وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
التأمل الأول :
من أرقى المبادئ التي ينبغي أن ينتبه لها الإنسان ويهتمّ بها هي ( أن لا تزر وازرة وزر أخرى ) ، إن كان هذا الإنسان يبحث عن العدالة والتحضر ، فليس من المعقول ولا المقبول أن يُعاقَب شعبٌ بأكمله نتيجة سياسات حُكّامه ، خاصة إذا كانت غالبية الشعب رافضة لتلك السياسات ، وهذا ما تفعله المنظمات الدولية بإشارة من بعض الدول ضد دولٍ معينة .
وهذا لا يعني أن شعوبنا ومجتمعاتنا ودولنا الإسلامية مُطبِّقة لهذا المبدأ العادل ، فها هي العشائر تقتل أي فرد من عشيرة أخرى قام أحد أفرادها بقتل شخص من العشيرة الأولى ، أو تقوم حكومةٌ ما بحرمان مناطق عديدة من الخدمات وفرص العمل نتيجة قيام أفراد منها بأعمال ( غير قانونية ) .
التأمل الثاني :
إن المعصومين عليهم السلام من نسل النبي محمد صلى الله عليه وآله فهموا محتوى هذه الآية الكريمة فهماً عملياً وعرفوا أن قرابتهم من النبي صلى الله عليه وآله قد تزيدهم فخراً وتشريفاً لكنها في الوقت نفسه تزيدهم حملاً وتكليفاً ، لكن خَشيتهم من ربهم بالغيب جعلتهم يتركون الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وآله أنذرنا منها ، بل وابتعدوا حتى عن الشبهات والمكروهات لأنهم يرونها محرمات ، لأن هذه المكروهات تجعلهم مُثقَلين بسبب قربهم من النبي صلى الله عليه وآله أكثر من غيرهم ، كما أنه لا ضمان أن يحمل النبي صلى الله عليه وآله ثقلهم بسبب قربهم منه ، واقتنعوا بأن الصلاة والزكاة – خصوصاً إن أُقيما وبان آثارهما في المجتمع – هي تزكية لأنفسهم بغض النظر عن تبعاتها الإيجابية في الآخرة فأصبحوا بذلك معصومين .
التأمل الثالث :
إن تطبيق مبدأ ( لا تزر وازرة وزر أخرى ) على المخلوقين ذلك لأنهم لا يمتلكون صلاحية القصاص ممن لم يكن مذنباً ، لأن حياة الآخرين وما يملكون هي مُلك للخالق جل وعلا الذي يمكنه أن يسلب الحياة – فضلاً عن ما دونها – ممن يشاء ويعطيها لمن يشاء لأنه جلت قدرته هو من يمنحها للمخلوقين ، لذا تقتضي الحكمة الإلهية أحياناً أن تعمّ الفتنة الظالمين وغير الظالمين ، ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، وبالتالي فهذا لا يمكن أن نعتبره مخالفاً لمبدأ تحميل الوزر على من لا وزر له ، لأن الفتنة التي تعمّ الجميع تكون وفق حكمة ولطف ورحمة وعلم لا متناهية ، فمن أدّت الفتنة الى أذاه فسيُعوَّض إما بغفران الذنوب أو رفع الدرجات أو غيرها من النِعِم المعوِّضَة والمجزية .
التأمل الرابع :
إن الخشية من الله تعالى سبب رئيسي ومهم في تلقي الإنذار النبوي ، وهي في نفس الوقت نتيجة وثمرة وعلامة على تلقي هذا الإنذار ، بمعنى أن من يخشى ربه بالغيب فقد تأثر بالإنذار النبوي وآمن به ، والعكس صحيح أيضاً ، فلا معنى لمن يؤمن بالإنذار النبوي ولا يخشى الله جل وعلا في الخلوات .
وبما أن الخشية من الله تعالى سبب ونتيجة للإنذار النبوي ، والعكس بالعكس ، فمن كان في قلبه مقدار ذرة من خشية الله فإن الإنذار النبوي سيكون بمثابة الري الذي يجعل تلك الذرة تكبر ، فإذا زادت الخشية في قلب المؤمن فإنها ستحتاج الى ري (إنذاري) أكثر ، أو على الأقل أنها مستعدة لاستقبال أكبر مقدار من الري (الإنذاري) ، وهذا الري الزائد سيزيد من الخشية وهكذا حتى يتكامل الإنسان ويكون مقيماً للصلاة فتزكو نفسه .
التأمل الخامس :
لكل درجة من درجات الخشية هناك إنذار نبوي يناسبها للارتقاء بصاحبها الى الدرجة الأعلى منها ، ولهذه الدرجة مستوى من إقامة الصلاة وتجسيدها على أرض الواقع وانعكاسها على شكل زكاة وتزكية للنفس وغيرها ، لذا لم يكن الإنذار النبوي بمستويات تفوق مستويات الإيمان والخشية من الله عز وجل ، فكما أن معاشر الأنبياء أُمِروا أن يخاطِبوا الناس على قدر عقولها ليكون الخطاب نافعاً – كما في الحديث الشريف المروي عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله – فإنهم ينذرون الناس على قدر إيمانهم وخشيتهم ليكون الإنذار مثمراً ، فمن غير الصحيح أن يُنذَر الناس من عواقب العمل بالمكروهات مثلاً وهم ما زالوا يرتكبون المعاصي ، فعلى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يأخذ بأيدي الآخرين برفق ليرفعه كي لا ينكسر ، فإذا كسره فعليه جبره .
التأمل السادس:
إن الآية الكريمة حصرت المستفيدين من الإنذار النبوي بالذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ، وهناك حصر قرآني للخشية نجده في الآية المباركة ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) ، ومن هذا نستفيد عدة فوائد :
1) أن الإنذار النبوي يمكن أن يجعل الإنسان عالماً .
2) أن العلماء الحقيقيين هم الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة ، والعكس صحيح ، أما تحصيل العلوم – بما فيها العلوم الدينية – من دون هاتين الصفتين فلا يجعل الإنسان عالماً .
3) أن العلماء هم الوحيدون الذين استفادوا من الإنذار النبوي .
4) أن العلم الذي ينبغي أن يهتم به من يريد أن يكون عالماً هو ما يجعله يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة .
التأمل السابع:
بعد أن تبيّن من التأمل السابق أن الخشية من الرب سبحانه وإقامة الصلاة هي حلقة الوصل بين العلم والإنذار ، فالإنذار يقود الى العلم ، والعلم يهيّء الأرضية المناسبة للإنذار ، وهذا يكشف عن العلم الحقيقي الذي يجب أن لا يغيب عنا ، وإلا لا فائدة من استحصال أي علم بدونه ، بمعنى أن بإمكان السعي لحصول أي علم نافع ولكن بشرط أن يرافق هذا العلم الخشية من الله تعالى وتطبيق أحكام الشريعة المتعلقة به التي أُنذِرَنا بضرورة تطبيقها ، وأن تطبيقها هو من إقامة للصلاة .
هذا العلم الشريف يجب أن يحكم كل علم بما في ذلك العلوم الدينية ، وبالتالي من الممكن أن يكون طالب العلوم غير الدينية أكرم عند الله عز وجل من طالب العلوم الدينية إن كان ملتزماً بما أُنذِر ومطبقاً لأحكام الشريعة في علمه، والعكس بالعكس .
التأمل الثامن:
إن اهتمام الإنسان بذوي القربى أمر فطري أودعه الله تعالى في قلبه وأكّد عليه لأهمية ذلك الاهتمام عنده سبحانه ، الى درجة أن هذا الاهتمام يجعل الإنسان يفكّر أن أقرباءه وذويه سيساعدونه في حمل أوزاره يوم القيامة ، هذا التصور إنما جاء نتيجة استصحاب النظرة العاطفية للأقارب تجاه بعضهم البعض في الدنيا ، وهذا وإن كان غير مُجدٍ ولا نافع يوم القيامة إلا أنه يكشف عن عمق العلاقة بين الفرد وأقربائه في الدنيا ، هذه العلاقة التي بدأت تتلاشى عند الكثيرين بسبب استنساخ الثقافة الغربية ولصقها بمجتمعاتنا المسلمة ، ففي تلك المجتمعات غير المسلمة لا قيمة للعلاقة مع الأرحام والأقارب حتى مع الوالدين ، وبالتالي فمن كان يرى المقربين منه لا يحملون أحماله الدنيوية فبالتأكيد سوف لن يتصور أنهم سيحملون أحماله الأخروية ، لذا سوف لن يفهم ويفقه مراد الآية الكريمة .
التأمل التاسع:
أحد التعاريف لمقيمي الصلاة هم الذين يجسّدون الصلاة في حياتهم ، فهم لا يكتفون بأداء الصلاة ، بل ينقلون تأثيرها على أرض الواقع ، فيبتعدون عن المنكرات ويواظبون على الواجبات ، بل ويرتقون ليكون الجميع مؤدياً للصلاة ومقيماً لها في حياته ، أي أنهم مصلحون ويحوّلون أفراد المجتمع الى صالحين ومصلحين ، فخشيتهم من ربهم بالغيب جعلتهم يقيمون الصلاة ويجسّدونها فتلقّوا الإنذار النبوي تلقيّاً واعياً عرّفهم دور هذا الإنذار في إصلاح المجتمع ، وبسبب حرصهم على أفراد مجتمعهم جعلهم يوجّهون الإنذار النبوي الى الآخرين عبر فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن بالمراتب والوسائل التي بيّنتها السنة المطهرة ، وليس بطريقة التسلط والإكراه التي يستخدمها بعض المتحجرين .
التأمل العاشر:
من الأمور الواضحة التي أُنذِرنا منها والتي تندرج تحتها آلاف الأفعال والأعمال هي أن لا يكون الإنسان من المغضوب عليهم من قبل الله سبحانه ولا من الضالين عن الصراط المستقيم ، سواء كان هذا الغضب والضلال على المستوى العقائدي أو على المستوى الفقهي والأخلاقي ، فمن يخشى ربه جل وعلا يلتزم بهذه الإنذارات النبوية ويسخّر عبادته ويستعين برب العالمين الرحمن الرحيم لتكون وسيلة للهداية الى الصراط المستقيم الذي يُبعِد عن ما أُنذِر ، وكما أن الإنسان يعبد ربه جل جلاله ويستعين به فعليه أن يخشاه ويجتنب ما أَنذَر ، فهو أحق بالخشية لأنه مالك يوم الدين الذي يمثّل أبرز أشكال الغيب التي تكشف عن الإيمان الحقيقي بالله جل شأنه وتحرّك صاحبه الى الخشية من ربه سبحانه .
التأمل الحادي عشر:
من صفات المتقين أنهم يهتدون بهدي القرآن الكريم ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) ، ذلك القرآن الذي يكشف عن مصيرنا ، وأنهم ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) فيخشون ربهم بالغيب ، والخشية من أبرز مقومات التقوى ، وكذلك ( يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) و ( مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) ، ومن أشكال هذا الإنفاق الزكاة ( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى ) ، وأن المتقين ( يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ) من إنذار ، وكذلك ( بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ، وهذا اليقين بالآخرة من ثمار الإيمان بالغيب ، ( أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فلا تَبِعات لأوزارهم وبالتالي لا حاجة الى دعوة من يحمل هذه الأوزار من القريب والبعيد .
التأمل الثاني عشر:
إن المثقَلين بالأوزار ويدعون الى حمل أوزارهم عنهم بالتأكيد لم يكونوا ممن يخشون ربهم بالغيب فضلاً عن أن يكونوا ممن أقام الصلاة ، وقد خسر هؤلاء لأنهم إما كذّبوا بلقاء الله نظرياً وعملياً ، كما هو حال عموم الكافرين ، أو كذّبوا بلقاء الله عملياً رغم الإيمان النظري ، وهو حال كثير من المؤمنين العاصين الذي لم يخشوا ربهم بالغيب فيكون موتهم في ظرف ووقت لا يمكنها معه الإيمان والتوبة ( قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتهُمُ السَّاعَةُ بَغتَة ) ، وسيتحسّر هؤلاء الخاسرون المثقَلون بالأوزار التي يحملونها على ظهورهم من دون أن يحملها أحدٌ غيرهم بما فيهم أقرباؤهم ( قَالُواْ يَاحَسَرتَنَا عَلَى مَا فَرَّطنَا فِيهَا وَهُم يَحمِلُونَ أَوزَارَهُم عَلَى ظُهُورِهِم أَلَا سَاءَ مَا يَحملونَ ) .
التأمل الثالث عشر:
إن فهم ( القربى في الآخرة ) يعتمد على فهم ( القربى في الدنيا ) ، وهنا لا نعني بالفهم النظري وإنما الفهم العملي والارتكاز في الذهن ، فمن لا يهتم في الدنيا بأرحامه سوف لن يتأثر إن قيل له أن أقرباءك من أرحامك سوف لن يحملوا أوزارك يوم القيامة ، ولكنه قد يتأثر إن علم أن القريبين عليه من غير الأرحام سوف لن يحملوا أوزاره يوم القيامة ، ومن أمثلة هؤلاء القريبين أصدقاء السوء ومن تجمعهم معه مشتركات وأهداف منحرفة – سواء على المستوى العقائدي أو الدنيوي – كالذين وصفهم القرآن بالأخلّاء في قوله تعالى ( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ) / (الزخرف /67) ومن الأسباب المحتملة لعداوة بعضهم للبعض الآخر يوم القيامة هو عدم حمل أوزار بعضهم للبعض الآخر .
التأمل الرابع عشر:
عندما نسمع أن الكل يصيح يوم القيامة ( نفسي … نفسي ) ، فهذا إنما ترجمة وتجسيد لعدم حمل أوزار المثقَلين من البشر ، فالكل غير مستعد ولا يقبل حمل أوزار الآخرين فضلاً عن المثقَلين حتى لو كانوا من ذوي القربى ، قربى نسبية كانت أم غير نسبية .
وهناك شخص مُستَثنى من ذلك وهو الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله الذي ينادي يوم القيامة ( أمتي … أمتي ) ، وذلك لرفع تبعات الأوزار عن أمته وانتشالهم من بئس المصير ، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله ليس نذيراً فقط ، وإنما بشيرٌ أيضاً ، فكما أنه ينذرنا من عذاب أليم فإنه يبشّرنا بالشفاعة يوم القيامة التي تخلّصنا من تبعات الأوزار ، وما علينا إلا أن نقوّي علاقتنا به وأن نلتزم بنهجه العام وصراطه القويم وأن لا نعود الى ما أنذرنا بمقدار جهدنا ومقدرتنا .
التأمل الخامس عشر:
عندما يخطأ الأبناء بحق الآخرين نجد أن الأب يعتذر رغم أنه لم يرتكب خطأً ، وإنما يشعر أن خطأهم محسوب عليه حتى لو لم قصّر بتربيتهم ، وهكذا ينظر النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله الى أوزار أمته ، فرغم إنذاره لهم وعدم تقصيره بتبلغ رسالته إلا أنه يراهم محسوبين عليه وكأنه يخالف قاعدة (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) من جهته ويريد أن يتحمل أوزارهم ، فيحاول أن يخفّف عن أثقالهم التي لا يتحملها أقرب الناس إليهم رحمة بهم وشفقة ، وذلك بشفاعته وندائه الى ربه عز وجل ( أمتي … أمتي ) ، بل إن عطفه على أمته كانت قبل ذلك عندما قبض روحَه مَلَكُ الموت عليه السلام إذ قال له : شدِّد عليَّ وخفّف عن أمتي ، اللهم صل وسلم على هذا القلب الرحيم واجعله لنا شفيعاً مشفعاً وطريقاً إليك مهيعاً .
التأمل السادس عشر:
إن المؤمن الرسالي هو من يتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله أسوة حسنة في أخلاقه وسلوكه ، وبالتالي فإن هذا المؤمن يُنذر الناس بالوسائل المتاحة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليعلموا أن أوزارهم لا يمكن أن يحملها أحدٌ عنهم حتى الأقرباء منهم ، ولكن في الوقت نفسه على المؤمن الرسالي أن يستشعر مسؤولية حمل أوزار المجتمع رحمة بهم أو باعتبار أن هذه الأوزار ممكن أن تكون بسبب تقصيره وباقي المؤمنين الرساليين حتى لو لم تكن كذلك ، وهذا ما يستشعره الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وباقي المصلحين ، وهذا الشعور من المحركات المهمة للعمل الأصلاحي وهو من مقومات إقامة الصلاة ، وبذلك يمكن أن يكون هؤلاء المؤمنون الرساليون شفعاء لغيرهم من المؤمنين غير الرساليين .
التأمل السابع عشر:
ابتداءاً مما انتهينا إليه في التأمل السابق من إن المؤمن الرسالي المتأسي برسول الله صلى الله عليه وآله ينبغي أن يكون مُنذراً بالمخاطر المحدقة بالإنسان في دنياه وآخرته ومبشراً بتحمل أوزار الآخرين لما يحمله من رحمة وشفقة لهم ، فإن أفضل مستويات التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله كانت عند أمير المؤمنين علي وآله عليهم السلام ، وهذا ما تثبته النصوص التأريخية والروايات المعتبرة ، إذ يتفق المسلمون على أن علياً عليه السلام هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وفق آية المباهلة ، وهذا يعني أنه لم يكن متأسياً فقط بل مندمج وذائب في سيرة أخيه المصطفى صلى الله عليه وآله ، وبالتالي فإن شفقة أهل البيت عليهم السلام من شفقته صلى الله عليه وآله فيحاولون التخفيف من تبعات أوزار المؤمنين بالشفاعة كما يفعل ذلك جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله ونداؤه ( أمتي أمتي ) .
التأمل الثامن عشر:
لو عقدنا مقارنة بين الآية محل التأمل والآية 164 من سورة الأنعام ( قُل أَغَيرَ اللَّهِ أَبغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيء وَلَا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِلَّا عَلَيهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرة وِزرَ أُخرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرجِعُكُم فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَخَتلِفُونَ ) لوجدنا عدة نقاط تشابه :
1) إن لسان حال الذين يخشون ربهم بالغيب ( قُل أَغَيرَ اللَّهِ أَبغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيء ) .
2) التأكيد على مبدأ ( عدم تَحمُّل أوزار الآخرين أو تحميلهم أوزارنا ) .
3) أن مرجع ومصير كل إنسان الى الله تعالى ربه .
ومن ذلك نستفيد أن الخشية لا تكون إلا من رب كل شيء والذي إليه المرجع وإليه المصير جل جلاله ، وأن الأوزار التي ستثقل الإنسان والتي يحاول أن يحمّلها لغيره ليخفف عن كاهله إنما بسبب انعدام الخشية .
التأمل التاسع عشر:
أحياناً – وربما كثيراً – ما تُلقى اللائمة على القادة في عدم رفع مستوى القاعدة الجماهيرية المحسوبة عليه من الناحية الفكرية والعقائدية والثقافية وغيرها ، كتحميل مسؤولية تراجع المستوى الفكري والعقائدي والثقافي للمسلمين على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهؤلاء لم يلتفتوا الى أن رفع هذا المستوى يتطلب الى مُرسِل (القائد) ومُستلِم (القاعدة) ، فكما أن المستلم لا يستلم شيئاً إن لم يُرسِل المرُسِل شيئاً فإن نفس هذا المستلم لا يستلم شيئاً إن لم يُرد هو أن يستلم شيئاً ، بمعنى أن العملية بمرتبطة بالطرفين .
فالقائد المنُذِر لا يتلقى إنذارَه إلا من هيّأ نفسه – بخشية ربه بالغيب – لاستلام واستقبال الإنذار فتتحقق إقامته للصلاة ، أما من لم يهيّء نفسه هذه التهيئة فسوف لن يستفيد من الإنذار النبوي وبالتالي سيتقهقر مستواه الفكري والعقائدي والثقافي .
التأمل العشرون:
إن مسؤولية الإساءة الى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يتحملها المسلمون بدرجة كبيرة بعد أن تبنّت بعض الفرق المنحرفة من المسلمين العمليات الإرهابية التي رفضها غالبية المسلمين والتي لم تُبنَ وفق أسس علمية صحيحة ، بل كانت اجتهادات لمجموعة من الأفراد الذين لم يُعرَف لهم وزن علمي بين المسلمين ، فالرسول صلى الله عليه وآله حذّر وأنذر أتباعه من ارتكاب الأخطاء والسلوكيات المرفوضة ومن تبعاتها وآثارها السلبية (التي من أشكالها تلك الإساءات المتكررة )، إلا أن من التزم بهذا الإنذار هم من يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة فقط ، وبالتالي فعلى جميع المسلمين تصحيح هذا الخطأ بأن يخشوا ربهم من إصدار الفتاوى غير المستندة الى أصول علمية ومخالفة للنهج النبوي وأن يقيموا الصلاة بنقل الأخلاق الإسلامية الى المجتمع لقطع الطريق على من يتحجج بهذه الحجج وسحب الذريعة من بين أيديهم ، فلا يَزِر الرسول صلى الله عليه وآله وِزرَ أتباعه .
التأمل الواحد و العشرون:
كثير من الناس عندما يرون أشخاصاً مسيئين ومنحرفين فإنهم ينتقدون آباء هؤلاء الأشخاص ويتهمونهم بالتقصير والإهمال وربما يتهمونهم بمساعدة أبنائهم على سلوكياتهم السيئة والمنحرفة فيسبّونهم ! مع إن الآباء لا يَزِرُون وِزرَ أبنائهم إن لم يقصّروا في تربيتهم ، فقد يكون المربي قاصراً في تربيته ولكن هذا لا يعني أنه مقصرٌ ، بل قد لا يكون قاصراً أصلاً – كالنبي نوح عليه السلام – وأنه أنذر أبناءه وحذّرهم من الانحراف والضلال والسلوك السيء إلا أن الأبناء لم يكونوا ممن يخشون ربهم فيسمعوا كلامه حتى يكونوا مهتدين فضلاً عن أن يكونوا مقيمي الصلاة ، وهذا ما عانى منه كثير من المصلحين .
فالتربية السيئة تنتج شخصاً سيّئاً ، ولكن العكس ليس بالضرورة يكون صحيحاً ، فالشخص السيء ليس بالضرورة يكون نتيجة تربية سيئة وإنما السوء متغلغلٌ في ذاته .
التأمل الثاني و العشرون:
من الواضح أن من أبرز علامات الاستجابة للإنذار النبوي هي الخشية ، وأعلاها مرتبة وأضمنها تصديقاً لذلك الإنذار هي الخشية بالغيب ، وهذا لا يعني أن الخشية العلنية مرفوضة أو أن مقامها متدني ، بل هي مهمة ومطلوبة أيضاً وتؤدي مهامّاً لا تؤديها الخشية بالغيب ، فالخشية العلنية من مقدمات إقامة الصلاة في المجتمع ، فعندما يرى أفراد المجتمع الخشية ظاهرة على بعض أفراده سيتأثرون بدرجة من الدرجات بهذه الخشية وسيخشون ربهم هم أيضاً ويقلّلون من السلوكيات الخاطئة فضلاً عن المنحرفة ، وكلما كانت علامات الخشية بيّنة في المجتمع كلما تأثّر أفراده بهذه الخشية وتجسّدت الصلاة فيه .
ولكن الحذر يكون عندما تكون هذه الخشية العلنية غير خالصة لله تعالى ، فتكون النتائج قصيرة المدى ، لذا لا بد من تضبط الخشية بالغيب الخشية العلنية .
* مشاركتها ثواب لنا ولكم
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views