وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
التأمل الأول :
من الناس كالدواب ، صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون ، ولا همّ لهم سوى الأكل والنوم ومتابعة الجنس الآخر ، بل إن بعضهم يعتاشون على دماء غيرهم ، ومنهم – أي الناس – كالأنعام نافع في مجالات مختلفة ، فاختلفت ألوانهم كما اختلفت منافعهم . ومع إن الأنعام دوابٌ أيضاً إلا أن نفعهم غطّى على وجودهم حتى صاروا نعمة ، وهذا حال الناس فهم مشتركون في الصفات الجسمانية والوجودية إلا أن بعضهم مِعطاؤون نافعون للآخرين ، والبعض الآخر لا قيمة حقيقية لهم .
إضافة الى ذلك فإن الدواب فليس كلهم أنعاماً ، فكل واحدة من الأنعام دابة والعكس ليس بصحيح ، وهكذا الناس ، فكل فرد نافع هو إنسان ( إنما أنا بشر مثلكم ) ولكن ليس كل إنسان هو فرد نافع .
التأمل الثاني:
هناك عدة مستويات للخشية من الله عز وجل ، فالناس ليسوا على لونٍ واحدٍ من الخشية بل ألوان خشيتهم مختلفة ، تعتمد هذه المستويات والألوان على العلم الذي يحمله الإنسان ، فكلما زاد العلم مقداراً وسعة زادت الخشية والعكس بالعكس ، وهذا يكشف عن إن الميزة والعلامة الرئيسية في العالِم – عالِم دين أو غيره من العلوم – هي الخشية من الله تعالى ومدى انعكاس تلك الخشية على حياته وسلوكه وعطائه ، إذ لا يَبني علمه إلا وفق أسس علمية صحيحة وأن تدفعه هذه الخشية الى الحفاظ على الأمانة العلمية وأن لا يستخدم عِلمَه لمعونة الظالمين من حُكّام جَورٍ أو قوى دولية ظالمة أو حتى شركات تستخدم العلوم لإيذاء البشرية .
التأمل الثالث:
هناك أدعية يطلب فيها الداعي ( العلم النافع ) ، ويستحضر الداعي عادة مصداق هذا العلم في قلبه ، فربما يرى البعض مصداقه علم الطب وآخر يراه علم التأريخ مثلاً ، وبعضٌ يعتبر العلوم الدينية هي مصداق العلم النافع ، وهكذا الآخرون ، وهذه المصاديق وغيرها يمكن أن تكون نافعة ويمكن أن لا تكون ، والعلامة الفارقة هو أن يكون هذا العلم دافعاً لخشية الله تعالى أو على الأقل أن تُؤطّر هذه الخشيةُ العلمَ النافع وتقيّده ، بحيث لا يتحرك يميناً أو شمالاً إلا ويرى رضا الله سبحانه قبله وبعده وفوقه وتحته ، عندها يكون هذا العلم نافعاً ، وهذا يعني أن يعرف الداعي الأحكام الشرعية الخاصة بالعلم الذي يطلبه كي يُطبّقها خشيةً من الغضب الإلهي أو ربما خشية من أن يحرمه الباري عز وجل من بعض الألطاف الألهية .
التأمل الرابع:
يُروى عن النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله أنه عرّف العلم غير النافع بأنه العلم الذي لا ينفع إذا تعلمناه ولا يضرنا إذا جهلناه ، وبربط هذا التعريف النبوي مع الآية الكريمة محل التأمل نستنتج أن العلم الذي لا يساعدنا على رفع مستوى الخشية من الله تعالى أو أن ممارسته عملياً تُقلل من فرص الخشية فعلينا تجنبه ، وذلك بسبب تقديم هذا العلم على الضوابط والأحكام الشرعية التي تحكمه ، فما فائدة العلم الذي لا يكون حامله يخشى الله سبحانه ؟ وما ضرر العلم الذي يساعد حامله على الخشية من الله سبحانه ؟
لذا يمكن أن ننظر الى الاستعاذة في بعض الأدعية من ( علم لا ينفع ) من زاوية الخشية من الله تعالى ، فكل علم لا ينفع في تطوير الخشية من الله عز وجل أو يسبب الى إضعاف تلك الخشية فينبغي أن نستعيذ منه .
التأمل الخامس:
إن العلماء يُدركون أن الخشية من الله تعالى لا تعني الاكتفاء بالخوف منه عز وجل ، وإنما لا بد من الموازنة بين الخوف والرجاء ، خوفٌ من الله العزيز الذي يقهر كل شيء ، ورجاءٌ لمغفرة الرب الغفور الذي يغفر الذنوب كلها جميعاً ، فيعملون عملاً دؤوباً متواصلاً خوفاً من عدم قبوله ورجاءاً للتجاوز عن التقصير فيه ، وينظرون الى مغفرة ربهم نظرةً تصغُر عندها ذنوبُهم مهما عَظُمَت ، فلا العمل يتركون ولا عن الاستغفار والتوبة يغفلون ، وبذلك أصبحوا علماء .
أما من يخاف عذاب ربه من دون النظر الى مغفرته أو بالعكس فهذا جاهل ولا يعلم شيئاً ، فهذا التصرف لا يُعتَبر ورعاً أو تقوى ، بل سوء ظن بالله عز وجل وقلة معرفة بعزته وجلاله .
التأمل السادس:
إن الإسلام دين دنيا وآخرة ، فاهتمامه بالآخرة لا يلغي الاهتمام بالدنيا ، ولكنه أعطى الأولوية والحاكمية للآخرة على الدنيا باعتبار الدنيا وسيلة والآخرة غاية أو كما في الرواية ( الدنيا مزرعة الآخرة ) ، وعليه فيمكن لكل إنسان أن يبحث في أي مجال من مجالات العلم والمعرفة ويصبح عالماً من علماء العالَم بشرط الحفاظ على الخشية من الله تعالى في عِلمِه ، فلا يستخدمه لمعصية الله سبحانه كاستخدامه في ظلم الآخرين أو إشاعة فحشاء ، أو يلهيه عن دينه وعبادته والواجبات الشرعية الملقاة على عاتقه ، فإن تمكّن المؤمن من السير في طريق العلم مع الحفاظ على تلك المحددات فقد فاز بالدنيا والآخرة .
ولا يتصور أحدٌ أن العلوم الدينية هي العلوم الوحيدة التي يجب أن نستحصلها ، فقد يكون العالِمُ في غير العلوم الدينية أكثر خشية من عالِم الدين وبالتالي يستحق مرتبة أعلى .
التأمل السابع:
للإنصاف فإن العلوم الدينية هي أكثر العلوم التي تهتم بخشية الله تعالى وتعتبرها أساساً من أسسها ، فَعِلمُ الأخلاق من أبرز العلوم الدينية التي تختص بخشية الله عز وجل ، وقد لا نجد له مثيلاً في باقي العلوم ، وربما لذلك يتبادر الى الأذهان أن أكثر العلماء خشية من الله سبحانه هم علماء الدين وليس غيرهم من علماء الطب والفيزياء والتأريخ وغيرهم .
واهتمام المدارس الدينية بعِلم الأخلاق إنما هو حجة على من يتلقى تلك العلوم ، لذا نرى عِلم الأخلاق يشغل حيزاً من حياة علماء الدين وليس فقط على مستوى البحث النظري ، لأنهم يُقدِّرون أن الناس يتوقعون منهم خشية الله تعالى أكثر من غيرهم ، وبالتالي فأي تقصير منهم سيعتبرونه تراجعاً عن تلك الخشية ، وربما يُعَمّم ذلك على كل علماء الدين وقد ينعكس سلباً على الدين كله .
التأمل الثامن:
لو أردنا المقارنة بين عالمٍ لا يخشى الله وخاشي لله غير عالم سنجد الفروقات الآتية :
1) أن الأول لم يكن طلبه للعلم خالصاً لله تعالى ، والثاني يمكن أن تكون خشيته لله سبحانه دافعاً لطلب العلم إذا ما توفرت ظروفه .
2) يمكن للأول أن يستخدم العلم النافع استخداماً غير نافع ، والثاني لا يطلب إلا العلم النافع وبالتالي فهو نافع في مجتمعه .
3) الأول نظرته ضيقة لتفكيره في دنياه فقط ، والثاني يمتلك رؤية بعيدة المدى لتفكيره بالآخرة .
4) صفة (العالِم) وفق الآية محل التأمل تُطلَق جزافاً على الأول وهي من استحقاق الثاني .
التأمل التاسع:
بإمكاننا تقسيم الناس الى أربعة أقسام وفق خشيتهم وعلمهم ( وفق المعنى المتعارف ) وكالآتي :
1) أشخاص علماء يخشون الله سبحانه ، وهم الأفضل ، وهم الأقل مع الأسف .
2) أشخاص يخشون الله تعالى إلا أنهم ليسوا علماء ، وتأتي أفضليتهم بالدرجة الثانية ، وهم مع كثرتهم – إذا ما قورنوا بالقسم الأول – إلا أنهم قليلون .
3) أشخاص علماء لا يخشون الله سبحانه ، ونسبتهم من بين العلماء كثيرة مع الأسف .
4) أشخاص ليسوا علماء ولا يخشون الله سبحانه ، وهؤلاء هم الأسوأ وهم الأكثر مع شديد الأسف .
التأمل العاشر:
هناك من ينخدع ويتأثر بدور العلماء الذين طَوّروا المجال التكنلوجي والعمراني في العالم ، وللإنصاف فهناك ثمار إيجابية لدور هؤلاء العلماء ينعم العالَمُ بها ، ولكنهم نسوا – لغفلة ربما – أن لهذا الدور وجهين ، وجه ظاهر مشرق ووجه باطن مظلم ، والتأثر يكون عادة بالوجه الظاهر المشرق ، ولو رأوا الوجه الباطن المظلم لما تأثروا به ، فالوجه المشرق ناجم عن طبيعة العلوم التي تكون مفيدة للبشرية ، أما الوجه المظلم فبسبب ابتعاد هؤلاء العلماء عن الله تعالى وعدم خشيتهم منه سبحانه ، لذا فإنهم يُقدّمون بحوثهم العلمية لأي شخص أو جهة تدفع لهم أموالاً أكثر ، بغض النظر عن المجال الذي سيستخدمونها فيه ، فعلى سبيل المثال لا الحصر الذين طوّروا الأسلحة العسكرية ووصلت الى القنابل النووية والذرية ، هؤلاء لو كانوا يخشون الله جل جلاله لما باعوا بحوثهم لأشخاص وجهات مستعدة لتدمير العالَم من أجل تَسَيُدِهم وسيطرتهم على الشعوب ، وهكذا خُذ باقي العلوم وباقي العلماء .
التأمل الحادي عشر:
إن (النزاهة) من مُخرَجات الخشية من الله تعالى ، فمن يخشى الله سبحانه لا بد أن يكون نزيهاً في عمله وسلوكه وعلاقاته ، و ( الكفاءة ) من مُخرَجات العِلم ، فالعالِم في العموم يكون كفوءاً في تخصصه ولا يُدانيه أحدٌ إلا من هو بدرجته ، وبالتالي عندما يكون الإنسان عالِماً يخشى الله عز وجل فسيكون نزيهاً كفوءاً ، والعكس ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً ، وبما أن الناس يبحثون عن النزيه الكفوء ليقود مؤسسات الدولة فهذا يعني أنهم لا يعترضون على تصدي العالِم الذي تُقيّده الخشية من الله جل جلاله ، ومن علامات هذا الشخص أنه عزيز غفور لأنه مُتخلِقٌ بأخلاق الله تعالى ، عزيزٌ في إدارته للمؤسسة التي ينتمي لها ، غفورٌ لأخطاء من هم دونه ، فلا عِزته تمنع تسامحه ومغفرته ، ولا مغفرته وتسامحه يمنعان من عزته وإحقاق الحق في مؤسسته .
التأمل الثاني عشر:
يمكن تقسيم المسؤولين وفق معياري ( الكفاءة والنزاهة ) كما قسّمنا الناس وفق ( العِلم والخشية من الله تعالى ) :
1) الكفوء النزيه ، وهو أفضل الجميع بلا نقاش .
2) النزيه غير الكفوء ، وأفضليته تكون بالدرجة الثانية .
3) الكفوء غير النزيه ، وهو ربما أخطر الجميع لأنه قادر على استغلال كفاءته لحسابه الشخصي أو حساب جهته التي ينتمي لها من دون أن يقدر أحد على مواجهة كفاءته ، وهذا يُذكِّرنا بخطورة العالِم الذي لا يخشى الله تعالى .
4) غير الكفوء وغير النزيه ، وهو أسوأ الجميع.
التأمل الثالث عشر:
ربما لا يختلف اثنان على أن أكثر الناس خشية هم المعصومون عليهم السلام ، فهم لم يكونوا معصومين إلا بخشيتهم لله سبحانه ، فخشيتهم ليست من ترك الواجب وترك المحرم فقط ، بل حتى من ترك المستحب وعمل المكروه ، بل حتى من عمل المباح الذي لم يكن قربة الى الله تعالى ، بل إنهم يرون من المحرمات عليهم (ترك الأولى) الذي يعني أنهم يقدّمون من له الأولوية ، فإن كانت الأولوية لفعلٍ وتركوه وفعلوا فعلاً آخراً حتى لو كان غير محرم ولا مكروه فإنهم يعتبرون عمل ذلك الفعل محرماً عليهم رغم أنه ليس بمحرم .
هذا المستوى من التعامل مع الله عز وجل وخشيته لم تأتِ من فراغ ، بل هو ناتج عن علم خاص لم يتمكن غيرهم من الحصول عليه ، وهذا المستوى العالي من الخشية جعلهم أفضل العلماء ، وعلمهم هو أعلى مستويات العلم .
التأمل الرابع عشر:
إن مستوى الخشية يتناسب مع مستوى العلم ونوعه ، فمستوى الخشية يمكن أن يرتفع مع إرتفاع مستوى العلم ، وهذا ما يحدث عند أمثالنا ، أما المستويات العليا للخشية فلا نصلها بمستويات العلم المتعارَفَة عندنا مهما عَلَت ، لأن تلك المستويات العليا تتطلب نوعاً خاصاً من العلم تختلف عن العلوم المكتسبَة ، ويسمى هذا العلم الخاص بالعلم اللَّدُني الذي صرّح به القرآن الكريم ( وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) ، فمثل هذا العلم لا يمكن لأمثالنا الحصول عليه بالتعلم والدراسة ، وإنما هو رزق خاص من رب العباد لخاصة عباده ، ومن يمتلك مثل هذا العلم تكون خشيته مختلفة لا يمكن الوصل إليها ، وبالتالي لا يفكّر أحدنا أن تصل خشيته من الله تعالى الى خشية أولياء الله الذين علّمهم الله سبحانه من لدنه علماً ، ومن يعتقد ببلوغه لذلك المستوى العالي من الخشية فهو جاهل .
التأمل الخامس عشر:
عادة نرى تمييز العلماء وفق الشهادات والاكتشافات وبراءات الاختراع والدراسات والبحوث التي يمتلكها ، وقد أُضِيفَت ميزاتٌ أخرى من باب الدعم كالجوائز العالمية وأبرزها جائزة نوبل التي أُعطيَت حجمٌ أكبر من حجمها بكثير ، بحيث أصبح رؤساء دول (عظمى) يفتخرون بالحصول عليها ، بل ومؤسسات دولية كبرى – كالاتحاد الأوربي – ، وهذا في ذاته أمر جيد ، لأنه تشجيع للكفاءات العلمية المميزة ، وهذا بصراحة ما يفتقده المسلمون ، إلا أن السؤال الذي يُطرَح : هل راعت هذه الشهادات والبحوث والدراسات العلمية خشية الله تعالى عند إعدادها وتقديمها وربما بَيعِها للجهات التي لا تخشى الله سبحانه في استغلالها كاستغلال البحوث التي أنتجت القنابل النووية وغيرها ؟ للأسف لا .
ومن هنا على المسلمين أن يُعِدّوا جائزة ذا قيمة معنوية ومادية عالية مماثلة للعلماء الذين يُقدِّمون دراسات وبحوث علمية تخدم البشرية على المستوى النظري والتطبيقي عند تسليمها الى جهات تحب البشرية .
التأمل السادس عشر:
من العوامل المساعدة لتحقق الخشية من الله عز وجل :
1) أن يستشعر الإنسان وجود الله سبحانه في كل حياته وحركاته وسكناته .
2) أن يستشعر الإنسان عزة الله العزيز التي يقهر ويذل بها كل شيء ، فمن يخشى القهر والذلة سيخشى الله تعالى بلا شك أو على الأقل يكون سائراً نحو الخشية .
3) أن يستشعر الإنسان العبودية لله جل شأنه ، وأنه بحاجة الى مغفرة الغفور عز وجل ، وأن الخشية من عدم المغفرة تكفي للخشية منه تعالى .
ومن يعلم أن الله تعالى يراه ، وأن عزته بيد العزيز سبحانه وأن عدم خشيته من الله سيجعله ذليلاً ، وأن غفران ذنوبه التي ارتكبها بسبب عدم خشيته بيد الغفور جل جلاله ، عند ذلك سيكون من العلماء .
التأمل السابع عشر:
من المعايير التي يُقدِّمها لنا القرآن الكريم لنتعرف على أنفسنا هو معيار العلاقة بين العلم ( أو الجهل ) مع الخشية ، فمن أراد أن يعرف مستوى العلم الذي يحمله وفق هذا المعيار القرآني فلينظر الى خشيته من الله عز وجل ، كم مرة في اليوم يتعرض للمعصية ويتجنّبها خشية من الله تعالى ؟ وما حجم تلك المعصية التي تجنّبها ؟ وكم مرة في اليوم عُرِضَ له واجبٌ شرعي وأدّاه بدقة خشية من الله تعالى ؟ وما حجم ذلك الواجب الذي أدّاه ؟ وما المستوى الإيماني للمجتمع الذي عاش فيه والبيئة التي تربّى فيها ؟ فالشخص الذي تكون تغذيته الإيمانية أقل نتوقع منه الابتعاد عن المعصية بصورة أصعب ممن كانت تغذيته الإيمانية أفضل ، وبالتالي إن تركا نفس المعصية يكون الأول أعلم من الثاني من هذه الزاوية .
التأمل الثامن عشر:
إن من أسوأ ما يمكن أن يصل إليه المرء أن يعتقد أنه يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم ، وهذا ما يُعَرَّف بالجهل المركب ، ومن تطبيقات ذلك أنه يعتقد أنه يخشى الله تعالى – وبالتالي يعتبر نفسه من العلماء وفق الآية الكريمة محل التأمل – وفي الحقيقة أن إعتقاده خاطئ وأنه ليس كذلك ، وبالتالي فهو ليس من العلماء .
وعلينا جميعاً تَجنُّب الوقوع في هذا المأزق الخطير ، فنحن حتى وإن كنا نخشى الله سبحانه من خلال ترك المحرمات والإلتزام بالواجبات ولكن علينا أن لا نعتبر أنفسنا من الخاشين حتى نكون من العلماء ، لأن العلماء لا يعتبرون أنفسهم علماء لأن من ظن إنه عالم فقد جهل ، كما يُنقَل عن البعض .
التأمل التاسع عشر:
هناك الكثير من الطاقات العلمية في المجتمعات الإسلامية وتريد مُتَنَفَّساً لطاقاتها ، فيحاول بعضهم أن يلتحق بالزمالات والبعثات الدراسية – خاصة تلك التي تكون بدعم من الدولة – لتطوير قابلياتهم العلمية ولكي يقدّموا خدمة للبشرية من خلال المحافل العلمية الدولية .
ولا شك أن الإسلام يُؤيّد ويشجع هذه الطاقات ويريدها أن تتطور من دون أن تتقاطع مع الخشية من الله تعالى ، فإن تقاطعت مع تلك الخشية فتُقَدّم الخشية ، فإن قيل : وهل خدمة البشرية تتعارض مع خشية الله سبحانه ؟ نقول : إن ضَمِنّا وصول تلك البحوث العلمية الى أيادي أمينة فلا تتعارض ، أما إذا وصلت الى أيادي خبيثة – كما هو الغالب – فسوف لن تكون خدمة للبشرية وإنما لخدمة الخبثاء .
التأمل العشرون:
هناك الكثير من أسباب ومبررات الخشية ، وكلما كان الإنسان عالماً مدركاً لهذه الأسباب والمبررات وتمكّن من تجسيدها عملياً ولم تكن منحصرة على المستوى النظري كلما كان مُؤهَّلاً للخشية من الله تعالى ، والعكس بالعكس .
فهناك من يخشى الله تعالى خوفاً من ناره وعذابه ، أو يخشى حرمانه من نعيم الجنة ، أو الخشية من الوقوع في المحذور كالمرض أو الفقر أو البلاء بكافة أشكاله ، أو خشية من البقاء على مستوى ثابت وعدم التطور على المستوى الدنيوي والأخروي ، المادي والمعنوي ، فبعضٌ يخشى معصية الله تعالى لكي يتطور على المستوى الروحي والقرب الإلهي ، وهكذا غيرها من المبررات والأسباب ، وكلما توسّعت كلما قويت الخشية .
التأمل الحادي و العشرون:
من ثمار خشية الله عز وجل الخشوع في الصلاة ، وبما أن هذه الخشية تُنتِج علماءاً ، فهذا يعني أن من صفات العالِم أن يكون خاشعاً في صلاته ، وتزداد مرتبة علمه بزيادة خشوعه ، ومن لا يخشع فليس بعالِم ، وهو جاهل بمعنى من المعاني ، لأن العالِم يعرف ما لا نعرفه نحن من معاني الصلاة ، وهذه المعرفة تجعله خاضعاً متذللاً خاشعاً لأنه يعرف أمام مَن يقف ومَن يكلّم ، ويتعامل مع صلاته كمعراج يعرُج به الى بارئه وخالقه جل وعلا ( الصلاة معراج المؤمن ) .
والإطلاع على أسرار الصلاة والإبحار في عجائبها لا تتيسر لعامة الناس مهما كانت مراتبهم العلمية عالية من الزاوية الدنيوية المتعارف عليها ، وإنما هي خاصة بمَن منّ الله عليه بالعلِم الذي يعزه ويغفر له ما يعيقه عن الاستفادة من تلك الأسرار والمعاني .
التأمل الثاني و العشرون:
إن القرآن الكريم باعتباره الناطق الرسمي بإسم رب العزة والجلال يريد من الإنسان المؤمن العالِم في مجالٍ من مجالات الحياة أن لا يبتعد عن مصادر ومنابع الخشية من الله تعالى ، فوصوله الى مراتب عليا في العلم لا يمنع من ملازمة تلك المصادر والمنابع ، بل إن هذا الوصول يُلزم الواصل الى تلك الملازمة ، إما عرفاناً وشكراً لله عز وجل على هذه النعمة ، أو خشية من زوالها ، أو انقلابها الى أداة وسبب لخسارة الدنيا والآخرة والعياذ بالله .
ومن مصادر ومنابع الخشية من الله جل وعلا دور العبادة وما يقام فيها من عبادة كصلوات الجمعة والجماعة والفعاليات الدينية المختلفة ، وكذلك مجالس الوعظ والتبليغ التي تقام على مدار السنة في المناسبات الإسلامية ، فضلاً عن أداء الفرائض المحفزّة للخشية كفريضة الحج .
التأمل الثالث و العشرون:
نرى بعض الملتقيات الثقافية تجمع بين العلم والدين ، إذ يتم جمع مجموعة من الطلاب الأكاديميين واللقاء بهم وتنظيم فعاليات دينية مناسبة لمستواهم الفكري ومحاضرات توعوية لرفع مستوى الوعي الديني عندهم ، ويشرف عادة على مثل هذه الملتقيات نخب مثقفة من حملة الشهادات الجامعية ممن يحملون فكراً إسلامياً واعياً وأخلاقاً إسلامية رفيعة .
ولو دققنا في أساس تأسيس تلك الملتقيات لوجدناها نابعة من عمق الآية محل التأمل ، إذ تسعى هذه الملتقيات الى زرع بذرة الخشية عند أولئك الشباب قبل أن يتخصصوا ويكونوا علماء في المستقبل ، فزراعة الخشية عند الشباب أسهل بكثير من زراعتها عند الكبر .
* مشاركتها ثواب لنا ولكم
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views