الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
التأمل الأول :
من الضروري جداً أن يُربّي المؤمن نفسه على أن دخوله للجنة بفضل الله عز وجل وليس بعمله ، وفي الوقت نفسه أن دخوله للنار – والعياذ بالله – فَبِعَدلِ الله سبحانه وليس بذنوبه ، هذا المستوى من التفكير قد يفتفره أغلب المؤمنين بما فيهم الواعون ، لأن الثقافة المتجذرة عندنا أن الإنسان يدخل الجنة بحسناته ويدخل النار بسيئاته ، وهذه الثقافة تناسب المستوى الأولي والابتدائي للإيمان ، أما إذا ارتقى المؤمن في إيمانه فسيجد أنه لا فضل له في قيامه بالعمل الصالح وإن بفضل الله تعالى قام بهذا العمل ، وبفضل الله ابتعد عن ارتكاب المعاصي .
وهنا قد يسأل سائل : فهل هذا يعني أن هذا المستوى ( الراقي ) من التفكير يدعو الى ترك العمل الصالح واللجوء الى المعاصي معتمداً على فضل الله جل وعلا ؟ سنجيب عن هذا التساؤل في التأمل القادم إن شاء الله تعالى .
التأمل الثاني:
استكمالاً لما جاء في التأمل السابق فإن دخول المؤمن للجنة بفضل الله تعالى لا يعني أن يترك العمل الصالح ، وإنما أن لا يكون قصده دخول الجنة بثواب عمله وإنما بفضل ربه جل وعلا ، بعبارة أخرى ، أن الله سبحانه سيحاسب البشر إما بعدله وإما بفضله ، فمن يحاسبه بعدله سيدخل النار بلا ريب حتى وإن كانت أعماله الصالحة تزن جبالاً ، ومن يحاسبه بفضله سيدخل الجنة ولو كانت سيئاته تزن جبالاً ، ولا ندري هل سنحاسَب بعدل الله جل جلاله أم بفضله ، لذا فلا بد أن تكون نية المؤمن عندما يعمل صالحاً أو يترك ذنباً هو رجاء أن يكون حسابه وفق فضل الله عز وجل ولا وفق عدله ، بالنتيجة أن العمل الصالح مستمر وبوتيرة أعلى وترك الذنوب أيضاً مستمرة عسى أن يحلنا دار المقامة بفضله ، لأن عدله جل شأنه سيجعل النصب واللغوب يمسنا بل ويمسنا العذاب والعياذ بالله .
التأمل الثالث:
قد يستغرب البعض من أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله وأن العدل الإلهي يدخل الإنسان النار رغم أن أعماله تدخله الجنة ، هناك مثالٌ يُطرَح لحل هذا الاستغراب وهو :
لو أن شخصاً (مؤمناً) اشترى لحماً من قصّاب ، وبعد فترة بسيطة أراد استرجاع هذا اللحم الى القصاب لأي سبب من الأسباب ، وقبل القصاب بإرجاعه وإرجاع ثمنه ، وفق العدل الإلهي فلو أن مثقال ذرة من الدم المرافق للحم لم يرجع مع اللحم الى القصاب لاستحق المشتري العقوبة ، أما بفضل الله تعالى وكرمه فإنه يتجاوز عن هذا المقدار الضئيل ويغفره .
بعد ما تقدّم فمن يريد أن يحاسبه الله تعالى وفق العدل الإلهي سيصيبه نصب ولغوب ، بل وعذاب ، والمؤمن الواعي يطمح أن يدخله الله سبحانه دار المقامة بفضله جل وعلا .
التأمل الرابع:
إن الدار التي يمس العائلةَ فيه تعبٌ أو لغوب أو كلاهما فستكون غير مستقرة ، والمقصود بالتعب هنا ما يُرهق أفراد العائلة بلا فائدة يقبلها العقل أو الشرع ، إذ أن من الضروري توفير وسائل الراحة التي تسهّل عملية الوصول الى الأهداف التي خُلِقَ من أجلها الإنسان ، فأي تعب يؤثر على عبادته وثقافته الدينية والدنيوية النافعة ووعيه فهو مرفوض ، بضمنها التعب المؤدي الى خلق مشاكل تسبب الى تفكيك الأسرة .
كما أن صعوبة العيش من أبرز المشاكل التي تسبب لعدم استقرار الأسرة ، لذا فمن أولويات رب الأسرة هو الاهتمام بتحصيل مصادر الرزق له ولعياله ، بما في ذلك المصادر الغيبية كالدعاء والصدقة وغيرها ، وعلى أفراد العائلة أن يوجّهوا تعبَهم لاستحصال الرزق لتقليل التعب الذي يخلق المشاكل في أسرتهم ، بشرط أن لا يكون الرزق مصدراً من المصادر التعب المفكك للأسر .
التأمل الخامس:
من المؤكد أن الحياة المتعبة ستكون غير مستقرة ، وما يزيد من عدم استقراريتها أن يكون العيش والكسب فيها صعباً أيضاً ، لذا تهتم كثير من الدول بموضوع الفقر والبطالة والأمن الغذائي وما شابه ، عسى أن يجدوا بيئة مستقرة .
وهذا بلا شك شيء يطمح له الجميع ، ولكن إن تحدثنا بواقعية فإن تحقيق الاستقرار في الحياة الدنيا أمر مستحيل ، لأنها لم تُنشَأ للاستقرار ، لأنها دار ممر وليست دار مقر كما في الرويات ، على أن نأخذ من الممر الى المقر ، أما الذين يتحدثون عن الاستقرار فإنهم في الحقيقة غير مستقرين ، وأنهم يألمون كما نألم ، بينما نرجو من الله ما لا يرجون ، نرجو من الله تعالى في أن يحلنا دار المقامة بفضله ، وهم لا يرجون ذلك .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views