الملخَّص
تواجه إثيوبيا تحديات مُرَكَّبَة تسببت فيها عوامل محلية عديدة، تقف على رأسها المشكلات التاريخية، وإرث بُنيَة الدولة السياسية والمجتمعية، وتشكُّلها كإمبراطورية تضم قوميات وشعوبا متنوعة بشكل فسيفسائي عصي على التجانس بدون فلسفة تشاركية يؤمن بها الجميع، بجانب صعوبات الانتقال السياسي في دولة ما بعد الاستعمار في إفريقيا بشكل عام، وكذلك فشل محاولات بناء الأمة/الدولة، فضلا عن ذلك، فإن ظاهرة صعود “الرجل القوي”، في أعقاب تأثيرات انتشار جائحة وباء كورونا، وكذلك وجود توجهات إقليمية معادية للديمقراطية، قد ألقت بظلالها على عملية الإصلاح والانتقال الديمقراطي في إثيوبيا.
يمكن التأكيد في ظل كل تلك العناصر، على أن الأزمة السياسية الراهنة إنما استندت في تخلُّقها إلى الجدل بين الفاعلين السياسيين الرئيسين في البلاد حول مستقبل النظام السياسي القائم حاليا على مبدأ “الفيدرالية الإثنية” التي جعلت المواقف بين أولئك الفاعلين تتباعد إلى مستويات خطيرة من الاستقطاب الوطني، قد يكون من الصعب معها إيجاد أرضية يمكن أن تُبنى عليها حالة إجماع سياسي.
إن الأزمة الأثيوبية الراهنة التي لها جذورها الممتدة في التاريخ المعاصر لهذه الدولة، بدأت تثير التساؤل الجديَ حول مصير الإصلاحات الجذرية التي أطلقها رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي “آبي أحمد” منذ اعتلائه منصب رئاسة الوزراء قبل حوالي سنتين ونصف.
إن أبرز ما كشفت عنه الأزمة الراهنة في أثيوبيا، هو الانتكاسة الخطيرة التي تعرضت لها مسيرة الانتقال الديمقراطي التي كانت قد هدفت إليها إصلاحات “أبي أحمد”، ما جعل البلاد تنزلق فجأة إلى أتون نزاع سياسي، سرعان ما تحول إلى نزاع مسلح بين الحكومة الفيدرالية وإقليم “تيغراي”.
المقدمة
مع إسقاط نظام “منغستو هيلا مريام” سنة 1991، تكرست قوة “جبهة تحرير تيغراي” بوصفها القوة المعارضة الأبرز والأكثر تأثيرا في عموم البلاد، مع أن هذه الجبهة كانت جزءًا من ائتلاف معارض عُرِف باسم: “الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا” الذي كان يضم في صفوفه فضلا عن “جبهة تحرير تيغراي”، كلا من:
أ – “منظمة شعب الأورومو الديمقراطية”.
ب – “حركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية”.
ج – “الحركة الديمقراطية لشعوب وقوميات جنوب إثيوبيا”.
لكن “جبهة تحرير تيغراي” هيمنت على مفاصل هذا الائتلاف، وتميَّز مشروعُها السياسي بطرح نظام “الفيدرالية الإثنية”، في سياق فلسفة “الديمقراطية الثورية”.
وبخلاف المبدأ المهيمن على الحراك السياسي في البلدان الإفريقية الأخرى، حيث يُنظر إلى الإثنية التي تقوم عليها فلسفة “جبهة تحرير تيغراي” بنظام: “الفدرالية الإثنية”، على أنها سبب جوهري للصراعات، حيث قامت الفلسفة السياسية للجبهة على تقديم نظام “الفيدرالية الإثنية” باعتباره – كما تعتقد – العلاجَ الناجع للمعضلات السياسية والمجتمعية الموروثة من ماضي البلاد.
بينما جاء رئيس الوزراء “آبي أحمد” من مرجعية سياسية وثقافية تؤمن بفلسفة جديدة للحكم مُغايرة جذريا لما تقوم عليه فلسفة “جبهة تيغراي”. وتقوم الفلسفة التي يدعو إليها رئيس الوزراء الإثيوبي على مبدأ يُعرف في إثيوبيا بـ “ميدير”، التي هي كلمة أمهرية تعني “معا” أو “التآزر”. وهي فلسفة تسعى لتقديم أطروحة مغايرة تماما لأطروحة “جبهة تحرير تيغراي”، مُكَرِّسَة القطيعة مع نظام “الفيدرالية الإثنية” الذي تدعو إليه تلك المنظمة.
إذ يجادل “آبي أحمد” بأن “القومية الإثنية”، أو “الدولة القومية متعددة الإثنيات”، وليس “الفدرالية الإثنية”، أو “الدولة الوطنية متعددة القوميات” – كما تدعو إلى ذلك جبهة تيغراي – هي التي يمكنها أن تمضي بالبلاد بكافة مكوناتها يدا بيد إلى المستقبل، لتنسجم وتتماهي مع ما يدعوه “آبي أحمد” بـ “القومية المدنية” التي تركز على الحقوق الفردية للمواطنين.
مع عملية اغتيال الفنان الشاب “هنديسا” في حزيران من العام 2020، وهو الذي كان يمثل أيقونة “ثورة شباب الأورومو”، واعتقال رموز المعارضة البارزين وتقديمهم للمحاكمات، بدا أن طريق إثيوبيا نحو مستقبل أكثر استقراراً وحرية وديمقراطية يتعرض للخطر بشكل متزايد.
ولكن من الضروري الاعتراف بأن لهذه التطورات التراجيدية التي بدأت باغتيال الفنان الشاب الأيقونة، والتي آلت إلى نزاع سياسي عميق، انزلق إلى نزاع مسلح، جذوراً صنعتها وأسست لها وأدت إليها، وتنذر بتفاقمها، وفي أحسن الأحوال يمكن كمونها لتنفجر في المستقبل، إن لم يتم استئصال مُسَوِّغاتِها التاريخية التي وَلَّدَتها، والتي من بينها، بل وعلى رأسها “طبيعة النظام الفيدرالي وتشوهاته المتراكمة”.
نبذة تاريخية وقراءة في الجذور
يُرجِعُ كثير من المراقبين المتخصصين المطلين إطلالا متعمِّقا على الشأن الإثيوبي، جذور كافة الأزمات السياسية التي تواجه إثيوبيا إلى نظام “الفيدرالية الإثنية”، وهو نظام يتبنَّاه تيار سياسي تاريخي متجذر في الداخل الإثيوبي.
وقد أدت الوتيرة السريعة لعملية الإصلاح، ومساحة الحرية التي وفرها عقب وصول “آبي أحمد” إلى السلطة، في أبريل/نيسان 2018، إلى تغذية وتيرة الصراع بين الموروثات السردية التي زخر بها التاريخ الإثيوبي، وكانت أكثر تلك السرديات رواجا وهيمنة وقدرة على الحشد المعادي لفلسفة الإصلاح الجديدة التي بدأت مع اعتلاء “أبي أحمد” رئاسة الوزراء في البلاد، تلك التي ينادي بها ويدعو إليها “القوميون الأورومو”، الذين يعيدون تفسير تاريخ البلاد الإمبراطوري من منظور “الاستعمار الداخلي”.
حيث يهيمن على خطابهم السياسي وعلى مرجعيتهم الأيديولوجية، ذلك الحضورُ اللافت لشخصية تاريخية رمزية بالنسبة للمجد الحبشي، هي شخصية الإمبراطور “منيليك الثاني” الذي حكم البلاد في الفترة من “1889” إلى “1914”، قاد خلالها حملات عسكرية كبيرة، وسَّع بها حدود “الإمبراطورية الحبشية” في أواخر القرن التاسع عشر، فتضاعف بموجب هذه الحملات التوسعيَّة حجم الأراضي التي تسيطر عليها “الإمبراطورية” وتم إخضاع القوميات الأخرى لقومية “الأورومو”.
مع بدء عملية الإصلاح الكبرى التي قادها “آبي أحمد”، أبدى “القوميون الأورومو” انتقادا واضحا لما اعتبروه “الميل المتزايد لرئيس الوزراء نحو الأجندة الكبرى المميِّزَة للمشروع السياسي للأمهرا، وتحديدا رفضه لنظام الفيدرالية الإثنية كليا”. وهو الأمر الذي بدأ يغذي في الخفاء بذور التمرد على الظاهرة الإثيوبية الجديدة المتمثلة في “الدولة القومية الوطنية متعددة الإثنيات”، للعودة إلى “الدولة الفدرالية متعددة القوميات”.
وفي المقابل، يرى التيار الرئيس في الأوساط الأمهرية، أن صعود آبي أحمد إلى السلطة بفلسفته الإصلاحية الجديدة هذه، قد ساعد على صعود تيار قومي متشدد وسط “القوميين الأورومو”، يطلقون عليهم حاليا “المتطرفين الإثنيين الأورومو” أو “القبليين الأورومو”، قد يجرُّون البلاد إلى مصير التفكك على غرار يوغسلافيا السابقة، بل نحو “نموذج رواندا”.
صعود “أبي أحمد” واستفحال الصدام بين الإثنيات
إن محاولات آبي أحمد لـ “ترويض” تيار “القوميين الأورومو”، منذ العام 2018، قادت إلى صدام حقيقي بين القوميات الرئيسة، وقد تجلى ذلك من خلال النموذجين التاليين:
أ – “القوميون الأورومو” وموقفهم من “آبي أحمد”
رغم الحديث عن “القوميين الأورومو” ككتلة متماسكة، إلا أن هذا التيار يضم عدة مُكَوِّناتٍ تراكمَ خطابُها على مدار التاريخ الحديث منذ نشوء الحركة السياسية لهذه الإثنية، ولكن ما يميز هذا التيار وحدة الخطاب مع اختلاف كياناتهم التنظيمية، إذ إن السرديات الحديثة للقوميين الأورومو مناهضة بشكل جذري لكافة أشكال الهيمنة الأمهرية.
وقد واجه “آبي أحمد” ومشروعُه السياسي تحدياتٍ جمَّة، وتحديدا من الإثنية التي ينتمي إليها وهي قومية “الأورومو”، وقد تمثلت هذه التحديات فيما يلي:
1 – أن سياسته الملموسة جعلت “الأورومو” يعتبرون نظامه امتدادا للحكومات المركزية التي اتَّسَمت بالقمع والإخضاع الممنهج لشعب الأورومو خصوصا، بجانب تحالفه الوثيق مبكرا مع طبقات مهمة من شعب الأمهرا.
2 – عدم الاعتراف الحقيقي به لدى قطاعات واسعة من “الأورومو” كممثل سياسي موثوق يمكن أن يحقق طموحاتهم، إذ إنه كان قد تحدَّر سياسيا من “منظمة شعب الأورومو الديمقراطية” التي أسستها “جبهة تحرير تيغراي” بعد وصولها السلطة عام 1991، من أسري الحرب السابقين، فضلا عن وجود شخصيات ذات خبرة وشعبية منافسة له في صفوف “الأورومو”، من أبرزهم: “جوهر محمد”، و”بيكلا قربا”، و”لما مقيرسا”، فضلًا عن تنظيمات سياسية قوية منافسة لحزبه ومشروعه السياسي، وقد تكتلت ضمن تيار “الفيدرالية الإثنية”.
3 – تردُّد “آبي أحمد” المبكر في تحقيق المطالب التي يعتبرها “الأورومو” خطوطا حمراء ومقياسا للولاء لمشروعهم القومي، وتحديدا مسألة “اللغة الأورومية”، وحسم التبعية للعاصمة “أديس أبابا” بشكل جذري خلال الفترة الانتقالية، منذ العام 2018 وحتى الآن.
وخَطا “القوميون الأورومو” خطوة أكبر وأكثر خطورة، وذلك بإعلانهم، بقيادة القس “بيلاي مكونن”، في مطلع سبتمبر/أيلول 2019، عن تأسيس ما أطلقوا عليه “كنيسة أوروميا الأرثوذكسية”، وهي خطوة اعتُبرت مساسا بأحد أهم ثوابت الحياة الاجتماعية والسياسية في إثيوبيا، حيث تُعتبر هذه الكنيسة ذات نفوذ كبير على الحياة العامة في البلاد.
وانطلاقا من حالة الانسداد التي بلغتها الأزمة السياسية في البلاد حاليا، بات “القوميون الأورومو” يصفون حقبة “آبي أحمد” بـ “نظام النفتجنا الجديد”، أي إنه يمثل استمرارا للهيمنة التاريخية لنخب الأمهرا.
ب – “القوميون الأمهريون” وموقفهم من “آبي أحمد”
ينطلق “القوميون الأمهريون” من افتراض أن مفهوم “الأمهرا” ليس مفهوما قوميا عرقيا، وينتقدون نظام الفيدرالية الإثنية القائم حاليا بصفته يقوم على مبدأ القوميات العرقية الذي عفا عليه الزمن، والذي لا يمكن لقومية حقيقية أن تقيم مشروعَها استنادا إليه. وهناك تياران يمثلان النزعة القومية وسط الأمهرا، وهما:
1 – “حركة الأمهرا الوطنية/ناما”:
تأسست في يوليو/تموز 2018، وتدعو للدفاع عن “شعب الأمهرا” في وجه الاضطهاد والقمع الذي ظل يتعرض له، كما أنها تسعى جاهدة للارتقاء بتطلعات القومية الأمهرية.
2 – “حزب بالاداراس للديمقراطية الحقيقية”:
وعُرِفَ عند تأسيسه بـ “مجلس بالاداراس”، وهو كيان للدفاع عن حقوق سكان العاصمة ومناهضة مزاعم “القوميين الأورومو” بتبعية العاصمة “أديس أبابا” إلى إقليم أوروميا.
وضمن هذا الخطاب القومي، يجري أيضا تصوير عمليات القتل ضد الأمهرا على أنها استمرار لنهج التطهير العرقي الذي ظل يُمارَس ضدهم في العقود الأخيرة في مختلف أنحاء البلاد.
وخلاصة الأمر، أن النزعة القومية لدى الأمهرا حاليا باتت تحمل وجهين بوضوح، فهي تدافع عن أجندة وحدوية وطنية، وفي نفس الوقت تدافع عن شعب الأمهرا بالمفهوم القومي الإثني الضيق.
ج – تأسيس “حزب الازدهار الإثيوبي”
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أعلن رئيس الوزراء عن مشروع لحل الائتلاف الحاكم سابقا “الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا”، والذي كان يقوم على مكونات إثنية. وقد فُهمت تلك الخطوة على أنها معاكسة تماما لطموحات شعوب البلاد ومجموعاتها الإثنية، وأن “آبي أحمد” يهدف منها إلى العودة للنظام الوحدوي، وأنه سيُعيد إخضاع هذه الإثنيات تحت هيمنة “الأمهرا” وإمبراطوريتهم.
كما كانت خطوة تأسيس الحزب بمنزلة طلاق بين “آبي أحمد” من جهة، وتيار “القوميين الأورومو” الذين رأوا فيه تراجعا عن مشروع “الأورومو أولا”، كما رأوا في تأسيس الحزب تهديدا لنظام “الفيدرالية الإثنية”، حيث جرى الإعلان عن قيام تحالف يضم التيارات المؤمنة بالفدرالية الإٌثنية، تحت اسم تحالف “الفيدرالية الديمقراطية متعدِّدة الإثنيات”، في 3 يناير/كانون الثاني 2020.
غير أن تأسيس “حزب الازدهار الإثيوبي”، مثل خطوة نحو تقارب مؤقت بين “آبي أحمد” والتيار الرئيس وسط “الأمهرا” للسببين التاليين:
أولا: رفض نظام الفيدرالية الإثنية وكافة الترتيبات الدستورية التي يستند إليها، وبالتالي البحث عن هوية وطنية بعيدا عن الإثنية الضيقة، وكذلك استعادة أمجاد الأمهرا وتكريس حقوقهم ومكتسباتهم.
ثانيا: عرقلة صعود تيار “القوميين الأورومو” إلى السلطة من خلال الانتخابات التي كان مقررا إجراؤها في مايو/أيار، أو أغسطس/آب من العام 2020.
الأزمة الدستورية وانتخابات إقليم “تيغراي”
كان من الطبيعي بعد بلوغ عملية الإصلاح مرحلة الانسداد التام، أن تطفو على الأحداث في البلاد أزمة دستورية حقيقية، خاصة بعد الفشل في إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري. وقد أدى تعليق إجراء الانتخابات إلى دخول البلاد عمليا في فراغ دستوري وبالتالي في أزمة سياسية كبرى.
وفي محاولة منها لتجنُّب التداعيات السياسية لذلك الفراغ، تقدمت الحكومة، عبر نائب المدعي العام، في 30 أبريل/نيسان 2020، بأربعة مقترحات لحل الأزمة الدستورية التي تلوِّح بالبلاد، كي يتم اعتماد أحدها، وهي:
1) حل البرلمان. 2) إعلان حالة الطوارئ. 3) تعديل الدستور. 4) المطالبة بتفسير دستوري.
في الخامس من مايو/أيار 2020، اعتمد البرلمان التوصية الرابعة، ألا وهي “التفسير الدستوري”، وأوصت لجنة التحقيق الدستوري، في 6 يونيو/حزيران 2020، بتمديد فترة أعضاء البرلمان والمجلس الفيدرالي والمجالس الإقليمية والمسؤولين التنفيذيين والإقليميين، وإجراء الانتخابات في فترة تتراوح بين 9 إلى 12 شهرا، ليعتمد المجلس الفيدرالي، في 10 يونيو/حزيران تلك التوصيات.
بينما اعتبرت القوى المعارضة الرئيسة بالبلاد أن كافة المؤسسات الفيدرالية، بعد تاريخ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2020، ستكون غير دستورية، ودعت المعارضة إلى تنظيم حوار وطني شامل لإيجاد مخرج من تلك الأزمة.
مع أن “آبي أحمد”، ومنذ وصوله للسلطة، جعل رئيس الوزراء من “جبهة تحرير تيغراي”، إلا أن ذلك لم يمنع من وقوع عمليات تطهير واسعة استهدفت قياداتَها. كما أن رفض الجبهة لما قام به “آبي أحمد” عندما ألغى الائتلاف الحاكم المعروف بـ “الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا”، ليؤسِّسَ على أنقاضه “حزب الازدهار الإثيوبي”، شكَّل مرحلة أخرى من الصراع بين “جبهة تحرير تيغراي” وبين “آبي أحمد”.
وفي فترة لاحقة، بلغ الصراع بين الطرفين ذروتَه، على خلفية تعليق إجراء الانتخابات العامة التي كان مقررا لها أن تجري في أغسطس/آب 2020، حيث تمسكت حكومة “إقليم تيغراي” بإجرائها في موعدها الدستوري، وأُجريت في الإقليم فعلا في 9 سبتمبر/أيلول 2020، واعتبرها المجلس الفيدرالي “الغرفة الثانية” “غير دستورية”.
وفي 6 أكتوبر/تشرين الأول 2020، تبنَّت الغرفة الثانية من البرلمان قرارا يلزم الحكومة الفيدرالية بقطع العلاقات مع حكومة وبرلمان “إقليم تيغراي” اللذين تشكَّلا وفق انتخابات الإقليم تلك.
وفي سياق ذلك الصراع، حذَّرت “مجموعة الأزمات الدولية”، من عواقب الخلافات المتصاعدة بين الطرفين، وأن هذا الوضع يدفع الحكومة الفيدرالية للتدخل عسكريا في الإقليم، وهو ما وقع بالفعل مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
من المعلوم أن النظام الفيدرالي الإثيوبي يعطي الأقاليم حق تكوين قوات أمنية خاصة بها، ما أدى إلى التوسع في إنشاء هذه القوى التي لا تخضع لسيطرة مركزية بالضرورة. وبموازاة ذلك، تصاعدت وتيرة الصراع بين التيارات القومية “الإثنية”، حيث وقع تسابقٌ بين الأقاليم القائمة على أساس إثني أصلا، على بناء قواتها الخاصة، وعلى مُراكمة الأسلحة، وتأسيس الميليشيات المسلحة، والانخراط في النزاعات. وقد زاد ذلك من التعقيدات التي تواجه البلاد.
الآفاق والسيناريوهات المحتملة
في ضوء الأزمة السياسية التي وصلت إلى مرحلة خطيرة في الوقت الراهن، ستبقي البلاد عالقة بين السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: الوحدويون في مقابل القوميين..
يتضمن هذا السيناريو إمكانية نجاح رئيس الوزراء في تطبيق فلسفته السياسية الجديدة والتي تقوم على محاولة إرساء نظام سياسي جديد يقوم على رابطة المواطنة بدلا من رابطة الإثنية التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار والتفكك، وهو سيناريو مستبعد على المدى القصير. ولكن يمكن لهذا النظام الجديد أن يخلق جسورا بين الحزب الجديد “حزب الازدهار الإثيوبي” وبين بعض تيارات الأمهرا التي ترى في الأفكار العامة للفلسفة السياسية للحزب على أنها ترجمة عملية لخطابها السياسي وتحقيقا لتطلعاتها في مراحل ما بعد سقوط نظام “منغيستو هيلا مريام”، والذي يُعرف أيضا بأنه ترجمة لرؤية رئيس الوزراء، آبي أحمد: “جعل إثيوبيا عظيمة مرة أخرى”.
السيناريو الثاني: إعادة إنتاج تجارب الأنظمة السلطوية السابقة..
غالبا ما يؤدي الانسداد السياسي إلى اضطرابات وتأزُّم، وهو ما قد يعيد إنتاج التجارب الإثيوبية السابقة والأليمة. ويلاحظ المراقبون قمعا حكوميا متصاعدا للمعارضة، قد تدفع برئيس الوزراء إلى إعادة النظر في حساباته، للمواءمة بين الاحتفاظ بسمعته كقائد سياسي صاعد في إفريقيا، وحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2019، وفوق ذلك حاصل على درجة الدكتوراه في بناء السلام، وبين ثمن استمراره في السلطة عبر سياسات سلطوية قمعية ستشوِّه صورته خارجيا، ولكن من دون قدرة فعلية على الاحتفاظ بالسلطة في ظل مقاومة سياسية كبيرة ضد نظامه على أكثر من جبهة.
السيناريو الثالث: إجراء انتخابات غير مضمونة النتائج..
يبقي هذا الاحتمال راجحا بشكل كبير، في حالة فشل المشروع السياسي لرئيس الوزراء، وتصاعد وتيرة المعارضة ضده، إذ من المحتمل أن يلجأ “آبي أحمد” إلى إجراء الانتخابات كوسيلة لاكتساب شرعية دستورية، وللرد على تشكيك المعارضة في شرعيته، إذ أنه وصل سِدَّةَ الحكم عبر إصلاحات داخلية في الائتلاف الحاكم، وليس عبر انتخابات شفافة ونزيهة وتنافسية. كما أن تأجيل الانتخابات العامة عبر كتدابير أحادية قد يتسبب في أزمة دستورية، كما قد يؤول إلى إعلان حالة الطوارئ لإسكات المعارضة واستهداف رموزها الفاعلين، وهو ما سيعمق من الأزمة السياسية في البلاد، ولن يؤدي إلى إحداث استقرار سياسي ولا إلى حل مشكلة شرعية رئيس الوزراء نفسه.
حول دور مفترض لمصر في الأزمة الإثيوبية
يعتقد البعض أن مصر تُعَدُّ أكبر المستفيدين من اندلاع حرب أهلية في إثيوبيا تأكل الأخضر واليابس هناك، وأن هناك من ثم دورا مخابراتيا حقيقيا للقاهرة أسهم في اشتعال الموقف في “إقليم تيغراي” مؤخرا.
في الواقع إن من يتصور ذلك إنما يتجاهل الوقائع على الأرض، ولا يُفَكِّك على نحو صحيح ومتماسك منظومات المصالح والأضرار، وحزم المستفيدين والمتضررين من الأزمة التي تعصف بإثيوبيا، وتهدِّد بتفكيك الدولة الإثيوبية. ونسجوا في خيالهم تقديرات روجوا لها في بعض وسائل الإعلام، اعتمدوا فيها على الأزمة الناشبة بين القاهرة وأديس أبابا بسبب “سد النهضة”.
في تصورنا يخطئ أنصار هذا التصور غير المدروس للأسباب التالية:
الأول: لأن “السد الإثيوبي” أصبح أمرا واقعا، بصرف النظر عن مصير الحكومة الراهنة في إثيوبيا، ومن ثم فإن أيَّ تغيير في إثيوبيا لن يغير من واقع أن السد قد أصبح حالة مادية ملموسة، لا تتفكك إلا بحرب قد تكون مدمرة، وهو ما لا يفكر فيه أيُّ طرف، على الأقل في المدى المنظور.
الثاني: لأن الخلاف بين مصر وأثيوبيا حول السد أصلا ليس قائما من حيث المبدأ على أهمية السد التنموية، بل على طرق الملء والتشغيل والحفاظ على مصالح جميع الأطراف، عبر التوصل إلى اتفاق ملزم لتلك الأطراف، ومن ثم فليست العبرة بإثارة القلاقل في إثيوبيا، لأن شيئا من ذلك لا يضمن شيئا مما تريده مصر، فالأمر برمته تقني وليس سياسيا، وإن كان يتطلب ضغطا سياسيا لفرض الجانب التقني.
الثالث: إن مشروع “سد النهضة” يكاد يكون هو نقطة الإجماع الوحيدة بين المكونات السياسية والإثنية في إثيوبيا، وهو سند الشرعية الأساسي لأيِّ قوة سياسية منافسة للحكومة الراهنة، في بلد ممزق يتلمس بصعوبة بالغة طريقه لسد احتياجات مواطنيه، ومن ثم لا يمكن لمصر أن تراهنَ على زحزحةِ طرفٍ من السلطة لأنه يناكفها في مسألة السد، لإيصال طرف آخر يؤملُ في ألا يناكفَها، ما دام مشروع السد يمثل حالة إجماع وطني عامة، تكون هي الوحيدة بين جميع الفرقاء السياسيين الإثيوبيين.
الرابع: إن مشروع السد يُعتبر قضية دولة تبحث عن التماسك الداخلي، بقدر ما هو ضرورة تنمية، ومن ثم لم يكن مشروع السد إلا ضمانة للتماسك الداخلي، وما كان التعنت الإثيوبي في المفاوضات إلا مانعا لصواعق الحرب الأهلية لوصف ذلك التعنت هو العنصر الجامع، ومن ثم يفترض البحث عن عناصر ومسوغات الأزمة الإثيوبية الراهنة في البُنيَة السياسية والمجتمعية الهشَّة للدولة الإثيوبية، بعيدا عن أي فرضيات تفتقر إلى التماسك المنطقي.
الخامس: إن مصر تخشى خشية حقيقية من استثمار بعض القوى الخارجية للأزمة الإثيوبية والعمل على تكريسها وتحويلها إلى حالة دائمة، وإشاعة المزيد من الفوضى في المنطقة من خلال ديمومتها تلك، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تعميم حالة الانفلات الأمني في هذا الإقليم الحساس بالنسبة للأمن القومي لمصر.
إن مصر التي تخوض ما تعتبره حربا ضارية ضد الإرهاب في الداخل، ترى أن نكبتَها تكمن في روافده الخارجية، التي بدأت معظمها تتخذ من إفريقيا المتاخمة لمصر منبعا إستراتيجيا لها، بدءا من ليبيا، ومرورا بالسودان، وليس انتهاء بالصومال، وهي من ثم – أي مصر – غير مستعدة لأن يتسلل نفوذ هؤلاء – الإرهابيين – إلى إثيوبيا عبر التأسيس لتفكيكها وإشاعة الفوضى فيها، مع استمرار تفكك الصومال، ومع مخاطر الوضع في كل من السودان وليبيا.
فانزواء مصر وانكفاؤها على نفسها في ذلك الركن القصي من الشمال الشرقي لإفريقيا، محاصرةً من السودان التي يكتنف مستقبلها الغموض جنوبا، ومن ليبيا وعدم اتضاح الرؤية بخصوصها غربا، يجعلها أكثر من غيرها حرصا على ضمان أن تبقى إثيوبيا مستقرة، كيلا تزيدَ طينَ أمنِ مصر الداخلي بِلَّةً، وكيلا تكون هذه الدولة هشَّة البنيان السياسي والمجتمعي أصلا، بمثابة أداة “الفِرجار” الذي يُكمِلُ دائرةَ ما تسميه مصر بـ “الإرهاب الإقليمي”، الذي تعتبره عدوها اللدود، إذا ما قُدِّرَ لإثيوبيا أن تتموضع في فضاء النزاع الإثني الذي إن لم يؤدي إلى التفكُّك بكل مخاطره، فقد يؤدي إلى الفوضى بكل كوارثها.
د. أسامة عكنان (باحث أردني
رابط المصدر: