يستند النظام الدولي إلى مجموعة من التحالفات والمنظمات الدولية والإقليمية، وكذلك القواعد والمتطلبات والإجراءات التي تتضمنها المعاهدات أو الاتفاقيات الدولية، فضلا عن المعايير الطارئة والمخطط لها، وأهم ما يميّز النظام الدولي هو استقراره وتنظيمه فإذا افتقد هذين العاملين انتفت عنه صفة النظام بتحوله إلى فوضى أو علاقات عشوائية.
هناك ثلاثة أنماط للنظام الدولي، الأول نظام يسوده توازن القوى بين الدول الفاعلة، والثاني نظام يتسم بقيادة دولة مهيمنة واحدة، ونظام ثالث تتم إدارة تفاعلاته عن طريق التوافق بين مكوناته، ويضم النظام الدولي مجموعة كبيرة من المؤسسات والمنظمات التي تعمل على إنشاء قواعد ومعايير وإجراءات منظمة لتفاعلات الدول، وسواء كانت هذه المنظمات رسمية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، أو غير رسمية مثل مجموعة العشرين ومجموعة دول الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، كما يضم النظام الدولي العديد من المنتديات والمنظمات مثل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
يتفق الكثير من الباحثين بأن النظام الدولي الراهن يمر بتحولات واضحة على صعيد السياسة والاقتصاد وطبيعة التفاعلات بين عناصره ومكوناته، حتى أنه بات من الصعوبة تحديد طبيعته فيما إذا كان أحادي القطب أم تتعدد فيه مراكز القوى التي تتقاسم الهيمنة والنفوذ على مناطق العالم، وتسعى الولايات المتحدة إلى ترسيخ النظام الدولي الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق والذي حقق لها تفرداً بقيادة تفاعلات هذا النظام وأتاح لها إمكانية تأمين مصالحها من خلال تبنّي استراتيجيات إنشاء مؤسسات اقتصادية دولية ومنظمات أمنية إقليمية تعمل تحت رعايتها وفق معايير سياسية منسجمة مع الأهداف الأمريكية.
لكن النظام الدولي الذي أوجدته الولايات المتحدة وسعت إلى تعزيزه بات يواجه مخاطر وتحديات وبالتالي قد تكون مصالح الولايات المتحدة التي يحافظ عليها هذا النظام في خطر وتتمثل هذه المخاطر في أن العديد من الدول وخصوصاً الفاعلة منها قد بدأت تتحرك باتجاه إصلاح النظام الدولي الذي تدرك أن عناصره تسهم في تقييد قوتها لصالح استمرار الهيمنة الأمريكية، وكذلك حدوث تقلبات في سمات النظام الدولي نتيجة انهيار أو ضعف بعض الدول المهمة وحدوث أزمات اقتصادية مؤثرة فضلاً عن حدوث تغيير في سياسات الكثير من الدول على الصعيدين المحلي والخارجي بما يتناسب مع التحولات التي يشهدها العالم.
وعند الحديث عن النظام الدولي فلا بد من التطرق إلى شرعيته التي تعتمد على إيمان الدول جميعها أو الأغلبية العظمى منها بأن المشاركة في تفاعلات هذا النظام يحقق لها الفائدة والمنفعة، بمعنى أن النظام الدولي بعناصره ومكوناته وتفاعلاته هو محل رضا وقبول من قبل أغلب الدول، ويبدو أن هذا الإيمان غير متحقق حاليا من قبل عدد غير قليل من الدول بضمنها دول كبرى تنظر إلى النظام الدولي الحالي على أنه من تأسيس الولايات المتحدة وضامناً لمصالحها دون مراعاة لمصالح الدول الأخرى.
إن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية استندت إلى فكرة رئيسية تتمثل في ضرورة وجود علاقات قائمة على أساس تبادل المصالح بين الولايات المتحدة ونظام دولي مستقر، لكن التحولات التي طرأت على سمات النظام الدولي توحي بتعرض هذا النظام للتهديد وعدم قدرته على مقاومة المزيد من الاعتراضات على إستراتيجية الولايات المتحدة خصوصا في ما يتعلق بالترويج للديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب وتوظيفها من قبل الولايات المتحدة بقصد التدخل في الشؤون الداخلية للدول المناوئة للسياسة الأمريكية.
ولعل من السمات البارزة للنظام الدولي الحالي هو تلاشى دور التحالفات الإيديولوجية القوية التي كانت قائمة أثناء الحرب الباردة لصالح بعض التفاهمات أو الاتفاقيات النفعية المرحلية بين الدول التي تجمعها مصالح مشتركة، فباتت التحولات السريعة في المواقف والسياسات الدولية هي الغالبة على مجمل تفاعلات عناصر النظام الدولي.
وعلى هذا الأساس يحدد المختصون في الدراسات الدولية مجموعة من التهديدات للنظام الدولي الحالي منها بروز قوى ساعية لإصلاح هذا النظام بالإضافة إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي من قبل دول وجماعات مسلحة وكذلك تحديات الحوكمة وتوازنات القوى المتغيرة، وبدأ يساور الأمريكيين توجساً من احتمال حدوث تغيير في سمات النظام الدولي بما يتضمن خطر على المصالح الأمريكية إذ يقول الدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هاس: “إن التوازن الحالي بين النظام والفوضى يتأرجح لصالح الفوضى”.
ويبدو إن الخشية الأمريكية بدأت تتزايد بسبب الانتشار غير المنظم للسلطة والقوة والمسؤولية الأمر الذي قد يشكل زيادة اضطراب النظام الدولي وتخبطه، في وقت ترى فيه الستراتيجية الأمريكية أن القيادة الأمريكية القوية والمستدامة تُعد ضرورية لترسيخ نظام دولي مستقر يقوم على قواعد تعزيز الرفاهية والأمن العالميين.
ويمكن وصف النظام الدولي الحالي بأنه نظام يتسم بهيمنة الولايات المتحدة على القضايا التي ترتبط بالمصالح الستراتيجية الحيوية الأمريكية، في حين تسمح الولايات المتحدة لبعض الدول ذات القوة والمال بمشاركتها في المواقف واتخاذ القرارات في القضايا التي لا تمس المصالح الأمريكية بشكل مباشر، أما في القضايا الدولية التي لا علاقة لها بالمصالح الحيوية الأمريكية فأن الولايات المتحدة تسمح بالوصول إلى تفاهمات بشأنها عن طريق آلية التوافق.
ويبدو أن الولايات المتحدة تواجه تحدياً يكمن في تحديد أي أنواع الأنظمة التي تخدم مصالحها الحيوية في ظل قيام بعض الدول مثل روسيا والصين بتحدي عناصر النظام الدولي الليبرالية مثل دعم حقوق الإنسان والديمقراطية في وقت تدعم بشدة العناصر المحافظة مثل معايير السيادة وسلامة الحدود.
تدرك الولايات المتحدة جيداً انه لا يمكن لنظام دولي أن يكون مستداماً إذا لم يكن قائما على أساس من التفاهمات والقيم المشتركة بين أعضائه وقدرٍ من العدالة يمنح فرصاً لتقاسم السلطة ومشاركة كل من الدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء. ولعل السؤال الأهم بهذا الخصوص هو هل يمكن أن يسمح النظام الدولي الحالي للدول التي لا تحمل القيم الليبرالية بالمشاركة في فعالياته؟ بمعنى آخر هل يمكن للدول انتقاء واختيار العناصر التي تريدها وترفض العناصر التي لا ترغب بها؟.
فلو أخذنا روسيا على سبيل المثال، فهي تسعى إلى الاستفادة من التجارة العالمية والاستثمار الأجنبي المباشر في تعظيم قدراتها، في حين تتجاهل المعايير الأخرى مثل الاعتداء على سيادة الدول وحقوق الإنسان والديمقراطية، أمّا الصين فتعمل على الاستفادة من حرية التجارة العالمية دون الالتزام بطابعها الليبرالي في نواحي كثيرة، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية فإنها تنتقي من سمات النظام الدولي ما يضمن لها الحفاظ على مصالحها الستراتيجية وبالتالي فهي تلتزم بالمعايير التي تضمن لها ذلك وتتجاهل القواعد التي تسمح للآخرين بالاعتراض على سياساتها.
إن مستقبل النظام الدولي قد يعتمد على علاقات القوى الكبرى فيما بينها ومدى قدرتها على التعاون بفاعلية في قضايا العالم الرئيسية، فقد أضحى من الواضح أن الصين سيكون لها دور في تحديد مستقبل النظام الدولي بجانب الولايات المتحدة وقد يتشاركان في رسم ملامح النظام الدولي من خلال التوصل إلى نوع من أنواع الاتفاق الشامل حول مجموعة حيوية من آليات التنظيم.
هناك دلائل عديدة تشير إلى احتمالية حدوث أزمة في النظام الدولي، تنذر بنهاية هيمنة الولايات المتحدة وصعود قوى أخرى منافسة، إذ نشرت مجلة affairs foreign تحليلاً بعنوان (كيف تنتهي الهيمنة تفكك قوة أميركا) للكاتبين (ألكسندر كولي) و(دانييل نيكسون) تقول فيه: “إن هناك مظاهر عديدة للأزمة التي يشهدها النظام العالمي من ضمنها الاستجابة غير المنسقة لجائحة كورونا والأزمة الاقتصادية الناجمة عن تفشي الوباء، وعودة السياسات القومية، وإغلاق الحدود بين الدول، وكلها مؤشرات على ظهور نظام دولي أقل تعاونا وأكثر هشاشة”.
ومع صعود قوى عظمى كالصين وروسيا، باتت المشاريع الاستبدادية وغير الليبرالية تنافس النظام الدولي الليبرالي بقيادة أميركا، كما بات بإمكان الدول النامية، والعديد من الدول المتقدمة، أن تبحث عن راع بديل يغنيها عن الاعتماد على الدعم الغربي، وظهرت حركات لا تتبنى الفكر الليبرالي وأغلبها يمينية، وهي تعمل ضد النظام الدولي الليبرالي الذي كان صلبا يوما ما.
يمكن القول، إن هيمنة الولايات المتحدة على العالم تشهد تراجعا بفعل عوامل عديدة بدأت بتغيير المشهد الجيوسياسي والتمهيد لتغيير النظام الدولي، منها صعود قوى عظمى أخرى تقدم نموذجاً منافساً للنظام الدولي القائم على الهيمنة الأمريكية، وجاذبا للدول الضعيفة، إضافة إلى منافسة المنظمات الإقليمية الجديدة والتجمعات الوطنية غير الليبرالية لتأثير الولايات المتحدة، فضلاً عن التطورات بعيدة المدى في الاقتصاد العالمي وأهمها صعود الصين.
رابط المصدر: