تأملات قرآنية من الآية السادسة عشرة والسابعة عشرة من سورة فاطر

بهاء النجار

 

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)

 

التأمل الأول :

تُرى لو أن العلاقة التي تربطنا بالله سبحانه قوية ومتينة فهل سيشاء الله تعالى إذهابنا والإتيان بخلق جديد ؟ وهل سيكون ذلك عليه عزيزاً أم لا ؟

إن الله تعالى بكل تأكيد لا يشاء إذهاب قومٍ اهتموا بعلاقتهم معه وطوروها وحسّنوها ، لأن ذلك عليه عزيز ، لأن مثل هؤلاء ساروا على النهج الذي يحقق الغاية من الخليقة وهي العبادة ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) التي تمثل أعلى درجات العلاقة بين العبد وربه .

ومن المؤسف والمحزن أن يكون إذهابنا ليس بعزيز على الله جل جلاله ، لأننا سبب ذلك ، إذ لم نقدّر التشريف الذي شرّفنا به الله سبحانه إذ جعلنا خلفاءه في الأرض ، والأَمَرُّ من ذلك أن هذا التشريف يُعطى لخلق جديد ، وهذا هو الخسران المبين .

 

التأمل الثاني :

على أصحاب المؤسسات المتلكئة ( تجارية كانت كالشركات أو اجتماعية أو ثقافية أو إنسانية أو غيرها ) بسبب ملاكاتها وكوادرها البشرية أن يعلموا أن القضاء على تلكؤ المؤسسة وجعلها مؤسسة ناجحة متقدمة هو أمر في غاية الأهمية ، وتحقيقه أمر ضروري لا يمكن التغافل عنه أو إسقاطه أو التنازل عنه ، وما دام وجود المؤسسة أمراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه فيجب السعي لإنجاح المؤسسة بأي طريقة متاحة ، كأن يبدأ المسؤول على المؤسسة بإصلاح التلكؤ لدى العاملين فيها وتوجيههم وبيان مواطن الخلل عندهم ومعالجتها والعمل على رفع مستوياتهم العلمية والعملية بما يناسب تخصصهم في المؤسسة .

فإن لم ينفع معهم ذلك فليكن تغيير كوادر البشرية للمؤسسة أحد الحلول – وليكن آخرها – والمجيء بكوادر جديدة أصحاب كفاءة ونشاط وحيوية وقدرة على الدفع بالمؤسسة خطوات الى الأمام .

 

التأمل الثالث :

إن استبدال قومٍ مكان قوم آخرين أمرٌ تناوله القرآن في سورة محمد صلى الله عليه وآله ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم ) ، والاستبدال هو إذهاب قوم والإتيان بقوم آخرين ( أو خلق جديد ) ، وقد بيّنت الآية المباركة أن سبب هذا الاستبدال هو التولي عن ما أمر الله تعالى به ، ويكون الاستبدال بحسب التولي ، أما القوم الذين ( إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) فسوف ينجون من ذلك الاستبدال ، أو يُستَبدَلوا مكان القوم الذين تولوا عن أمر الله سبحانه ، وهذا على الله سهل يسير ، كما يحدث ذلك في المؤسسات الناجحة ، إذ يتم استبدال الشخص غير الكفوء وغير النزيه بشخص كفوء ونزيه ، وهذا بمثابة التكريم ، تكريم للشخص نفسه ، وتكريم لصفتي الكفاءة والنزاهة ، وتكريم لمبدأ ( الشخص المناسب في المكان المناسب ) .

 

التأمل الرابع :

لو أن الاستبدال سيكون بقوم آخرين كما في الآية ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم ) لهان أمر الاستبدال ، رغم عظمه وخطورته باعتباره يكشف عن سخط وغضب الله جلت قدرته – نستجير بالله – إلا أن الأمر أعظم من ذلك إن كان الاستبدال بخلق جديد يختلف عن الإنسان كمخلوق ، فالإنسان خليفة الله في الأرض بشروط وليس الأمر مطلقاً ، وأن الله تعالى – بحسب بعض الأحاديث القدسية – خلق كل شيء لأجل الإنسان لأنه خلق الإنسان لأجله جل وعلا ، فإن لم يستثمر تلك المكانة سيكون مرفوضاً عند الله سبحانه ، بل وقد يصل الأمر الى استبداله بخلق جديد يكون خليفة خالقه في الأرض ، فهل استوعب الإنسان هذا المصير الخطير ؟! هل هو مستعد أن يكون مقامه من الخلق الجديد مقام الحيوانات منه الآن وربما أسوأ ؟! إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً .

 

التأمل الخامس :

إن أولياء الله يدركون خطورة معصية الله عز وجل والابتعاد عن صراطه ، ليس فقط المعصية والانحراف على المستوى الشخصي بل أيضاً خطورة معصية الآخرين وانحرافهم ، خاصة على المستوى العقائدي ، وما الإتيان بخلق جديد كبديل عن المنحرفين عقائدياً وسلوكياً وأخلاقياً إلا أحد نتائج الانحرافات المرتكبة ، وبالتالي فلا يقرّ لأولياء الله قرار حتى يهتدي أغلب من يستطيعون هدايتهم احترازاً من حدوث ذلك الاستبدال ، بمعنى أنهم لا يفكرون بإصلاح أنفسهم فقط بل يتعدون ذلك لإصلاح الآخرين ، على الأقل لإنقاذ الجميع من هذه النهاية الكارثية ، ومن باب ( اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، وبعبارة أوضح : أن ما يُنجي الناس من الاستبدال بخلق جديد هو فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذه الفريضة الإصلاحية .

 

التأمل السادس:

إن الاستبدال والإذهاب بقومٍ والإتيان بخلق جديد أو قوم آخرين ليس بالضرورة أن يكون جذرياً بحيث يُمسَخُ القوم المراد استبدالهم أو يهلكوا ويؤتى بقوم أو خلق جديد كما حدث مع قوم نوح عليه السلام ، فقد يكون هذا الاستبدال جزئياً وعلى مستوى ضيق ، فمثلاً يقصّر البعض في المسؤولية ( سواء كانت المسؤولية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو غيرها ) بسبب إنشغالهم بالامتيازات وترك الواجبات الملقاة على عاتقهم ، فيُذهِب الله سبحانه بهؤلاء ويأتي بقوم آخرين وكأنهم خلق جديد بسبب سلوكياتهم الجديدة مطبقين لمبدأ ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) ، فيرون تمكينهم تكليفاً وليس تشريفاً ، لذا يحوّلون هذه المسؤولية الى عمل ذي آثار على الواقع .

 

التأمل السابع:

عند تصفح القرآن الكريم نجده مهتماً إهتماماً كبيراً بموضوع إذهاب قومٍ والإتيان بقومٍ آخرين ، فأحياناً نرى آيات كريمة تشير الى هذا الإذهاب والإتيان بشكل غير مباشر ووصفته بالاستبدال كما في الآية المباركة : ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم )، وأحياناً تستخدم نفس الألفاظ كما في قوله تعالى : ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ? وَكَانَ اللَّهُ عَلَى? ذَ?لِكَ قَدِيرًا ) بل نجد حتى موضوع القدرة الإلهية على ذلك الاستبدال ، فالله تعالى على ذلك الاستبدال قدير لذا فإن ذلك الاستبدال (الإذهاب والإتيان) ليس بعزيز عليه جل جلاله .

لذا لا بد أن يهتمّ المؤمنون المثقفون بالثقافة القرآنية بهذا الموضوع وأن يضعوه موضع الاهتمام ، وأن لا يغيب عنهم أبداً ، لأنهم أولى بتطبيقه من غيرهم .

 

التأمل الثامن:

من الضروري – كمؤمنين – أن نكون جادّين في معرفة رب العالمين وأن رحمانيَّة الرحمن لا تعني أن يُبقيَ على المغضوب عليهم والضالين ، وأن رحيميَّة الرحيم هي التي وُفِّقَ بها الخلق الجديد ليحلوا محل المستَبدَلِين ، وأن نعبد الله جل وعلا عبادة حقيقية ونستعين به ليهدينا الصراط المستقيم الذي أنعمه على الدالّين على الوسائل المنجية من سنّة الاستبدال والتي تُخلِّصُنا من مصير الإذهاب . فالإذهاب بقومٍ والإتيان بقوم آخرين يبدو أنه دالٌّ على أن المستَبدَلِين هم قوم مغضوب عليهم وضالون ، فوجود قومٍ بهذه المواصفات يكون تأثيره سلبياً على البشرية عموماً ، وبالتالي لا بد من استئصالهم وسد فراغهم بقومٍ غير ملوثين بالذنوب الناتجة عن الضلال والمسببة للغضب الإلهي .

 

التأمل التاسع:

يُقال أن في آخر الزمان سيأتي مهدي هذه الأمة عليه السلام بدينٍ جديد ، وفي الحقيقة أنه سيأتي بدين جده محمد صلى الله عليه وآله خاتم الأنبياء والمرسلين باعتباره خاتم الأديان ، وسيحكم بهذا القرآن الذي بين أيدينا ، إلا أن ابتعاد الناس عن الشريعة الإسلامية والقرآن الكريم يشعرهم بأن ما يأتي به الإمام المهدي عليه السلام دينٌ جديد .

وفق هذا الفهم ، فإن الخلق الجديد الذي سيأتي به الله تعالى بعد أن يُذهِب القوم المنحرفين هم في الحقيقة بشر عاديون ولكنهم بالخُلُق الأصيل الذي يسير وفق أحكام الله سبحانه فيظهرون وكأنهم خلق جديد إذا ما قورنوا بالقوم المستَبعَدِين والمستَبدَلين المبتَعِدِين عن ذلك الخُلُق الأصيل .

 

التأمل العاشر:

يعزُّ على الله جل جلاله أن يُذهِبَ بقومٍ مؤمنين ويأتي بقومٍ آخرين غير مؤمنين ، كافرين أو عاصين ، لكن حكمته عز وجل تقتضي في بعض الأحيان ولأسباب يجهلها أكثرنا أن يُستَبدَل المؤمنون بغير المؤمنين ، فيستبدل المؤمنين بغير المؤمنين مثلاً ليفتن الناس ويختبر إيمانهم ، أو يكون أحياناً هذا الاستبدال شكلياً ، أما الحقيقة فإن المؤمنين باقون غير مُستَبدَلين ، أو أن المؤمنين لم يبذلوا ما بوسعهم وقصّروا في استخدام الأسباب اللازمة لبقائهم وعدم الإتيان بقوم غير مؤمنين ، وغيرها من الاحتمالات التي يمكن أن تفسّر سبب استبدال المؤمنين بغير المؤمنين ، إذ لا يمكن أن تكن هناك مشيئة إلهية متدخلة في هذا الاستبدال كما في حال استبدال غير المؤمنين بالمؤمنين ، فالحالة الثانية تبيّن التدخل الإلهي المباشر في الاستبدال ، لأن بقاء غير المؤمنين له أضرار لا يمكن السكوت عنها .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :

https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M