تأملات قرآنية من الآية الرابعة عشرة من سورة سبأ

بهاء النجار

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

التأمل الأول :
إن العلم بالغيب من موانع العذاب المهين ، سواء كان ذلك العذاب المهين في الدنيا أم في الآخرة ، وأن هذا العلم منحصر بالله تعالى ، أما غيره – كائناً من كان – فلا يمكنه الإحاطة بهذا العلم إلا بإذن الله تعالى الذي شاءت حكمته ولطفه أن لا يعطيه إلا بمقدار يمكّن المخلوقات وقاية وحماية أنفسهم والآخرين ، وكل إنسان يعلم جزءاً من هذا العلم بشكل مباشر أم غير مباشر ، فكثير منا يعلم أن وجود مادة قابلة للاشتعال (كالورق) مع نار وأوكسجين سيؤدي الى احتراقها ، وهذا علم جزئي بالغيب غير مباشر يمكننا من تجنب المخاطر ، ومن يمتلك مثل هذه المعلومة يمكن أن لا يتعرض الى خطر وعذاب مهين .

التأمل الثاني :
من الأمور الغيبية التي يعلمها المؤمنون دون غيرهم هو العلم بالآخرة وما يحدث فيها وعند الموت وفي البرزخ ، وهذا العلم جعلهم يعملون الصالحات ويتجنبون المعاصي والآثام مما حماهم وحفظهم وأبعدهم عن العذاب المهين ، ويتفاوت المؤمنون بينهم في علمهم بالآخرة ، وبحسب مستوى علمهم هذا يكون عملهم ، فالمتقون علمهم بالغيب كبير إذا ما قورن بمن دونهم من الذين يتهاونون في ارتكاب المعاصي وعمل الواجبات .
وفي الوقت نفسه فإن هذا العلم اكتسابي اكتُسِبَ ممن لهم علمٌ لدُنّي ( وعلمناه من لدنّا علماً ) وهم أولياء الله الذين عصمهم الله تعالى بعصمته ليكونوا مؤهلين لتلقي هذا العلم ، وعليه فهم ليسوا فقط بعيدين عن العذاب المهين بل يُبعِدونَه عن مَن تلقّى منهم علماً .

التأمل الثالث :
أحياناً يتصور البعض أنهم ذو شأنٍ عظيم ويمتلكون قدرات كبيرة ولا يمكن لأحد أن يقهرهم فيسلّط الله تعالى عليهم عبداً من عباده فيذلهم ويسخرهم لخدمة الحق رغم أنوفهم وهو كرهاً لهم ، بل والأقسى من ذلك أن من يدلّهم على زوال القوة التي أذلتهم هي حشرة صغيرة لا قيمة لها عند الكثيرين ، ومن باب أولى فهي بلا قيمة عند هؤلاء المتكبرين .
فأي محفز ومبرر للتكبر هو وهمي ، فالجنّ ربما أولى بالتكبر لامتلاكهم قدرات خارقة تفوق تصور الإنسان ، ومع هذا كان أمرهم بيد لله سبحانه وأوليائه ولم يكن بأيديهم ، وقد جاء في الحديث القدسي : ( الكبرياء ردائي من نازعني عليه أدخلته النار ولا أبالي ) ، نستجير بالله .

التأمل الرابع :
إن القرآن الكريم يعاضد بعضه بعضاً ، فَعِلمُ الغيب – الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ومن علّمه هذا العلم – عامل مهم في استكثار الخير ومنع السوء والعذاب المهين ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) ، فبمقدار ما نعلمه من الغيب يمكن استكثار الخير ومنع السوء ، وهذا لا يعني العكس ، فاستكثار الخير ومنع السوء لا يتوقف على العلم بالغيب وإنما له طرق أخرى كثيرة .
فسليمان عليه السلام كان عنده علم ببعض الغيبيات فاستطاع استكثار الخير حتى سيطر على الهواء والماء والجن فضلاً عن بني البشر ، بينما الجن ورغم قدراتهم الخارقة فلم يكن عندهم علمٌ بالغيب تمكّنهم من استكثار الخير ولا منع السوء حتى لبثوا في العذاب المهين .

التأمل الخامس :
لو استطلعنا النظريات الفكرية البشرية المطروحة لوجدنا أنها تتناول فكرة الدولة العادلة والحكم الرشيد الذي ينبغي أن يسود العالم ، وهذا يدل على الحاجة الفطرية لإقامة نظام عالمي عادل يحكم الأرض ، ولكننا سوف لن نجد هذه النظريات تتناول دخول الجنّ ضمن سيطرة هذه الدولة العادلة ، بحيث يكون الجنُّ جنوداً وموظفين فيها ، ومن يخرج عن نظام هذه الدولة وقوانينها فسيُجبَر قسراً على العمل لصالح هذه الدولة حتى وإن كان يرى أن هذا العمل عذاباً مُهيناً .
وشمول الجن بحكم الدولة العالمية العادلة التي تحكمها السماء سواء التي كانت في الماضي أم التي في المستقبل يثبت عمق العدالة التي تحملها وتتبناها هذه الدولة المباركة .

التأمل السادس :
إن المؤمنين يشعرون بالراحة والسعادة والطمأنينة عندما ينفذون أوامر قائدهم الشرعي الذي يرونه أكثر القادة تمثيلاً لإرادة السماء ، خاصة إذا كان نبياً أو وصي نبي ، حتى لو كانت هذه الأوامر مُتعِبة جسدياً ، لأنهم يشعرون بأن هذه الطاعة لقائدهم هي طاعة لله سبحانه ، بحيث لا يؤثر على نواياهم موت قائدهم ، إذ تبقى نواياهم خالصة لله تعالى ، ولا فرق بين الإنس والجن من هذه الناحية ما داموا مؤمنين .
أما من ينفّذ تلك الأوامر من دون الاعتقاد بأن من أصدر تلك الأوامر مفترض الطاعة فسيشعر بالعذاب المهين عند تنفيذها ، وهذا يشمل حتى المؤمنين عندما يتأمر عليهم من لا تجب طاعته شرعاً .

التأمل السابع :
لو حللنا الآية الكريمة نحوياً ولغوياً سنجد مفعولين للفعل ( قضينا ) ، أحدهما نحوياً وهو الموت كما أشار الى ذلك النحويون ، والآخر لغوياً وهو سليمان عليه السلام باعتباره هو المقضي عليه واقعاً وليس الموت ، وعادة في اللغة العربية نستفيد من المعنى اللغوي لفهم الحالات الإعرابية ، والعكس صحيح أيضاً ، فمعرفة الحالات الإعرابية تساعدنا في فِهمِ المعنى اللغوي ، أما اختلاف المفعولين فيحتاج الى دراسة وتحليل لنستفيد بشكل أمثل ، فعلى سبيل المثال قد يعطينا هذا الاختلاف معنىً بِبُعدين ، وهو أن القضاء على الناس يكون بالموت ، أو أن الموت هو دلالة وعلامة للقضاء على الناس ، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن لكل متذوق قرآني أن يستنتج بعضها بعد توفيق الله عز وجل .

التأمل الثامن :
يُنقَل أن بعد حادثة موت النبي سليمان عليه السلام وبقاء الجنّ في العمل الذي يُعدّ عذاباً مهيناً بالنسبة لهم وعدم معرفتهم بموته سلام الله عليه سقطت كثير من الاعتبارات تجاه الجن ، فإذ كان البعض يؤلّه الجنّ ويعبده باعتباره يمتلك قدرات خارقة – ومنها علم الغيب – أصبحت سمعة الجن في الحضيض أفقدتهم هذه المكانة المقدسة .
وبعد الإفراط في التعامل مع الجن الذي أوصلهم الى التأليه جاء التفريط ليحلّ محله ، إذ أهمل الكثيرون – ومنهم المؤمنون – مكانة المؤمنين من الجن ، حتى أصبحت هناك نظرة شبه عامة بأن الجن جميعهم منبوذون ، مع إنّ مِن الجنّ مَن هو أفضل من الإنس إيماناً .

* مشاركتها ثواب لنا ولكم

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M