تأملات قرآنية من الآية الثانية من سورة فاطر

بهاء النجار

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

التأمل الأول :
أبواب الرحمة التي يفتحها الله جلت قدرته للمخلوقات عموماً وللناس خصوصاً كثيرة ومصاديقها أكثر ، فنفس الرحمة هناك رحمتان تُفتَح للناس ، الأولى خاصة وتكون لبعض عباده لما يتميزون به من مؤهلات روحية ونفسية ومستويات عالية من الكمال تمكنها من تلقي هذه الرحمة الخاصة التي لا يستفيد منها أصحاب المستويات المتدنية ، كالخشوع في الصلاة أو البكاء من خشية الله أو حب الخير وغيرها .
والرحمة الثانية التي تُفتَح للناس هي الرحمة العامة التي يستفيد منها الجميع ، ومصاديقها أكثر بكثير من مصاديق الرحمة الخاصة ، منها الهواء والماء والغذاء والرزق وغيرها من المصاديق التي لا تُغلَق إلا بأمر الله تعالى ، وإن أُغلِقَت فستُغلَق الحياة معها .

التأمل الثاني :
إذا أراد الله تعالى النصر لفئة فلا يمكن أن تُهزَم ، وإن أراد هزيمة فئة فلا يمكن أن تنتصر ، لأن النصر رحمة يفتحها الله سبحانه للناس ولا ممسك لها ، والهزيمة هي إمساك لهذه الرحمة .
وبما أن النصر الإلهي رحمة فليس بالضروري أن يكون عسكرياً ، لأن كثيراً من النصر العسكري يكون ظلماً ، والقوة العسكرية في أغلب الأحيان لا تدار بحكمة ، ويضعف من يملكها عن توجيهها في الاتجاه التي ترضي الله سبحانه ، وها نحن نعيش أيام كربلاء الحسين عليه السلام ، فقد حبس الله جلت قدرته النصر عنه عليه السلام وادّخر له النصر الحقيقي ، نصرَ القيم والمبادئ التي نقطف ثمارها بعد مئات السنين ، بينما النصر العسكري لأعدائه لم تدم ثماره إلا سنوات ، تلاحق المنتصرين لعنات الله وملائكته والمرسلين .

التأمل الثالث :
الأدعية ذات النفس القرآني أو التي تستقي مفرداتها وأفكارها من الثقافة القرآنية تكون أقرب للقلب وتدل على تجذُّر المعارف القرآنية في قلب صاحب الدعاء ، فدعاء الأمن مثلاً من الأدعية الواردة في الصحيفة السجادية الذي نجد فيه ترابطاً بين بعض فقراته والآية الكريمة محل التأمل ، كما في الفقرات ( فَلا مُصْدِرَ لِما اَوْرَدْتَ، وَلا صارِفَ لِما وَجَّهْتَ، وَلا فاتِحَ لِما اَغْلَقْتَ، وَلا مُغْلِقَ لِما فَتَحْتَ، وَلا مُيَسِّرَ لِما عَسَّرْتَ ) فإن أمسك الله تعالى رحمته وأغلق ابوابها فلا فاتح لها ، وإن فتحها فلا ممسك ولا غالق لها ، وتيسير الأمور الدينية والدنيوية باعتبارها من أشكال رحمة الله بخلقه فإن أمسكها جلّت قدرته فستتعسر تعسيراً لا تيسير بعهده إلا أن تقتضي الحكمة الإلهية فتح باب التيسير ، وهذه الحكمة نفسها هي التي جعلت الأمور تتعسر .

التأمل الرابع :
( يا فتاح ) من الأذكار المخصصة ليوم الأحد بحسب بعض المنقولات ، وهنا يمكن لمن يلهج لسانه بهذا الذكر المبارك إستحضار ما ورد في الآية محل التأمل ، بأن يفتح اللهُ تعالى له – وللناس جميعاً – أبواب الرحمة التي لا يمسكها إلا هو جلّ جلاله ، ويفتح طرق الخير وطرق الهداية للجميع ، بحيث تكون هذه الرحمة  التي فُتِحَت للناس – بكل مصاديقها – عزةً لهم وليست ذلة كالرزق الذي يُهان بسببه الإنسان مثلاً وما شابه ، وأن تكون الحكمة الإلهية هي المتحكمة في مقدار فتح تلك الرحمة ، فلا يضع في حساباته الفتح المطلق المخالف للحكمة اللامتناهية ، كأن يطلب النصر في وقت وظرف غير مناسب وفق الحكمة الإلهية ، لأن مثل هذا الفتح إن لم يكن مستحيلاً فهو صعب جداً جداً ، وكأنه يرفق صفة (الحكيم) الى جانب (الفتاح) .

التأمل الخامس :
بحسب سورة النصر فإننا نجد علاقة بين النصر والفتح ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ، فالنصر من مصاديق الفتح إذا أدى الى الفتح ، وذلك إذا ما توفّرت بعض المقدمات الأساسية :
1) أن يكون النصر عزة للمؤمنين ، سواء كان في الساحة الداخلية مع النفس الأمارة بالسوء أو مع العدو الخارجي الذي من علاماته دخول الناس في دين الله أفواجاً وليس الاستيلاء على السلطة وتحقيق المكاسب وكأنها غاية المنتصرين .
2) أن لا يخرج النصر عن الحكمة الإلهية الضامنة للفتح .
3) من الضروري أن يتمتع المؤمن ( قائداً كان أم تابعاً ) بالحكمة كي ينتصر ويحقق الفتح .
4) أن لا يبتعد المنتصرون – بعد تحقيق النصر – عن التمسك بالنهج السماوي عبر تسبيح الله عز وجل والاستغفار وما شابه .

التأمل السادس :
عندما يفتح الله جل جلاله للإنسان بعض الرحمات الخاصة فسيهتدي الى صراطه المستقيم بمقدار هذه الرحمات الخاصة ، وبهذه الهداية سيعزّ الله العزيز هذا المؤمن ليكون عزيزاً أيضاً ، فإن كان هذا الإنسان حكيماً سيدرك أن من مصلحته أن يبقى على هذه الهداية لأنها خير ورحمة خاصة إذا لمس الآثار المباركة لهذه الهداية ، كما أنه سيُدرك أن مَن هداه وأعزه بِهُداه هو حكيم إضافة الى أنه عزيز .

احمد ظاهر العطافي, [14/03/2023 10:00 م]
هذا على مستوى الهداية الداخلية ، أما الهداية الخارجية فتتضمن التعامل المنضبط مع المجتمع والتي من خلالها يمكن أن ينتقل الصالح (من خلال الهداية الداخلية ) الى مصلح ليصلح المجتمع ويهديه ويعزّه ويرفعه من ذل المعصية ، ولا بد أن يكون حكيماً حتى يكون مُتخلِقاً بأخلاق الله فيُعزّ بحكمة .

التأمل السابع :
من الحكمة أن يسعى الإنسان لنيل العزة ، بل هو أمر فطري ، فلا يوجد عاقل يرضى أن يكون مهاناً أو ذليلاً ، ولكن المشكلة أن مصاديق العزة والذلة والمهانة مختلفة عند البشر ، لذا لا بد من بيان الرؤيا الإسلامية لهذه المصاديق حتى لا يميل الناس الى الرؤى غير الإسلامية وينخدعون بها .
وبهذا الصدد علينا أن نعلم إبتداءاً ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) كما صرّح بذلك القرآن الكريم ، وبالتالي هو سبحانه من يفتح أبوابها – باعتبارها من مصاديق الرحمة – فإن أمسكها فلا معزّ لأحد من بعده ، فلا يبحث أحدنا عن عزةٍ من غير الله العزيز الذي لا يعزّ أحداً إلا بحكمة ، لأن العزة إن تمتع بها من لا يستحقها فسيكون ظالماً للآخرين .

التأمل الثامن :
لو استعرضنا صفتي ( العزيز الحكيم ) مجتمعتين في القرآن الكريم سنجد أنها تكررت كثيراً وأكثر من تكرار كل صفة لوحدها أو بمعية صفة أخرى ، فمثلاً نجد صفة ( العزيز ) مقترنة بصفة (العليم) أو (القوي) ولكنها لم تتكرر بمقدار تكرارها مع صفة ( الحكيم ) ، وكذلك صفة ( الحكيم ) نجدها مقترنة مع صفة (العليم) أو (الخبير) ولكنها لم تتكرر بمقدار تكرارها مع صفة ( العزيز )، وهذا التكرار يكشف عمق الترابط بين هاتين الصفتين ، فكل صفة تعزز الأخرى وتحكمها ، فالعزة تبدأ من الحكمة ، فلا يمكن أن يكون الإنسان عزيزاً ما لم يمتلك حكمة ، ولكن إذا طغت العزة على الحكمة فقد يتحول الأمر الى ظُلم ، أما إذا طغت الحكمة على العزة فسوف لن نستفيد من هذه الحكمة ، لذا لا بد أن تكون العزة مناسبة لمستوى الحكمة حتى تتمكن من فتح أبواب الرحمة على الآخرين كما يفتحها رب العالمين .

التأمل التاسع :
بعد أن عرفنا أن صفتي ( العزيز الحكيم ) مذكورتين مجتمعتين في القرآن الكريم أكثر من إجتماع إحداهما مع صفة أخرى ، فعلينا أن نعلم أن أكثر الصفات إقتراناً بكل صفة من هاتين الصفتين ( العزيز الحكيم ) على انفراد هي صفتا ( الخبير ) و ( العليم ) ، بينما نجد صفة القوي مذكورة مرة واحدة وذلك مع صفة ( العزيز ) فقط .
هذا يعطي انطباعاً بأن أن القوة عامل مهم في تحقيق العزة لكنها غير مهمة في تحقيق الحكمة ، بينما العلم الذي يُكسب الخبرة – بالنسبة لنا كبشر – عامل مهم في تحقيق العزة والحكمة معاً ، وبما أن العزة لوحدها من دون الحكمة يمكن أن تُنتِج ظلماً فإن العلم إذا تحكّم بالقوة سيثمر عن عزة بحكمة وبلا ظلم .

التأمل العاشر :
من أوجه إثبات أن العزة التي بلا حكمة لا يمكن إعتبارها عزة هو (إن العزة لله جميعاً) ومنها يحصل الخلق على العزة ليكونوا أعزاء فتكون النتيجة ( لله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ، وبما أن الله عز وجل هو العزيز وهو الحكيم ، وبحُكم الترابط بين صفتي (العزيز) و (الحكيم) والذي بينّاه سابقاً ، فإن من يكون عزيزاً وغير حكيم فسوف لن يكون عزيزاً في الواقع ، بل قد يكون ظالماً ، إما ظالم لنفسه أو لغيره ، بدليل أن العزيز يمكن أن يذوق عذاب الآخرة ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) ، فما فائدة العزة إن كان العزيز بها يُعذَّب يوم القيامة ؟! ولو أن هذا العزيز كان حكيماً وابتعد عن شهوات نفسه الأمارة بالسوء وعن كل ما ترفضه فطرته وعقله السَلِيمان لَفتح الله تعالى له من رحمته ولَمَا ذاق العذاب الأليم .

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M