الأمريكي بنسبة 3,5% على مدار 2020. حيث تضرر الاقتصاد الأمريكي بشكل غير مسبوق منذ أكثر من 11 عامًا؛ وخسرت الولايات المتحدة خلال الأشهر الأولى من الجائحة نحو 22 مليون وظيفة، وانغمست البلاد في حالة من الركود الاقتصادي الضخم. بعد أن كان من المتوقع له تحقيق نمو، في 2020، بنحو 2% قبل ظهور الوباء وتأثيراته.

وبمجرد وصوله إلى السلطة، قدم الرئيس الأمريكي، “جو بايدن”، في بوادر العام 2021 خطة لدعم الاقتصاد الأمريكي بقيمة 1,9 تريليون دولار؛ وذلك لاحتواء تأثيرات الوباء. غير أن البلاد سرعان ما انهمكت في التأثيرات المالية لتكلفة الدعم الأمريكي المستمر والمتدفق لأوكرانيا والذي بلغت قيمته حتى الآن ما يفوق 3,75 مليارات دولار من المساعدات العسكرية فقط، وفقًا لبيان الخارجية الأمريكية بتاريخ 6 يناير 2023. حيث تتضمن هذه المساعدات سحبًا بقيمة 2,85 مليار دولار من مخازن وزارة الدفاع الأمريكية يتم تقديمها فورًا إلى أوكرانيا، و225 مليون دولار من التمويل العسكري الخارجي لبناء قدرة الجيش الأوكراني طويلة الأمد ودعم تحديثه. وفي تقدير آخر، نشر في يناير 2023، بلغت قيمة المساعدات الأمريكية لأوكرانيا 40,4 مليار دولار، يتم تخصيص أكثر من نصفها للنفقات العسكرية.

لماذا الصين؟

نجد بالنظر إلى ما تقدم أن الصين هي المستفيد الأول والفعلي من تفشي وباء كورونا حول العالم. مما يشير، بطبيعة الحال، إلى أنه بالاستدلال على هوية الفاعل في أي حدث من خلال التعرف على المستفيدين من وقوعه، نجد أن هناك احتمالات ضئيلة للغاية بشأن إمكانية ظهور الفيروس بطريقة طبيعية، بينما تتزايد الاحتمالات بشأن ضلوع الصين نفسها بوصفها أولًا وقبل أي شيء بلد المنبع في هذه الكارثة المُخلقة، سواء عن قصد أو من خلال اتباع فرضية تسرب الفيروس نتيجة وقوع خطأ معملي في “ووهان” الصينية.

عند هذه النقطة، يطرح سؤال نفسه، ما الذي قد يدفع الصين إلى اقتراف أمر كهذا؟ 

ردًا على ذلك، نعود أولًا إلى العام 2015، تحديدًا شهر يونيو، عندما نشر المكتب الإعلامي لمجلس الدولة الصيني الكتاب الأبيض التاسع حول الدفاع عن الصين بعنوان “الاستراتيجية العسكرية الصينية”؛ الكتاب الذي يتألف من قرابة الـ 9 آلاف صفحة ويبحث الموضوعات العسكرية الأكثر حساسية والتي تتعلق بالسياسة العسكرية والأمنية الصينية وتوجهاتها. ووفقًا لما تضمنه الكتاب فإن؛ “الصين لن تُهاجَم ما لم تُهاجِم، ولكنها ستشن بالتأكيد هجومًا مضادًا إذا ما تعرضت لهجوم”. علاوة على ذلك؛ “ينبغي على الصين السعي إلى أخذ زمام المبادرة الاستراتيجية في الصراع العسكري، والتخطيط للصراع العسكري على نحو استباقي في كل الاتجاهات والمجالات. واستخدام استراتيجيات وتكتيكات تضمن المرونة والتنقل، وإطلاق العنان للفاعلية الشاملة للعمليات المشتركة، والاستفادة المتكاملة من جميع الوسائل والأساليب العملياتية”.

وفي العام 2018، نشرت مجلة “ذا.ناشونال.انترست”، مقالًا حول الاستراتيجية الصينية التي وضعها القائد العسكري الأشهر في الصين، “صن تسو”، قبل قرابة الـ 2500 عام. ورأت المجلة أن الصين تتجه نحو العودة إلى استخدام نفس الاستراتيجية التي تعتمد في المقام الأول على إخضاع العدو دون المشاركة في المعركة كفن أسمى من فنون الحرب. وهو ما دفع خبراء ومحللين سياسيين إلى تفسير ذلك الأمر بأنه توجه الصين، “بدلًا من الاعتماد على قوة النيران والمعارك الحاسمة باستخدام وسائل التسلح، ستحاول الصين شل قدرة الخصم على شن حرب ضد هجمات دقيقة عبر البر والبحر والجو والفضاء والمجال السيبراني والكهرومغناطيسي والنفسي”.

ووفقًا لهم، فإن الصين ستركز أعمالها العسكرية على تعطيل الأنظمة الأمريكية لتحليل المعلومات ونقل أوامر القيادة مما يصيب عمليات الطيران والجيش والأسطول بالشلل والفوضوية. بشكل يجدر معه التذكرة بحقيقة رغبة الصين –التي لا رجعة فيها- في ضم تايوان، التي يحول دون تحقيقها حتى اللحظة وجود القوة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كانت الصين قد عدّت الولايات المتحدة عدوًا يحول دون قدرتها على الوصول إلى أحلامها، فإنها بهذه الطريقة قد تتجه بالفعل إلى هزيمة العدو باستخدام الذكاء وليس باستخدام القوة العسكرية المفرطة. وهو الشيء الذي من الممكن أن نقوم بقياسه على الوباء بصفته وسيلة أو أداة في معركة كُبرى بين طرفين، وقياسه أيضًا على هوية الرابح الأكبر من وباء كورونا، في مقابل التعرف على هوية الخاسر الأكبر منه.

زمن انزواء القوة الأمريكية

حمل عام 2023 أصواتًا كثيرة تتعالى من روسيا ثم الصين تارة، ومن دول أخرى متفرقة تارة أخرى، تُطالب بإنشاء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب قائم على المساواة في الحقوق والواجبات في مقابل انزواء عالم القطب الواحد برئاسة أمريكية. نجد أن هذا العالم –عالم ما بعد أمريكا- والذي تنذر الحرب الأوكرانية بانزوائه، هو عالم تحدث عنه الكثير من السياسيين والمحللين من قبل، مُنذرين بقرب حلوله على العالم، بشكل يسترعي معه الأمر إعادة التذكير بأبرز التنبؤات ذات الصلة.

ففي عام 2008، نشر الصحفي الأمريكي فريد زكريا كتابه الشهير بعنوان “عالم ما بعد أمريكا”، والذي كان يتحدث من خلاله شارحًا عن كيف ستزول القوة الأمريكية خلال المستقبل غير البعيد في مقابل صعود قوى دولية عظمى أخرى ستكون -وفقًا له- استمدت قوتها العظمى من منطلق قوتها الاقتصادية الكبرى. مثال على ذلك ما أورده “زكريا” في الفصل الرابع من كتابه الذي كان يُركز في الأساس على الصين التي أصبحت في ذلك الوقت ثاني أقوى دولة في العالم من حيث الاقتصاد، حيث امتدح الكاتب الاستراتيجية الصينية في تطبيق إصلاحات صغيرة وتدريجية سمحت لها بالتحديث الكامل والهادئ. وأثنى على سياسات الصين الخارجية غير القتالية والتي تحول دون قيامها بالتدخل في الدول الخارجية على الطريقة الغربية التي تقايض المال بالقيم الأمريكية التي تُفرض فرضًا على الغير.

وفي إبريل 2012، كتب “كريستوفر لاين”، كذلك عن عالم ما بعد أمريكا شارحًا كيف أن النظام الدولي المتطور هو عبارة عن شيء لا يمكن كبح كماحه، وأن هذه التطورات لابد وأن تؤدي إلى بزوغ نجم نظام عالمي جديد لن يكون في مقدور الولايات المتحدة مقاومته. ووفقا له، فإن حقيقة بداية النهاية للعصر الذهبي الأمريكي لم تكن خافية على قياداتها ومسؤوليها الذين في وقت كتابة المقال، حاولوا بالفعل إنكار الأمر. مثال على ذلك؛ عندما صرح، “باراك أوباما”، في 2012، بأن “أي شخص يخبركم أن أمريكا في حالة تدهور، لا يعرف ما الذي يتحدث عنه”.

لكن مع ذلك، يرى “لاين”، أن حقبة الهيمنة الأمريكية تقترب بالفعل من نهايتها بالتزامن مع تراجع قوتها وقدراتها على إدارة الاقتصاد والأمن العالمي. وبرهن “لاين” على رؤيته بأن هناك بالفعل دلالات عديدة تشير إلى حتمية صعود نظام عالمي جديد بديل عن النظام الحالي، وتلك تتمثل في الصعود الصيني السريع والمذهل الذي يقودها إلى الوصول إلى مرتبة القوة العظمى عسكريًا واقتصاديًا، بشكل يبرهن على قدرة الصين على تجاوز الولايات المتحدة واحتلال مرتبة أكبر اقتصاد في العالم خلال سنوات عديدة مقبلة من تاريخ كتابة المقال في 2012.

وبناء عليه، يرى الكاتب أن القوة الصينية الاقتصادية عندما تصبح الأكثر ثراءً حول العالم فهذا سيترتب عليه بالتأكيد توسعات أخرى في قدراتها العسكرية. علاوة على ذلك، شرح “لاين”، أنه يوجد هناك ارتباط حاسم بين المكانة العسكرية والاقتصادية لما يطلق عليها “قوة عظمى” من جهة، ومكانتها وقوتها الناعمة وقدراتها على وضع أجندة محددة من جهة أخرى. وعلى هذا الأساس، فإن قدرة الولايات المتحدة على تشكيل النظام الدولي من خلال التأثير والقدوة والسخاء تتآكل بالتدريج خاصة في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008 والركود العظيم الذي تلاها.

وبالنسبة للسمات الحاكمة لفترات التحول العالمي في الأنظمة الدولية، يعود الكاتب إلى فترات تحول عالمي سابقة ويستشهد بها مستدلًا من ذلك على أن فترات التحول العالمي من الممكن أن تكون فوضوية وغير متوقعة وطويلة ودموية كذلك. ويتوقع “لاين”، أن الصين ربما تحاول في طريقها للتنافس على النفوذ والسيادة في مناطق متفرقة من العالم عبر تغذية التوترات المتصاعدة بشكل ربما يؤدي إلى اندلاع حرب. لكنه توقع أن تقود المنافسة بين واشنطن وبكين على السيادة في شرق وجنوب شرق آسيا إلى إثارة توترات وأعمال عدائية على غرار تزكية الصراع الصيني الأمريكي على شبه جزيرة تايوان.

ويختتم الكاتب مقاله بالإشارة إلى أنه من المتوقع للولايات المتحدة، خلال العقدين المقبلين، مواجهة بعض الخيارات الصعبة التي ستضعها أمام بديلين من النتائج: ما هو سيء، وما هو أسوأ. وهو الشيء الذي سيمنح الولايات المتحدة خيارًا بما إذا كانت ستنحدر انحدارًا رشيقًا يحافظ على أكبر قدر ممكن من القوة والاستقرار العالمي، أو أن تتجه نحو انهيار سريع يقلل بشكل حاسم من تأثيراتها ودورها العالمي.

على كل حال، يقول “لاين”، أنه سيتعين على الولايات المتحدة التكيف مع النظام العالمي الجديد، وقبول حقيقة فقدانها بعض العناصر التي كان يراها الأمريكيون أمرًا مفروغًا منه بالنسبة لهم. وسيتعين على الولايات المتحدة أن تعيش في عصر التقشف وسط محدودية في الموارد الوطنية تحتم على الدولة أن تفعل المزيد في الداخل مقابل تقديم القليل في الخارج. بمعنى، أن تضطر الولايات المتحدة الاختيار بين الحفاظ على هيمنتها الخارجية أو إصلاح الاقتصاد الأمريكي والحفاظ على شبكة الأمان الاجتماعي في البلاد.

ونستخلص مما سبق، أن فكرة انزواء القوة الأمريكية كانت أمرًا مرئيًا ومطروحًا أمام المحللين منذ سنوات طويلة ممتدة. وهي فكرة بوجه عام ليست غريبة على الأوساط الدولية المعاصرة التي عاشت بالفعل زمن انزواء قوة المملكة البريطانية التي عاشت لسنوات بصفتها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. فضلًا عن أن الفكرة ليست غريبة كذلك على التاريخ الذي يعرف دارسوه وقارئوه على حد سواء كيف تؤول كل امبراطورية إلى زوال دائمًا في النهاية، مهما بلغت من قوة، ومهما طال عليها الأمد، ففي النهاية تؤول كل قوة دائمًا إلى زوال مقابل صعود قوة أخرى في المقابل.

نظرة تحليلية

نخلص بالنظر إلى ما تقدم إلى أن العالم الآن قد تجاوز بالفعل فترات التنبؤ بالانزواء الاقتصادي الأمريكي مقابل الصعود الصيني، وليس ثمة شك في أن الوباء قد أنعش من قدرات الصين الاقتصادية، بما يُعزز من صواب فرضية وضع الوباء في إطار تكوينه كسلاح بيولوجي في يد الرابح الأكبر من الوباء، ضد الخاسر الأكبر منه، والذي يكون مطلوبًا تركيعه اقتصاديًا تمهيدًا لتحجيم قوته العسكرية ثم السياسية بشكل ينتج عنه ظهور العالم الجديد بقيادة جديدة وقواعد دولية جديدة على النحو الذي سبق وأشارت إليه التنبؤات السالف ذكرها.

هُنا، ربما تطرح عدة تساؤلات، حول الوفيات المهولة التي سجلتها الصين نفسها من الوباء؟ وكيف من الممكن أن تكون هناك احتمالات متزايدة على تسبب الصين -سواء عن عمد أو عن طريق الخطأ- في الوباء وفي الوقت نفسه تُسجل هي نفسها معدلات وفيات أو إصابات عالية منه؟

ردًا على ذلك، يُعاد إلى الأذهان مقولة “ما يراه البعض مصائب، يرى فيه آخرون فوائد عظمى”. وما يمثل خسائر بشرية لا تعوض بالنسبة للتكوين الديموغرافي في دولة ذات شعب هجين مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو دولة تعاني بالفعل من نقص سكاني حاد يهدد أمنها القومي مثل الاتحاد الروسي، تجد فيه دولة مكتظة مثل الصين كانت تعاني بالفعل من الشيخوخة السكانية، وفي الوقت نفسه، يحمل أفرادها نسب خصوبة عالية تؤهلهم للإنجاب التعويضي بغزارة في غضون فترة زمنية قصيرة، فرصة سانحة، خاصة بعد أن جعل الوباء -الذي يحمل طابعًا انتقائيًا غريبًا لم يفسره العلماء حتى الآن- كبار السن والضعفاء بدنيًا بوجه عام وجهته الأولى والأكثر تضررًا منه؛ بتنفيذ مهام ذات طابع تنقية عرقية سكانية من خلال القضاء على العناصر الأضعف والإبقاء على الأكثر صحة.

مما ينتج عنه أن يقوم الأصحاء بطبيعة الحال بالإنجاب والتكاثر مرة أخرى، لكن هذه المرة ستتزايد نسب ولادة أطفال أصحاء تمامًا يكون في مقدرتهم خدمة العملية الإنتاجية للدولة على أكمل وجه في غضون سنوات من ولادتهم. وهذه الفرضية، يعززها، إعلان الصين في مايو 2021، السماح بولادة ثلاثة أطفال لكل عائلة وذلك بعد مرور ثلاثة أسابيع من نشر نتائج التعداد السكاني الذي كشف عن تراجع حاد في معدل الولادات مقابل تسارع في شيخوخة المجتمع بشكل يفوق المتوقع. حيث نقلت وسائل الإعلام الصينية وقتها عن رغبة لحوحة لدى القيادة الصينية في مواجهة مخاطر شيخوخة السكان.

نتجه الآن لإلقاء نظرة على الدور الصيني في الحرب الروسية الأوكرانية، هل هي مَع أم ضد روسيا؟ هل هي في الحقيقة تقف على الحياد أم لا؟ بادئ ذي بدء، لابد من التفرقة بين المواقف الدبلوماسية للدول وبين مواقفها الفعلية، إن هذا المبدأ نفسه لا ينبغي وأن ينطبق فقط على الصين بل على القوى الكبرى من العالم أجمع، بما في ذلك الولايات المتحدة في مجمل مواقفها على رأس القائمة. لكننا نختص بالذكر الآن الصين وموقفها الذي لا يُمكن اعتباره حيادًا ولا يمكن كذلك اعتباره معارضة لروسيا.

ويذكر في ذلك المبادرة الصينية للسلام التي قدمتها الصين أواخر فبراير 2023، والتي من الممكن بناءً عليها أن نتبين موقف الصين من الحرب. ومن منطلق خلو الوثيقة الصينية من أي بند يقتضي انسحاب روسيا، بالإضافة إلى توارد العديد من المعلومات حول قيام الصين بالفعل بتقديم دعم مباشر وملموس منها لروسيا في الحرب يساعدها على التهرب من العقوبات من جهة، ودعم عسكري آخر بمواد غير قاتلة تقوم الشركات العسكرية الصينية الحكومية بإرسالها إلى روسيا من جهة أخرى، بالإضافة إلى الاحتمالات المتزايدة حول إمكانية أن تقوم الصين بالفعل بإرسال مساعدات عسكرية قاتلة لروسيا في الحرب خلال وقت قريب.

كل ذلك جنبًا إلى جنب مع الدعم الاقتصادي الذي قدمته الصين لروسيا، سواء من خلال الشراكات الاقتصادية العميقة التي أقدم الجانبان على عقدها خلال فترة وجيزة قبل اندلاع الحرب في أوائل 2021، أو سواء الدعم الاقتصادي لروسيا في الحرب بوجه عام، والذي يلعب دورًا محوريًا في القدرات الروسية على مواصلة حرب طويلة الأمد؛ نخلص إلى أن الموقف الصيني من المؤكد غير حيادي، ومن المؤكد كذلك –رُغم كل التصريحات الدبلوماسية الصينية- أنه يأتي على هيئة مشاركة صينية في الحرب إلى جانب روسيا.

مما يقود إلى استنتاج بأن الوباء كان نذير حرب برية يهدف إلى إضعاف الموقف الاقتصادي الأمريكي، ومن ثم تأتي الحرب الروسية الأوكرانية التي تحصل فيها موسكو على دعم بكين، والتي ستكون كفيلة بقلب نظام الحكم العالمي بمجرد انتهائها لصالح روسيا، مما يجعل الطريق مفتوحًا أمام الصين لشن حربها البرية القادمة التي تريد من خلالها الحصول على هدفها الأسمى، تايوان.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/76071/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M