تحولات هيكلية: ما الذي تغيّر في الحرب الإثيوبية في عامها الثاني؟

د. أحمد أمل

 

أتمت الحرب الإثيوبية عامها الأول بحلول الرابع من نوفمبر 2021، كاشفة عن عدد من التحولات الجذرية التي جرت على مدار هذا العام. فالحرب التي بدأت كعملية محدودة “لإنفاذ القانون” تحولت إلى حرب شاملة تستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة بما في ذلك القصف الجوي، ومسرح العمليات الذي كان يفترض أن يقتصر على إقليم تيجراي الواقع أقصى شمال البلاد، اتسع مع خروج جبهة تحرير تيجراي خارج حدود إقليمها لتهاجم إقليمي أمهرة والعفر المجاورين، فضلًا عن استغلال العديد من الفصائل المسلحة الوضع الأمني الهش لإعادة تنشيط جبهات متعددة في كل من أوروميا وبني شنقول-جوموز، وكذلك الاشتباكات العنيفة التي دارت بين العفر والصوماليين لتصفية نزاعهم الحدودي المعقّد في غيبة من الدولة. كما شهد الأمد الزمني للمعركة تحولًا كبيرًا بعد أن قدم آبي أحمد الحرب في البداية كحرب خاطفة تنتهي في أسابيع معدودة عبر حرصه على الإعلان المبكر للنصر بعد أقل من أربعة أسابيع على بدء المعارك، وهو ما اصطدم بالواقع الذي كشف عن قدرة الحرب في إثيوبيا على أن تتحول إلى صراع ممتدٍ لا يُتصور أفقٌ زمني واضح لنهايته. كما تبادل طرفا الحرب مواقعهما بعد نحو سبعة أشهر من بدايتها، حين تمكنت جبهة تحرير تيجراي من استرداد العاصمة ميكيلي للتحول من وضع الدفاع إلى الهجوم على جبهات متعددة وعبر أكثر من محور.

وعلى الرغم من أهمية مظاهر التحول المتعددة التي مرت بها الحرب الإثيوبية، يظل أكثرها تأثيرًا التحول الهيكلي الذي ظهر في الخامس من نوفمبر 2021 حين تم الإعلان رسميًا عن تشكيل الجبهة المتحدة للقوى الإثيوبية الفيدرالية والكونفيدرالية United Front of Ethiopian Federalist and Confederalist Forces والذي دحضت كافة محاولات آبي أحمد لتصوير الحرب بأنها تستهدف جماعة إرهابية غير شرعية متحصنة على الحدود الشمالية للبلاد.

ويأتي تأسيس الجبهة كمحاولة لإعادة إحياء تجربة تأسيس الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية EPRDF خلال المواجهات المسلحة بين عدد من الفصائل المسلحة ذات القواعد الإثنية الحصرية مع جيش منجستو هايليماريام في نهاية ثمانينيات القرن العشرين. حيث نشأت الجبهة كتنظيم موسع ضم عددًا من الحركات والجبهات التي يعبر كل منها عن جماعة إثنية واحدة من الجماعات الرئيسية في إثيوبيا. فمع بدايات عام 1989 بدأ التنسيق بين جبهة تحرير شعب تيجراي TPLF وبين حركة أمهرة الديمقراطية الوطنية Amhara Nationla Democratic Movement (ANDM)، وفي العام التالي انضمت للحركتين المنظمة الديمقراطية لشعب أورومو Oromo People’s Democratic Organization (OPDO)، بهذا أصبحت الجماعات الثلاث الأكثر تأثيرًا في إثيوبيا ممثلة في إطار الجبهة الديمقراطية الثورية. وقد تبع ذلك تشجيع قيادات الجبهة تأسيس حركات ومنظمات إثنية لتمثيل الجماعات غير الممثلة، فنشأت الجبهة الديمقراطية للشعب الجنوبي الإثيوبي Southern Ethiopian People’s Democratic Front (SEPDF) وانضمت للجبهة الديمقراطية الثورية EPRDF عام 1993 .

ويحمل تأسيس الجبهة المتحدة للقوى الإثيوبية الفيدرالية والكونفيدرالية دليلًا واضحًا على انتقال الصراع في البلاد إلى مستوى أكثر تقدمًا وفق عدد من المؤشرات:

ضم التحالف الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي Tigray People’s Liberation Front، بجانب جيش تحرير أورومو Oromo Liberation Army، وذلك في تحول مهم بدأت مؤشراته في التتابع منذ عدة أشهر بالإعلان عن تنسيق للعمليات العسكرية بين الجانبين كل في منطقة نشاطه، بعد أن أعلن المتحدث باسم جبهة تحرير تيجراي جيتاشيو والمتحدث باسم جيش تحرير أورومو أودا تاربي في أغسطس الماضي عن تشارك الجماعتين المعلومات وتنسيقهما في الاستراتيجيات في ظلّ وحدة الهدف المتمثل في إسقاط آبي أحمد. ويُعد تأسيس مثل هذا التحالف أمرًا حاسمًا على المستويين الميداني والسياسي في ظل ما تكشف عنه التفاعلات السياسية في إثيوبيا في العقود الأخيرة من ارتهان التحولات السياسية الكبرى بالتوافق بين اثنتين من الجماعات الثلاثة الرئيسية (أورومو، وأمهرة، وتيجراي) على غرار التحول الحاسم الذي سبق استقالة هايليماريام ديسالين في فبراير من عام 2018 بعد توحد الحركة الاحتجاجية في إقليمي أوروميا وأمهرة. هذا بجانب حقيقة أن جبهة تحرير تيجراي وجيش تحرير أورومو هما من أقوى الفصائل المسلحة الإثيوبية وأكثرها خبرة من بين مختلف الفصائل الإثيوبية المسلحة.

تمكن التحالف المعارض لآبي أحمد من شق صف عدد من الأقاليم المهمة شرق إثيوبيا، على رأسها إقليم العفر والإقليم الصومالي، وذلك من خلال ضم جبهة العفر الثورية Afar Revolutionary Democratic Unity Front، وكذلك حركة مقاومة الولاية الصومالية Somali State Resistance في عضوية التحالف. وتأتي أهمية هذا التحول في ظل كون إقليم العفر بحكم موقعه المجاور لإقليم تيجراي واحدًا من أهم ساحات المعارك في إثيوبيا، والتي باتت تشهد احتدامًا في المعارك في ظل سعي قوات جبهة تحرير تيجراي لقطع الطريق الرابط بين العاصمة أديس أبابا وموانئ جيبوتي، الأمر الذي دفع آبي أحمد لقيادة المعارك بنفسه على جبهة إقليم العفر في نهاية نوفمبر على الرغم من احتدامها بصورة مماثلة في جبهة إقليم أمهرة. ويأتي هذا التحول اللافت ليقلل كثيرًا من أهمية دعم الحكومة الإقليمية في كل من إقليم العفر والإقليم الصومالي للعملية العسكرية التي أطلقتها الحكومة الإثيوبية الفيدرالية في إقليم تيجراي منذ وقت مبكر.

ضمت الجبهة اثنتين من الأقليات الداخلية في إقليم أمهرة وهما أقليات أجاو وكيمانت من خلال منظمتيهما حركة أجاو الديمقراطيةAgaw Democratic Movement، وحزب كيمانت الديمقراطي Kimant Democratic Party . وتحمل هذه الخطوة أهمية مزدوجة، فمن ناحية تكشف عن التصدعات العميقة الاجتماعية والسياسية داخل الجبهة الأمهرية، وتقلل من صمودها أمام الضغط العسكري والسياسي المتنامي الذي تقوده جبهة تحرير تيجراي، ومن ناحية ثانية تجذب قدرًا مؤثرًا من الاهتمام والتعاطف الدولي كون كيمانت تشكل المكون الرئيسي من المجتمع اليهودي في إثيوبيا.

تمكنت الجبهة المعارضة لآبي أحمد من إحداث اختراقات مهمة في الأقاليم الغربية الجنوبية الغربية، فعلى الرغم من تشكيل جماعة سيداما إقليمًا فيدراليًا مستقلًا في عام 2020 بموجب استفتاء شعبي تم في العام السابق، إلا أن هذا لم يحُل دون استمرار مظاهر السخط العام لدى جماعات الجنوب الغربي في إثيوبيا، الأمر الذي دفع جبهة تحرير سيداما Sidama National Liberation Front للانضمام للتحالف المعارض لآبي أحمد. وفي تطور متوقع دل عليه تنامي معدل أعمال العنف باطراد في العام الأخير، انضمت جبهة تحرير شعب بني شنقول Benishangul People’s Liberation Movement إلى الجبهة المتحدة للقوى الإثيوبية الفيدرالية والكونفيدرالية، مع استمرار التوترات بين سكان الإقليم وبين المجموعات الأمهرية المتوطنة فيه.

لكن -في الوقت نفسه- لا يمكن التعويل على تأسيس الجبهة المتحدة للقوى الإثيوبية الفيدرالية والكونفيدرالية وحده كمتغير حاسم لمستقبل المعركة على الأرض، إذ يتعين تقدير تأثيره بشيء من الحذر، وبمراعاة العديد من العوامل السياقية الحاكمة. فالمجموعات المتحالفة مع جبهة تحرير تيجراي لا تمتلك الكثير لتقدمه على أرض الواقع من الناحيتين السياسية والعسكرية، لتظل جبهة تحرير تيجراي مضطرة للاعتماد على قدراتها الذاتية في المقام الأول. كما أن الإعلان عن تأسيس الجبهة من داخل الولايات المتحدة الأمريكية قدم فرصة لحكومة آبي أحمد لتصوير التحالف باعتباره أداة من أدوات الحرب الدولية التي تستهدف الإطاحة به الأمر الذي يسعى من خلاله لترميم قدر من شعبيته المفقودة. ويأتي انقسام القوى داخل الجبهة بين مؤيدين للفيدرالية ومؤيدين للكونفيدرالية ليفرض الكثير من الشكوك بشأن وحدة الاستراتيجية من ناحية وبشأن مستقبل الدولة الإثيوبية حال انتصار الجبهة من ناحية أخرى.

على كلٍّ، تبدو الحرب الإثيوبية في بداية عامها الثاني أكثر تعقيدًا واضطرابًا، خاصة مع عجز الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو وسبتمبر عن تأسيس شرعية راسخة لآبي أحمد، ومع تفاقم الأزمة الإنسانية في مناطق متعددة على رأسها إقليم تيجراي. كما يزيد العامل الخارجي الأزمة تعقيدًا في ظل غموض المواقف الدولية من الحرب وافتقادها للحسم، وسيولة المحيط الإقليمي بما تشهده الصومال والسودان وجنوب السودان من أزمات مركبة، وبما تشهده كينيا وأوغندا من تصاعد لخطر التهديدات الإرهابية على النحو الذي يرسم صورة أكثر قتامة لمستقبل الصراع في إثيوبيا.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/17724/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M