السفير د. علاء الحديدي
أيا كانت نتيجة الحرب الحالية في أوكرانيا، وسواء انتهت بسيطرة القوات الروسية على بعض الأراضي الأوكرانية أو كامل هذه الأراضي، وسواء كان هناك اتفاق سياسي أو تجمد المشهد عند خطوط القتال التي سيتوقف عندها، وأيا كانت السيناريوهات القادمة حول كيفية انتهاء هذه الحرب ومتى وأين وكيف، فإن هناك العديد من التداعيات التي أفرزتها هذه الحرب وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين الدول الكبرى على الساحة الدولية، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
١. أولوية التهديد الروسي:
أولي هذه التداعيات تتعلق بأولوية التهديد الروسي في القارة الأوروبية، وعودة الاهتمام بالأمن الأوروبي إلى الصدارة بعد أن كان قد تراجع لصالح ما أصطلح على تسميته” بالتوجه نحو آسيا ” وذلك لمواجهة الخطر الصيني. فقبل ستة أشهر مضت، كانت الأنظار موجهة إلى الصين وليست إلى روسيا. وكانت معظم التحليلات الدولية تتحدث عن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، والتهديد الصيني المتعاظم في شرق أسيا ومنطقة الإندو باسيفيك، والحديث عن احتمالات مواجهة عسكرية قادمة بين واشنطن وبكين في حال إقدام الأخيرة على غزو تايوان، ووصل الأمر ببعض المحللين إلى القول بتراجع دور ومكانة حلف شمال الأطلسي – الناتو – لصالح التحالفات الجديدة في أسيا مثل (الكواد ) الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا ) والإيكوس ) الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وبدأت بعض العواصم الغربية عملية تطبيع العلاقات مع موسكو ، وخاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية، وتجاوز أزمة ضم شبه جزيرة القرم في ٢٠١٤ رغم بعض العقوبات الغربية التي كنت قد فرضت على موسكو آنذاك. كما تم تجاهل القتال الدائر في إقليم الدونباس الأوكراني بين الإنفصاليين الموالين والمدعومين من موسكو وبين القوات الحكومية الأوكرانية باعتباره نزاعا محليا لن يتطور إلى أزمة دولية.
إلا أن الغزو الروسي للأراضي الأكرانية عاد ليسلط الأضواء من جديد على روسيا وقوتها ودورها على الساحة الدولية، وماذا يمكن أن تفعله وما لا يمكن أن تفعله، وأصبحت روسيا هي التي تهدد السلم والأمن الدوليين والمشاغب الرئيسي على الساحة الدولية، وخاصة بعد تلويح بوتين بقوته النووية حين رفع درجة تأهب هذه القوات. وبدأ العالم يستعد لحرب باردة جديدة بعد انتهاء الحرب الساخنة الحالية، وقيام ستار حديدي جديد، مع بناء كافة الاستعدادات اللازمة لردع القوة الروسية ومواجهتها في حالة إقدامها على حرب جديدة أخرى في أوروبا.
٢. إعادة إحياء دور حلف الناتو:
اتصالا بما سبق وبناء عليه، كان التداعي الثاني، ألا وهو دور الناتو الذي سبق وأن وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام ٢٠١٩ بأنه قد أصيب بالسكتة الدماغية، وليعود – أي الرئيس الفرنسي – ويقول أن الغزو الروسي لأوكرانيا كان بمثابة الصدمة الكهربائية التي أيقظت حلف الناتو من جديد. فبعبارة أخرى، كان الغزو الروسي هذا بمثابة قبلة الحياة للحلف الذي سبق أيضا وأن وصفه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنه بلا جدوى، وتسببت سياساته – ترامب – في تقويض الثقة بين جانبي حلف الأطلنطي، وليكتب البعض شهادة وفاة هذا الحلف. وجاءت الأزمة الحالية لا لتعيد الاهتمام فيه فحسب، بل ولتدفع العديد من البلدان وعلى رأسها ألمانيا (رابع أكبر اقتصاد في العالم) لإعادة النظر في سياستها الدفاعية وترفع ميزانيتها العسكرية من ١،٥٪ من دخلها القومي إلى ٢٪ بعد أن كانت ترفض ذلك بشدة، وتُنشيئ- أي ألمانيا – صندوقا خصيصا للصناعات العسكرية بمائة مليار يورور. ولكن الأخطر من ذلك بالنسبة لألمانيا هو تحللها من عقدة الحرب العالمية الثانية وقبول الرأي العام الألماني لتلك الزيادة الضخمة في الميزانية العسكرية وتحوله عن توجهاته السلمية السابقة والتي كانت ترفض تماما العودة إلى أي شكل من أشكال الروح العسكرية الألمانية السابقة. وبعد أن كانت المقولة الشائعة من أن هدف الناتو هو العمل على إبقاء روسيا في الخارج والسيطرة على ألمانيا في الداخل، أصبحت عودة القوة العسكرية الألمانية مطلبا ملحا لتعزيز قوة الناتو في مواجهة روسيا، وبمباركة أوروبية أمريكية كاملة.
٣. تداعيات ممتدة لشرق آسيا
نفس هذا التحول بدأ يطول أيضا اليابان في شرق آسيا وذلك لمواجهة الصين. ورغم أن الأضواء مركزة حاليا على ساحة العمليات في أوكرانيا بأوروبا، إلا أن تداعيات ما يحدث هناك لن يقف عند حدود أوروبا وحدها، بل سيمتد إلى شرق أسيا حيث تراقب كل من الصين واليابان ما يحدث في أوروبا باهتمام شديد، ناهيك عن تايوان التي تتخوف من غزو صيني قادم في يوم من الأيام. ومع تزايد أعباء الولايات المتحدة بأهمية وضرورة العمل على مواجهة كلا هذين التهديدين، الروسي في أوروبا والصيني في أسيا، سواء كل على حدة أو بقيام حلف جديد بينهما، فإنه قد بات من الأهمية والضرورة للقوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، من إعادة النظر في السياسة الدفاعية اليابانية ولتتحمل هي أيضا بدورها نصيبها في الدفاع عن المصالح الغربية في شرق آسيا ومواجهة الخطر الصيني المتعاظم. ولا شك أن اليابان (ثالث أكبر اقتصاد في العالم) مثلها مثل ألمانيا تملك من الإمكانيات المادية والاقتصادية والتكنولوجية ما يمكنها من تحمل أعباء زيادة نفقاتها العسكرية وبناء قوة عسكرية يعتد بها، وهي صاحبة تقاليد عسكرية سابقة يمكن إيقاظها من جديد.
٤. تعاظم الدور الصيني
يرتبط بما تقدم دور الصين على ضوء الأحداث الجارية في أوكرانيا. فكما سبقت الإشارة في البداية، كانت الأنظار موجهة إلى الصين أولا، ولكن لا يعني ذلك أن ما يجري الآن على الساحة الأوكرانية سيؤدي إلى تراجع هذا الاهتمام، بل على العكس من ذلك، فدور الصين قد تزايدت أهميته بحيث أصبح لا غنى عنه، سواء كان ذلك من أجل الحصول على الدعم الصيني لمواجهة العقوبات الغربية كما يأمل بوتين ويخشى الغرب، أو من أجل العمل من جانب الغرب وخاصة الولايات المتحدة للحيلولة دون تقديم هذا الدعم لبوتين. وقد وضح ذلك عندما هدد جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي الصين صراحة من قيامها بدعم روسيا حاليا. ثم كانت المكالمة الهاتفية الأخيرة يوم الخميس ١٧ مارس الماضي بين الرئيسين الأمريكي والصيني والتي حاول فيها الرئيس الأمريكي إثناء نظيره الصيني عن تقديم أي دعم للرئيس الروسي. هذا، وتأتي هذه المكالمة التلفونية في إطار تعويل الغرب على حجم المصالح الصينية معه مقارنة بالمصالح الصينية مع روسيا، فحجم التجارة بين موسكو وبكين يبلغ ١٤٧مليار دولار أمريكي فقط سنويا مقارنة ب ٧٥٦ مليار دولار أمريكي مع واشنطن و٨٢٨ مليار دولار أمريكي مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن الحسابات الصينية ليست بالضرورة بالحسابات التجارية أو الاقتصادية أو المالية فقط، بل أن هناك حسابات استراتيجية بعيدة المدى قد تكون أكثر أهمية للجانب الصيني، منها مثلا الموقف الغربي والأمريكي من قضية تايوان، وهو ما أشار إليه الرئيس الصيني في مكالمته التلفونية المشار إليها سابقا مع الرئيس الأمريكي، وكذلك شكل النظام العالمي الحالي الذي أسسته القوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وترى الصين أنه خاضع للهيمنة الغربية ولا يعكس مصالح الصين أو ميزان القوى الحالي في العالم.
وعلى الجانب الأخر من هذه المعادلة مع الصين، فإن الغرب يدرك أن الصين والرئيس شى وحدهما القادرين على التأثير على روسيا والرئيس بوتين والقيام بأي دور حقيقي للوساطة بين الأطراف المتنازعة في أوكرانيا. بل أن بعض الكتابات في الغرب بدأت تتحدث عن الصين كأحد القوي الضامنة لأي اتفاق سلام يتم التوصل إليه بين روسيا وأوكرانيا. وهي كلها أمور تعزز من مكانة الصين ودورها على الساحة الدولية وبما يتفق مع طموحها في أن ترتقي إلى مصاف الدول الكبرى ولا يتم النظر إليها باعتبارها مجرد قوة اقتصادية فحسب. وعليه أصبح دور الصين أكثر أهمية عن ذي قبل في تحديد مسار الأحداث الحالية ويتم انتظار ما ستقرره بكين من خطوات فيما هو قادم من أيام، سواء بتقديم الدعم اللازم لبوتين والمخاطرة بمزيد من التوتر مع الغرب، وبين الوقوف على الحياد حفاظا على مصالحه الاقتصادية والتجارية وبما يرجح كفة هذا الطرف أو ذاك.
ختاما، كانت هذه بعض من التداعيات المنتظرة من الأزمة الحالية في أوكرانيا، وهي تقتصر على اللاعبين الرئيسيين -روسيا والصين والولايات المتحدة وألمانيا – والتي يمكن وصفها بالتداعيات الجيوسياسية المباشرة، ولم يتسع المقال للتداعيات غير المباشرة وخاصة فيما يتعلق بسوق الطاقة العالمية وإعادة رسمها وتوزيعها نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا واحتمالات توقف تصدير النفط والغاز منها، وهو ما يقودنا مرة أخرى لدور الصين وموقفها من هذه العقوبات وتأثير كل ذلك على خريطة الطاقة الجديدة في العالم.
.
رابط المصدر: