“الدمار الناجم عن الحرب في غزة فاق ما حدث من صراعات أخيرة أخرى” هذا ما استهلت به صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية مقالها المنشور في الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري، إلا أن تداعيات الحرب في غزة لم تقتصر عليها فقط وإنما انطلقت الشرارة الأولى لحدوث التخوفات والتحذيرات التي صرحت بها عدة مؤسسات دولية، وعلى رأسهم البنك الدولي بشأن تداعيات استمرار الحرب في غزة واتساع نطاقها بدخول قوى إقليمية وعالمية في الحرب على الاقتصاد العالمي، وذلك بتأثر حركة الملاحة في البحر الأحمر بعد دخول جماعة الحوثي اليمنية كطرف في الصراع بقيامها بمنع السفن المتجهة إلى إسرائيل من المرور من مضيق باب المندب، تلا ذلك دخول ماليزيا في خط الصراع بإعلانها الأسبوع الماضي عن منع سفن الشحن الإسرائيلية من الرسو بموانئها الواقعة على مضيق ملقا الآسيوي.
أولًا- تداعيات استمرار الحرب على قطاع النفط العالمي:
قامت جماعة الحوثي اليمنية بالتهديد بمهاجمة أي سفينة متجهة إلى إسرائيل إذا لم يتم السماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى غزة، لتقوم بعد ذلك بسلسلة من الهجمات بدأتها في الثاني عشر من ديسمبر مع إطلاق صاروخ استهدف ناقلة نرويجية لتستهدف بعدها سفنًا حربية فرنسية، وفي التاسع عشر من ديسمبر قام الحوثيون بالسيطرة على سفينة شحن إسرائيلية، كما أطلقت صواريخ على ناقلة نفط ومواد كيميائية، وهو ما أثار المخاوف من صراع أوسع نطاقًا في المنطقة مع استمرار الحرب في غزة لأكثر من شهرين ونصف.
وتحولت تحذيرات المؤسسات الدولية من مجرد توقعات بالتأثير على الأسواق العالمية للواقع الفعلي، وذلك مع تأثير التوترات في مضيق باب المندب على قطاع النفط العالمي، إذ أعلنت شركة ” بريتيش بتروليوم” عن توقفها عن إرسال ناقلات عبر البحر الأحمر بشكل مؤقت، الأمر الذي أثار مخاوف من انقطاع تدفق النفط من الدول المنتجة الرئيسية مثل المملكة العربية السعودية والعراق حيث تدير شركة “بريتيش بتروليوم” حقلًا نفطيًا هناك، وبموجب ذلك ارتفع سعر خام برنت ومؤشر النفط العالمي بنحو 5% منذ أوائل ديسمبر، وبالرغم من ذلك فإن هذا السعر يعكس جزئيًا التراجع الذي دام أشهرًا في أسعار الطاقة، وتشير التوقعات إلى أن استمرار الحرب في غزة قد يدفع إلى تعليق مزيد من شركات النفط للشحنات عبر البحر الأحمر وهو ما يعني ارتفاع تكاليف الطاقة بشكل أكبر.
وبحسب تقديرات بنك جولدمان ساكس فإن إعادة توجيه جميع النفط الخام بعيدًا عن البحر الأحمر لفترة طويلة يمكن أن يرفع أسعار النفط بما يصل إلى 4 دولارات للبرميل، أو 5% أخرى من المستويات الحالية، لأن المزيد من البراميل ستظل عالقة في البحر على طرق عبور أطول.
هذا وارتفعت أسعار النفط أكثر من دولار للبرميل خلال اليومين الماضيين، وارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 1.28 دولار، بما يعادل 1.6%، ليتحدد سعر التسوية عند 79.23 دولار للبرميل، وهو أعلى مستوى منذ الأول من ديسمبر، وزادت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأمريكي تسليم يناير 97 سنتًا، أو 1.3% واستقر السعر عند 73.44 دولارًا للبرميل، وهو أيضًا أعلى مستوى له منذ أكثر من أسبوعين.
ثانيًا- تداعيات الحرب على التجارة وقطاع الشحن العالمي:
مثلت التطورات الأمنية في مضيق باب المندب تهديدًا صريحًا للتجارة العالمية إذ يمر عبر الممر الملاحي الحيوي في البحر الأحمر حوالي 12% من التجارة العالمية بجانب 30% من حركة الحاويات العالمية بقناة السويس، كما تتحمل شركات النقل أقساط التأمين على مخاطر الإبحار، والتي كانت تبلغ قبل هجمات الحوثيين حوالي 0.5%، إلا أنه مؤخرًا تسببت الهجمات في ارتفاع علاوة المخاطرة التي تدفعها شركات الشحن من 0.5% إلى 0.7%، كما انخفضت حركة مرور السفن بالبحر الأحمر بنسبة 35% بتعليق سبع من أكبر عشر شركات الشحن -من حيث حصة السوق- عملياتها في البحر الأحمر، وعلى رأسهم شركة “إم إس سي” السويسرية و”ميرسك الدنماركية” و”هاباج الألمانية” و”سي إم إيه الفرنسية”، لتتخذ طريقًا بديلًا ساهم في ارتفاع رحلة السفن لتصل إلى أسبوعين، مما فرض تكاليف إضافية على التجارة وساهم في اضطراب أسواق الشحن العالمية.
أيضًا تأثرت شركات الشحن الإسرائيلية بإعلان ماليزيا عن منعها لشركة “زيم المتكاملة لخدمات الشحن المحدودة” أكبر شركة شحن إسرائيلية، والتي سُمح لها بالرسو في الموانئ الماليزية منذ عام 2002، من الرسو في أي من موانئ الدولة، هذا وكان من المفترض أن تصل سفينة إلى ميناء كلانج في الخامس من ديسمبر الشهر الحالي إلا انها قامت بتغيير مسارها المعتاد من البحر الأحمر للمرور حول رأس الرجاء الصالح مما ساهم في تأخر وصولها للميناء الماليزي لمدة 21.5 يومًا.
بالإضافة إلى ذلك صرحت الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا بحظر السفن التي تحمل العلم الإسرائيلي والسفن المتجهة إلى إسرائيل من تحميل البضائع في موانئها، وهي خطوة رمزية إلى حد كبير لكنها تشير إلى توسع تداعيات الحرب في غزة، وفي إندونيسيا المجاورة التي تتفق سياساتها الخارجية مع جارتها الماليزية، نددت منظمة إنسانية باستمرار الحرب في غزة، وهو ما يشير إلى التخوفات من دخول إندونيسيا أيضًا في الصراع وانتقال التوترات إلى مضيق ملقا الآسيوي.
ومن هنا يمكن القول إن استمرار الحرب في غزة قد يشكل مخاطر تتجاوز تأثيرها على أسواق النفط والتجارة والشحن العالمية، لتعمق عدم الاستقرار بالاقتصاد العالمي الذي لا يزال يعاني من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وفي ظل ما تسببت به الحرب في أوكرانيا ومن بعدها في غزة من تفاقم الانقسامات العالمية، فإن هناك مخاوف من انتقال المخاطر من مضيق باب المندب على البحر الأحمر لمضيق هرمز بين عمان وإيران، الممر المائي الذي يتيح نقل النفط من منطقة الخليج إلى المحيط الهندي، وهم نقطتا شحن حيويتان في الشرق الأوسط، إلى مضيق ملقا الآسيوي البوابة الاقتصادية للصين، والذي يقع عليه موانئ ثلاث دول إندونيسيا وماليزيا المتفقتين في سياستهما الخارجية المحايدة مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى سنغافورة الدولة الحليف للولايات المتحدة الأمريكية.
المصدر : https://ecss.com.eg/42435/