بهاء النجار
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
التأمل الأول :
إن عواقب الضلال تكون على الإنسان نفسه لأنه هو مصدر الضلال ، بينما مصدر الهداية هو الله تعالى ، ومن الأدب النبوي الذي ينقله لنا القرآن الكريم والذي ينبغي على كل من ينتمي إلى هذا النبي العظيم أن يتحلى به أن الضلال يُنسَب الى الشخص نفسه ، وأما الهداية فتُنسب الى الرب جل وعلا الذي يبتدئ بالنِعِم قبل استحقاقها ، وأعظم هذه النِعِم الهداية ، فالخطوة الأولى من الهداية تبدأ دائماً من الله تعالى فيتقرب الباري عز وجل من الإنسان ويكون سميعاً له وما على الإنسان إلا أن يستثمر هذه المبادرة الكريمة ويطلب منه التوفيق للهداية ، أما إذا أهمل هذا القرب وهذا الكرم فسيضل ، لذلك فإن الضلال يُنسب إليه ، ولا يُنسب إلى الرب الذي يرعانا والسميع والقريب منا والذي لا يمكن أن يبدأ بخطوة الإضلال .
التأمل الثاني :
أُمِرنا أن نتخلق بأخلاق الله تعالى ، فمثلاً نكون سميعين لهموم الآخرين ومشاكلهم محاولين حلها ، وقريبين منهم جسداً وروحاً حتى تتعمق علاقتنا الاجتماعية بهم ، ومن كان رباً لأسرةٍ أو رباً لعملٍ فإن التخلق بهاتين الصفتين ( قريب وسميع ) أَولى لأنها تساعدهما في النجاح في التعامل مع مربوبيهم من أبناء وزوجة ( بالنسبة لرب الأسرة ) وعمّال وموظفين ( بالنسبة لرب العمل ) .
ولأهمية هاتين الصفتين الاجتماعيتين يركّز عليها مدربو التنمية البشرية لتطوير علاقات الفرد مع أبناء مجتمعه وجذبهم نحوه ، وربما أكثر الأشخاص احتياجاً لهاتين الصفتين لجذب الناس إليه وتعلقهم به هو القائد أو القيادي أو الشخص الرسالي الذي يتأسى بخطى المرسلين .
التأمل الثالث :
النفس مصدر الضلال وهي من تتحمل تبعات الضلال دنيوياً وأخروياً ، وما يؤكد ذلك الحديث الشريف ( أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ) فلا عداوة كعداوة المضلين ، بينما مصدر الهداية هو الوحي ، فالبشرية بلا وحي لا يمكنها أن تهتدي لأنه هو المعلّم والمرشد والواسطة بين السماء والأرض ، والمستفيد الأول والأوحد من هذه الهداية هي النفس التي كانت مصدراً للضلال ، فإن تلقّت شيئاً من الهداية ستصبح مصدراً للهداية بدرجة ما تلقته ، فإذا تلقت كفايتها من الهداية فستصبح هذه النفس مصدراً كافياً للهداية .
عندها يمكن فهم قوله تعالى : ( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) والآيات المشابهة وذات مضمون مماثل ، لأن الحسنة ثمرة من ثمرات الهداية والسيئة ثمرة من ثمرات الضلال .
التأمل الرابع :
إن الله تعالى لم يحصر وحيه على النبيين والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه ، فقد أوحى الى أم موسى عليه السلام بل وأوحى الى النحل ، وبالتالي فإن الله سبحانه يوحي الى عباده من البشر وغير البشر بحسب حكمته جل وعلا ، فأحياناً تقتضي الحكمة الإلهية أن يرسل شخصاً بمهمة لهداية أناس مُعيَّنين ، فالأنبياء يعلمون أنهم مُرسَلون من ربهم ، أما غير الأنبياء فلا يعلمون ذلك ومع هذا يمكن أن يكونوا مُرسلَين من حيث المعنى اللغوي لا الإصطلاحي ، وهذا الشخص إن ضلّ فإنما يضل على نفسه ، لكنه يهتدي ويهدي الآخرين من خلال الرسالة التي أوحاها الله عز وجل إليه من حيث لا يشعر .
وهذا يؤكد ما ذكرناه مرات عديدة أن كلمة (الرسول) يمكن أن يكون مصداقها الكثيرون بما فيهم الحيوانات فضلاً عن الآدميين إلا أن تكون قرينة ثتبت عدم ذلك .
التأمل الخامس :
إن انعكاسات الضلال على النفس الضالة تتضح في الدنيا قبل الآخرة ، ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) ، وكل إنسان وبحسب مستواه الإيماني وقربه من الله تعالى يشعر بالضلال الذي يناسب مستواه ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) ، وما يشعر به أصحاب الكمالات العالية من مستويات دقيقة من الضلال لا يشعر بها من هم دونهم ، فيستغرب مَن هو أدنى مِن استغفار مَن هو أعلى .
فالمهتدون يتعكر صفو أرواحهم النظيفة الطاهرة فيلجأون الى الاستغفار والتوبة والعودة الى الصراط المستقيم ويطلبون الهداية من ربهم القريب منهم الذي يسمع نجواهم ويغفر لهم ( اهدنا الصراط المستقيم ) فيهديهم .
التأمل السادس :
الضلال والهداية نقيضان ، فمن أراد الهداية ابتعد عن الضلال والعكس بالعكس ، والمؤمنون يومياً يعبدون ربهم ويستعينون به ويدعونه ويطلبون منه الهداية الى الصراط المستقيم صراط المهتدين الذين أنعم الله تعالى عليهم من غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، هؤلاء المهتدون الذين يسعى المؤمنون للاهتداء بهديهم والاقتداء بهم هُم ممن يوحي إليهم رب العالمين الرحمن الرحيم ، سميعٌ لهم قريبٌ منهم يعصمهم ويسددهم خطاهم ، ولولا هذا الوحي والتسديد والعصمة لأصبحوا من المعرّضين للضلال إن لم يكونوا من المغضوب عليهم والضالين ، ولا يمكنهم حينها أن يكونوا أسوة وقدوة للمؤمنين ولا رمزاً ومصدراً للهداية .
التأمل السابع :
عندما يكون انعكاس الضلال على النفس البشرية مهما علا شأنها فهذا يعني أن الله تعالى لا يضره ضلال الضالين لأنه غنيٌ عن العالمين – الضالين والمهتدين – ورغم غناه جل شأنه فإنه سميع قريب من الجميع ، وإن كان الضالون لا يشعرون بهذا السمع والقُرب ولا يستفيدون منها كما يشعر بها المهتدون فيستفيدون منها ، وهذه هي الهداية الحقيقية ، وكلما كان الشعور بهاتين الصفتين أكبر كلما كانت الاستفادة أكبر حتى تصل الى نزول الوحي على أولئك المهتدين .
فمن يُوحى إليه يجب أن يكون من أكثر الناس استفادة من نعمتي السمع والقُرب الإلهيَين كي يستطيع أن يعكس هذه الفائدة على الناس فيهديهم بهدي الوحي .
التأمل الثامن :
حب النفس أمرٌ فطري أودعه الله لدى الإنسان لينقذها من الجهالة وحيرة الضلالة ، إذ لا يوجد إنسان سوي لا يحب الخير لنفسه ، ومن مصاديق هذا الخير الهداية ، أما الضالون فللخير عندهم مصاديق خاطئة ، فيتصورون مثلاً أن تلبية رغبات النفس هو خير لها ، فيُلبّون رغباتها بأي شكل من الأشكال ، حتى لو كان من طريق حرّمه الوحي ، حتى يصل الأمر بهم الى تلبية رغبات أنفسهم بطرق تخالف حتى الفطرة ، كما يحدث عند المثليين – أجلّ الله القارئ – .
فاحترام النفس أرفع وأسمى من حب النفس وهو ضمان من الضلال ، فنترك كل فعل يقلل من قيمتها ، حتى لو كان محللاً في أصله كالنوم الزائد والأكل الزائد والكلام الزائد وغيره ، فلو التزمنا بذلك سنتجنب كل أمر محرم يضلها ، فضلاً عن الأمور المخالفة الفطرة .
التأمل التاسع :
إذا أردنا المقارنة بين الضال والمضل فالضال هو الذي ينعكس ضلاله على نفسه فقط ، أما المضل فهو من يضل غيره ، وقد يضل فرداً واحداً وربما جماعات بل وحتى مجتمعات ولأجيال ، ومما لا شك فيه أن الثاني أخطر من الأول ، وإن كان في الحقيقة أنه لا يوجد ضال إلا وأن يكون مضلاً ولكن بدرجة قد لا تبدو واضحة له ولغيره ، فهو يضل الآخرين بضلاله ولكن بشكل ربما غير مباشر أو غير مقصود أو غير محسوس يمكن تجاهله .
والقائد إن لم يكن معصوماً فهو ضالٌ ، ولكن درجة ضلاله مرة تكون عالية وعندها سيكون مضلاً بلا شك ، ومرة تكون منخفضة فيكون إضلاله للآخرين منخفضاً أيضاً خاصة إذا كان من المهتدين بالوحي والمعصومين ويحجزه عن الإضلال القربُ الإلهي منه .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views