تأملات قرآنية من الآية الثانية عشرة من سورة فاطر

بهاء النجار

 

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

 

التأمل الأول :

إن إختلاف وجهات النظر والقناعات يفترض أن يكون أمراً طبيعياً بل ونافعاً ، المهم أن يكون مستنداً الى منبع واحد ، فكما أننا نرى قناعاتنا ووجهات نظرنا (والقناعات التي تقترب أو تطابق قناعاتنا) عذبة كالفرات ونرى قناعات غيرنا ووجهات نظره كالملح الأجاج ، فإن الآخرين يرون ذلك أيضاً ، وبالتالي علينا إحترامها من هذا الجانب وإلا فإن الآخرين سوف لن يحترموا قناعاتنا أيضاً .

وإذا وجدنا أراءاً مختلفة بعضها مُستساغ كالفرات والبعض الآخر غير مُستساغ كالملح الأجاج فعلينا أن نعلم أن من الصنفين يمكن إستخراج فوائد ودرر نستفيد منها ، لأن المختلف معنا في القناعة والرأي إنما ينظر من زاوية لا يمكننا رؤيتها ، وهذا فضل من الله تعالى ، وينبغي أن نشكره جلت آلاؤه على هذه النِعم .

 

التأمل الثاني :

عندما نستشعر الفضل الإلهي نشعر بقيمة وضرورة الشكر لله تعالى ، فمن أسباب تعدد النِعَم الإلهية هو تحفيز الناس على الشكر ، إذ أن الفضل يقرّب المتفضَّل عليه من المتفضِّل خاصة إذا كان إبتداءاً – كالفضل الإلهي – والشكر أيضاً يقرّب الشاكر من المشكور خاصة إذا كان المشكور يزيد الشاكرُ تفضلاً وفق قاعدة ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ، وعلى الإنسان أن يبتغي من فضل الله تعالى عسى أن يكون شاكراً له سبحانه ، فالابتغاء من فضل الله هو بمثابة الشُكر ، وهذا فضلٌ إلهي على شُكر الشاكر .

وهناك بشرٌ أصحاب فضل علينا ، تفضّلوا علينا بما فضّلهم الله علينا ، كالوالدين والمعلمين والعلماء وغيرهم ، وبالتالي لا بد من أن نشكر الله تعالى بشُكرهم وفق قاعدة ( من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق ) ، وأن نبتغي من فضل الله الذي آتاهم إياه لعلّنا نكون من الشاكرين .

 

التأمل الثالث :

إن المِحَن والظروف والبلاءات التي تشق تفاصيل حياتنا لا تؤثر على السنن الإلهية التي سنّها الله تعالى والشرائع التي شرّعها الباري عز وجل ، وهي كالسُفن التي تشق البحار لا تؤثر على سنّة الله التي تمنع اختلاط الماء العذب بالماء المالح ، وبالتالي فلا يظن أحدٌ أن قوانين السماء تتغير بتغير الظروف ، ولا داعي عندها للدعوات التي تحاول أن تغيّر التشريعات الإلهية لمجرد إختلاف العصور والدهور والظروف بعناوين الحداثة والعصرنة والمدنية  وغيرها ، فهذه المِحَن والظروف والبلاءات هي اختبارات لنا هل سنبقى على سنن الله وتشريعات السماء أم لا ؟ وباعتبار الدين والشريعة هي فضل من الله تعالى فعلينا الإبتغاء من فضل الله سبحانه بالبقاء على دين الله وشرعه ، وعلينا أن نشكر المنعم تبارك وتعالى على فضله المتمثل بالدين والشرع الحنيف .

 

التأمل الرابع :

إن إبتغاء الفضل الإلهي يمكن أن يكون بشكل مباشر من الله جلت آلاؤه ، وهذا يكون أيسر لمن تقرّب من الله سبحانه ، أما البعيدون والغافلون عن الله جل جلاله فيمكنهم إبتغاء الفضل ممن تخلّق بأخلاق الله وصار إنعكاساً لفضله سبحانه على الناس ، وهذه نعمة إلهية عظيمة على عوام الناس من أمثالنا تستحق شكر المنعم عز وجل الذي يتحقق من خلال شُكر أولئك القريبين والمقرَّبين وفق مبدأ ( من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق ) ، بل إن شُكر الخالق لا يتحقق من دون شُكر المخلوق المتفضل .

وفق ما تقدّم فإن إبتغاء الفضل الإلهي يمكن أن يكون من خلال أولياء الله باعتبارهم أكثر الناس فضلاً على الناس بل على الخلق أجمع ، لعلنا نشكر الباري جل شانه إن شكرنا أولياء الله على فضلهم .

 

التأمل الخامس :

أحياناً ينظر البعض الى النِعم نظرة تفاؤلية وكأنه ماءٌ عذبٌ ويعتبره فضلاً من الله تعالى فيشكره عليه ، وإلى البلاء نظرة تشاؤمية وكأنه ملحٌ أجاج فلا يشكره ، وهاتان النظرتان غير مستندتين الى أساس علمي ، فالنعمة يمكن أن تكون إبتلاءاً وإختباراً عندما لا ينجح فيه صاحب نعمة ، وبالتالي فالمفروض أن يحذر الإنسان من النِعم كحذره من البلاء ، ويمكن أن يكون البلاء فضلاً من الله سبحانه عندما يكون تكفيراً للسيئات ورفعاً للدرجات إذا تمكّن المبتلى من الصبر على ذلك البلاء .

فعلى المؤمن في كل الأحوال أن لا يشغله الرخاء أو البلاء عن ركوب سفينة النجاة التي يمكن صعودها بتسخير النعمة والبلاء في طاعة الله تعالى ، فعند النعمة يشكر وعند البلاء يصبر .

 

التأمل السادس:

كثيراً ما نسمع عن الفُلك أو السفُن في الأدبيات الإسلامية كالقرآن الكريم أو السنة المطهرة ، كما ورد في الدرر السنية ( إنَّما مَثَلُ أهلِ بيتي فيكم كمَثَلِ سفينةِ نوحٍ مَن ركِبها نجا ومَن تخلَّف عنها غرِق )  ، إذ تُستَخدَم للتعبير عن قدرتها على إنقاذ الناس – والمؤمنين خاصة – من أخطار الغرق في البحر ، سواء كان هذا البحر عذباً فراتاً سائغاً شرابه ( كالوقوع في فخ النِعم والاستسلام لمغرياتها ) أو مِلحاً أجاجاً ( كالرضوخ لضغوط البلاءات والفتن ) ، فكلاهما يحتويان على ما يغري ويجذب لإشباع رغبات النفس من مَأكل ( كاللحم الطري ) أو مَلبس ( كالحلي ) والتي قد يضعف البعض تجاهها فينشغل بها عن سفينة النجاة أو يكون في السفينة فيسقط عنها والعياذ بالله .

فلله الشكر على هذه الفُلك وسفن النجاة التي لم ينقطع زمانٌ منها وإلى يوم القيامة ، فهنيئاً لمن ابتغى من هذا الفضل الإلهي .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :

https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M