تدريع المواجهة: آفاق المرحلة الميدانية والتسليحية الجديدة في أوكرانيا

محمد منصور

 

ربما تتفق معظم التحليلات التي تتناول التطورات الميدانية في الحرب الروسية الأوكرانية، حول نقطة أساسية تتعلق بأن هذه الحرب تسير عبر مسار متعرج لا يشي بنهاية قريبة للعمليات العسكرية – رغم ما بدا أنه بوادر لمحاولة روسية لبدء التمهيد لإيقاف هذه العمليات عند نقطة معينة، حين شرعت في التعبئة الجزئية في سبتمبر الماضي – وهذا المسار يشابه إلى حد بعيد مسارات اتخذتها نزاعات عسكرية سابقة عبر التاريخ، من أبرزها الحرب العراقية الإيرانية خلال ثمانينيات القرن الماضي.

هذا التشابه لا يرتبط فقط بعدم تمكن الأطراف المتحاربة في كلتا الحالتين، من الوصول إلى نقطة “التعادل” الميدانية، التي من خلالها يتم الانطلاق نحو وقف دائم لإطلاق النار وبدء مرحلة التفاوض، بل يرتبط هذا التشابه أيضًا بالحالة التسليحية المتشابكة التي خضعت لها هذه الأطراف في مساعيها لتأمين ما تحتاجه من منظومات قتالية، وهذه الحالة كانت أكثر تعقيدًا فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، نظرًا لارتباط كم ونوع الأسلحة الغربية المقدمة للجانب الأوكراني، باعتبارات سياسية واقتصادية واستراتيجية، جعلت من الحتمي تقسيم عملية “تسليح” كييف إلى مراحل أساسية، تبعًا لتطور مسار الحرب وما يطرأ من تغيرات على الأهداف العسكرية المرحلية لكل من كييف وموسكو.

مراحل “ميدانية” للتسليح الغربي لأوكرانيا

يتضح هذا بشكل أكبر من خلال النظر إلى الصورة الإجمالية لما تم تزويد كييف به خلال الفترة الماضية، وما تعتزم القوى الغربية تزويدها به خلال المدى المنظور. ففي المرحلة الأولى من القتال في أوكرانيا – وتحديدًا حتى أواخر أبريل 2022 – كان جوهر الدعم التسليحي الغربي للقوات الأوكرانية، يتمحور حول الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات، بجانب الذخائر المتنوعة والألغام الأرضية بهدف امتصاص الزخم الهجومي الروسي، حيث كانت التحركات الهجومية الروسية في هذه المرحلة تشمل الجبهات الشمالية والجنوبية والشرقية لأوكرانيا. ساهم هذا الدعم في تلك المرحلة إلى حد كبير في امتصاص القوات الأوكرانية لصدمة الاختراقات التي حققتها القوات الروسية في الجبهة الشمالية قرب العاصمة، وبالتالي تمكنت من الصمود الميداني ما أسفر عن إنهاء العمليات الروسية في كامل هذه الجبهة منذ ذلك التوقيت وحتى الآن.

انتقل الدعم التسليحي الغربي لأوكرانيا إلى مرحلة ثانية بداية من مايو 2022، جوهرها كان وسائط المدفعية المختلفة والصواريخ التكتيكية قصيرة المدى، فتدفقت على كييف عدة أنواع من المدافع الثقيلة ذاتية الحركة والمقطورة، بجانب منظومات “هيمارس” الصاروخية التكتيكية. وكانت الدواعي الميدانية هي السبب الرئيس أيضًا في دخول الدعم التسليحي الغربي إلى هذه المرحلة، حيث ضغطت تلك الدواعي في اتجاه محاولة إدخال القوات الروسية التي تقاتل في الجبهات الجنوبية والشرقية والشمالية الشرقية في قتال استنزافي، عبر تنفيذ خطط دفاعية نشطة تعتمد من خلالها القوات الأوكرانية على الدعم المدفعي والصاروخي المعزز بالطائرات بدون طيار.

ومن أهم بواعث التحول إلى هذه المرحلة من الدعم التسليحي، تناقص مخزونات كييف من الذخائر وقذائف المدفعية، بفعل استنزاف هذه المخزونات خلال المرحلة الأولى من العمليات في الجبهة الشمالية، وكذا القتال في الجبهات المختلفة الأخرى، ناهيك عن تأثر هذه المخزونات بأنشطة القاذفات الروسية التي استهدفت بشكل دوري مواقع تخزينها وصناعتها.

تزود القوات الأوكرانية بأعداد كافية ومؤثرة من مدفعية الهاوتزر الثقيلة وراجمات الصواريخ، بجانب تزايد أنشطة الطائرات بدون طيار والذخائر الجوالة الأوكرانية، منحها القدرة على استهداف نقاط التحشيد والتجميع الروسية ومواقع تخزين الوقود والذخائر في الخطوط الخلفية، وصولًا إلى بعض المناطق المتواجدة في شبه جزيرة القرم، وهو ما كان له بشكل عام تأثيرات سلبية على عمليات القوات الروسية في عموم الجبهات القتالية وبشكل خاص في الجبهة الجنوبية، التي اضطرت فيها القوات الروسية إلى تقليل زخمها الهجومي في اتجاه الغرب، والانسحاب كذلك في شهر يونيو الماضي من جزيرة الثعبان “زميني” في البحر الأسود، بعد أن تعرضت فيها لخسائر كبيرة.

وعلى الرغم من أن انعكاس هذا الوضع على ميزان السيطرة الميدانية لم يكن كبيرًا، إلا أن الدعم التسليحي الغربي للجيش الأوكراني تم تطويره بشكل لافت في شهر يوليو عبر كميات كبيرة من العربات المدرعة والذخائر الجوالة، بهدف تنفيذ عمليات خاطفة يمكن من خلالها عكس السيطرة الميدانية واكتساب أرض، والتحول من حالة الدفاع النشط إلى الحالة الهجومية بشكل جزئي، وهو ما نتج عنه تحقيق القوات الأوكرانية خلال الفترة بين شهري أغسطس وسبتمبر نجاحات مهمة في النطاق الشمال الشرقي، خاصة محيط مدينة “خاركيف”، ما أدى إلى سلسلة من التراجعات الروسية في هذه الجبهة، لكن لم تفلح القوات الأوكرانية في إدامة زخمها الهجومي في هذه الجبهة، وتحولت منذ نوفمبر الماضي إلى حالة الدفاع النشط، حيث فضلت الرهان بشكل أكبر على القتال في الجبهة الجنوبية، حيث بدا بحلول شهر نوفمبر أنها في طريق تحقيق نجاح ميداني مهم، بعد أن انسحبت القوات الروسية من الضفة الغربية لنهر الدنيبر.

لكن التقييم العام للنشاط الميداني الأوكراني بحلول أواخر العام الماضي، أظهر أن الجيش الأوكراني لم يستفد بشكل نوعي من التخلخلات التي أحدثتها الأنشطة المدفعية والصاروخية التي نفذتها وحداته خلال الأشهر الماضية، لتحقيق تقدم ميداني مؤثر، وهو ما أضيف إليه تناقص أعداد العربات المدرعة ومدفعية الميدان التي تلقتها من الدول الغربية نتيجة لتزايد نشاط الذخائر الجوالة والطائرات الروسية بدون طيار. هذا الوضع لم تتمكن الدول الغربية من تعويضه نتيجة لتعقيدات لوجيستية وأخرى تتعلق بعدم كفاية الأعداد المتوفرة من هذه العربات المدرعة – خاصة غربية المنشأ – وهو ما كان له بالتأكيد انعكاس على الوضع الميداني، خاصة في الجبهة الشرقية.

هذا التقييم كان دافعًا أساسيًا من دوافع ما يبدو أنه “مرحلة ثالثة” من التسليح الغربي الموجه للجيش الأوكراني، جوهرها هو “الدبابات وعربات القتال المدرعة” بجانب وسائط الدفاع الجوي بعيدة المدى. الوضع الميداني الحالي للقوات الأوكرانية، خاصة في الجبهة الشرقية، كان دافعًا آخرًا من الدوافع التي ساهمت في تشكيل ملامح هذه المرحلة، فقد بات واضحًا أن القوات الروسية قد استفادت من أخطائها التكتيكية التي سادت أدائها في الجبهتين الجنوبية والشمالية خلال أشهر القتال الماضية، حيث تفادت التواجد في مناطق لا توجد ضرورة ميدانية ملحة للتمسك بها، وعادت للتركيز على الجبهة الأهم، وهي جبهة إقليم الدونباس، ناهيك عن توخي هذه القوات إجراءات عديدة للتعامل مع المخاطر التي مثلتها منظومات “هيمارس” الصاروخية، مثل إعادتها تموضع مراكز القيادة والسيطرة ومواضع تخزين الأعتدة والذخائر، لتصبح في مناطق أبعد من متناول هذه المنظومات، مثل المناطق الواقعة جنوبي شبه جزيرة القرم.

النقطة الأبرز في هذا الإطار تتعلق بظهور دلائل واضحة على تحول الموقف الميداني الأوكراني – خاصة في الجبهة الشرقية – إلى حالة من الجمود، تلقت فيها القوات الأوكرانية خسائر بشرية معتبرة، ولم تتمكن منذ فترة من تحقيق تقدم ميداني يذكر مقارنة بما كان الحال عليه منذ نحو شهرين، وهو ما يوحي بتغير جذري في ديناميكية القتال على كافة الجبهات، خاصة بعد إتمام موسكو عملية حشد ما يقرب من 300 ألف مقاتل، وتزايد احتمالات لجوئها لتنفيذ عمليات حشد إضافية، تمهيدًا لهجوم كاسح قد يتم الشروع فيه بحلول الربيع المقبل، خاصة بعد أن بدا أنها تمكنت بشكل أو بآخر من حل بعض المعضلات المتعلقة بالدعم اللوجيستي والتسليحي لقواتها، خاصة في ما يتعلق بالذخائر والصواريخ.

احتمالية تنفيذ موسكو هذا الهجوم الكاسح – والذي تشير بعض التقديرات لإمكانية حدوثه في أبريل المقبل – تدعمها الإجراءات العسكرية التي أعلنت عنها القيادة الروسية مؤخرًا، ومنها تأسيس مناطق عسكرية جديدة في نطاق العاصمة موسكو ومدينة سانت بطرسبرج، بجانب جمهورية “كاريليا” ذات الحكم الذاتي، والتي تقع على الحدود مع فنلندا، وزيادة الحكم المستهدف للعناصر العاملة في الجيش الروسي من 1.15 مليون جندي إلى 1.50 مليون جندي، بجانب تعزيز القوات الجوية والبحرية والصاروخية وإعادة هيكلة نحو سبعة ألوية قتالية تقع في المنطقة الغربية والمركزية وضمن وحدات أسطول بحر الشمال، وهذا كله يضاف إلى إجراء مهم ولافت، يتلخص في إنشاء مجموعات عسكرية خاصة ذاتية الاكتفاء، تعمل في الأقاليم الأربعة التي ضمتها روسيا مؤخرًا، وهو ما يرتبط بشكل أو بآخر بحاجة موسكو لاستخدام القوات المتواجدة حاليًا في هذه الأقاليم، لتكون ضمن القوات التي ستشارك في هجوم الربيع المحتمل.

برلين والتمهيد السابق لمرحلة “تدريع” الدعم التسليحي الغربي

الحديث الحالي عن “الدبابات” فيما يتعلق بالدعم التسليحي الغربي لكييف ليس جديدًا، فقد طلبت كييف منذ بداية المعارك بشكل متكرر تزويدها بأنواع مختلفة من الدبابات وعربات القتال المدرعة غربية المنشأ، وكانت بداية هذه الطلبات في أبريل 2022، حين طلبت كييف من برلين تزويدها بنحو 90 دبابة من نوع “ليوبارد-1” ومائة ناقلة جند مدرعة من نوع “ماردر”، لكن لم تتجاوب برلين مع هذا الطلب حينها، لأسباب عدة تتعلق بشكل أساسي بعدم رغبتها في استفزاز موسكو، لذا رفض مجلس الأمن الفيدرالي الألماني الطلبات المتكررة التي قدمتها شركة “راينميتال” الألمانية لوزارة الاقتصاد، من أجل تزويد أوكرانيا بهذين النوعين، وقد حذت كل من تركيا واليونان حينها حذو برلين في رفض تزويد أوكرانيا بدبابات “ليوبارد-1” التي تمتلكانها أيضًا.

لكن رغم تشدد برلين في هذا الصدد، إلا أنها أوجدت حينها حلًا مرحليًا يمكن من خلاله منح كييف دبابات وعربات قتال مدرعة شرقية المنشأ، تساهم في تعويض ما يتم فقده من دبابات وعربات مدرعة خلال المعارك، وقد تمثل هذا في برنامج “التبادل الدائري” – (Ringtausch) – والذي ينص على الاتفاق مع بعض الدول الأوروبية لتسليم الدبابات وعربات القتال المدرعة من مخزوناتها، مقابل الحصول على أسلحة مناظرة ألمانية الصنع مجانًا.

تفعيل هذا البرنامج ساهم في بدء تزود كييف بـالوسائط القتالية المدرعة، منذ أبريل الماضي، وكانت البداية عبر اتفاق برلين مع سلوفينيا، على أن ترسل ما يقرب من 30 دبابة من نوع “M-55” – وهي التطوير السلوفيني لدبابات “تي-55” السوفيتية، مقابل تزويد ألمانيا الجيش السلوفيني بناقلات جند مدرعة. في حين اتفقت برلين مع السويد، على أن ترسل الأخيرة نحو 60 عربة قتال مدرعة من نوع “PBV-501″، وهي نسخة من عربات القتال المدرعة سوفيتية الصنع “بي أم بي-1″، كانت تخدم ضمن وحدات الجيش في ألمانيا الشرقية، ومن ثم انتقلت إلى الخدمة في الجيش الألماني عقب توحيد شطري ألمانيا أوائل التسعينيات، وتم بيعها لاحقًا إلى الجيش السويدي عام 1997.

المبادرة الألمانية كان لها أثر كبير في تحفيز عدة دول أوروبية على تزويد كييف بعشرات الدبابات وعربات القتال المدرعة – معظمها شرقي المنشأ – فتلقت القوات الأوكرانية خلال العام المنصرم ما بين 300 و350 دبابة من نوع “تي-72” من كل من مقدونيا وبولندا والتشيك – بجانب سلوفينيا – في حين تلقت كييف ما مجموعه نحو 400 عربة قتال مدرعة من كل من اليونان وسلوفاكيا وبولندا والتشيك والسويد وأستراليا، السواد الأعظم منها نسخًا مختلفة من عربة القتال المدرعة سوفيتية الصنع “بي أم بي-1″، عدا نحو 30 عربة قتال مدرعة من نوع “M113 AS4” أرسلتها أستراليا، وهي تعتبر تطويرًا لناقلات الجند المدرعة أمريكية الصنع “M-113” مع تسليح أكبر.

وعلى الرغم من وجاهة فكرة البرنامج الألماني، ومساهمته بشكل كبير في تقديم دعم تسليحي مهم لكييف، إلا أن الأنظمة الألمانية المقابلة التي تلقت دول مثل التشيك وسلوفينيا وسلوفاكيا واليونان وعودًا حولها، ظهرت حيالها عدة معضلات، منها ما يتعلق بالجاهزية الفنية واللوجيستية، ومنها ما يتعلق بأن هذه الدول تتوقع استبدال دباباتها ومدرعاتها التي تم إرسالها إلى أوكرانيا بأعداد من المنظومات الألمانية أكبر مما تستطيع برلين حاليًا توفيره، هذا بجانب عوامل أخرى ما أدى إلى محدودية الأعداد التي تم إرسالها من الدبابات وعربات القتال المدرعة إلى أوكرانيا في المجمل.

إذن مما سبق يمكن فهم أن الجيش الأوكراني قد طالب مرارًا بتزويده بدبابات وعربات قتال مدرعة غربية المنشأ، وهذه الأخيرة تعتبر من الوسائط القتالية المهمة التي كانت القوات الأوكرانية تفتقر لها خلال مرحلة التقدم الميداني في الجبهة الشمالية الشرقية، وقد كان لافتًا عودة القيادة العسكرية الأوكرانية للحديث عن الدبابات مرة أخرى، وذلك على لسان القائد العام للجيش الأوكراني، الفريق فاليري زالوجني، الذي أقر مؤخرًا بوجود دلائل واضحة على قرب تنفيذ القوات الروسية هجومًا رئيسًا على كافة الجبهات، ورأى أنه يحتاج إلى نحو 300 دبابة وأكثر من 700 عربة قتال مدرعة، وأكثر من 500 مدفع ثقيل، من أجل تعزيز دفاعاته. اتجهت كييف مرة أخرى إلى برلين، وجددت طلبها الحصول على دبابات “ليوبارد”، لكن كان الطلب هذه المرة يتمحور حول دبابات “ليوبارد-2” وليس النسخة الأقدم “ليوبارد-1″، لكن للمرة الثانية ظهر بشكل واضح تلكؤ برلين في التجاوب مع هذا الطلب.

لذا كان مفهوم لجوء كييف لدول أخرى لبحث هذا الملف، من منطلق أن مبادرة دول أوروبية أخرى بإرسال دبابات وعربات قتال مدرعة غربية المنشأ إلى أوكرانيا، سيحفز برلين على القيام بنفس الخطوة، فخاطبت كييف كلا من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، من أجل الحصول على دبابات “إبرامز” و”تشالينجر-2″، علمًا أن النوع الأول لا يتوافق مع الظروف القتالية الحالية – نظرًا لاعتماده على محركات توربينية غازية، وهو ما لا يتناسب مع القدرات الاقتصادية الحالية لأوكرانيا. ورأت الولايات المتحدة من جانبها أن الأمثل في هذه المرحلة هو تزويد أوكرانيا بعربات القتال المدرعة “M2 Bradley”، في حين وافقت المملكة المتحدة على تزويد كييف بأربع عشرة دبابة من نوع “تشالينجر-2″، حيث سيتم نقل أربع دبابات فورًا إلى أوكرانيا، على أن يتم نقل الدبابات الباقية خلال المرحلة المقبلة.

فرنسا وألمانيا من جانبهما كانت لهما مساهمة في هذا الإطار، ففرنسا التي تمتلك دبابات “لوكليرك” بدأت في دراسة إمكانية تزويد كييف بأعداد منها، لكن لم يتم حتى الآن اتخاذ أية خطوات في هذا الصدد، واكتفت باريس بالإعلان عن قرب تزويدها كييف بعدد غير محدد من عربات القتال المدرعة “AMX-10″، في حين أعلنت ألمانيا أنها بصدد تزويد كييف بنحو 40 عربة قتال مدرعة من نوع “ماردر”، وبدأت في دراسة إمكانية تزويدها أوكرانيا بدبابات “ليوبارد”، لكن أظهرت الوقائع الحالية وجود تعقيدات عدة تتعلق بهذا الأمر.

تتمثل هذه التعقيدات في حقيقة أن الجيش الألماني غير جاهز على المستوى اللوجيستي للاستغناء عن بعض دباباته العاملة في الخدمة لإرسالها إلى أوكرانيا، ناهيك عن أن شركة “راينميتال” المصنعة لدبابات “ليوبارد”، أعلنت أنها لن تستطيع إرسال أية دبابات من هذا النوع إلا العام المقبل، نظرًا لحاجة الدبابات الموجودة في مخازنها لعمليات إصلاح وتأهيل، حيث تمتلك الشركة في مخازنها 88 دبابة من النسخة السابقة “ليوبارد-1” و22 دبابة من النسخة الأحدث “ليوبارد-2”. يضاف إلى هذا حقيقة أن برلين ما زالت غير راغبة في اتخاذ خطوات تستفز موسكو، وأنه قد تولد اعتقادًا لدى أوساط داخلية ألمانية عدة، مفاده أن بعض الدول الأوروبية – مثل فرنسا وبولندا – تضغطان عليها من أجل تزويد أوكرانيا بشكل عاجل بدبابات “ليوبارد”. هذا يتضح بشكل أكبر من إعلان برلين بشكل واضح، أنها لن تتخذ قرارًا إيجابيًا بشأن تزويد كييف بهذه الدبابات، إلا بعد التشاور مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويتوقع أن يتم اتخاذ قرار واضح في هذا الشأن قبيل اجتماع وزراء الدفاع الأوربيين في ألمانيا الشهر الجاري.

لكن جدير بالذكر هنا، أن برلين قد لمحت إلى عدم وجود موانع لديها بشأن إرسال دول أخرى تمتلك دبابات “ليوبارد” إلى أوكرانيا، وهو ما يجب النظر إليه بجدية لأن ألمانيا – الدولة المصنعة لهذا النوع من الدبابات – لديها الحق في رفض أو قبول أي طلب لإعادة تصدير هذا النوع من الدبابات لدول أخرى، وبالتالي يفتح هذا التلميح الباب أمام احتمالات قوية لنشأة “تحالف أوروبي”، لتسليح كييف بالدبابات، حيث تمتلك نحو 13 دولة أوروبية دبابات “ليوبارد”، بمجموع يصل إلى 2000 دبابة من مختلف النسخ. حتى الآن لم تعلن سوى بولندا فقط عن استعدادها إرسال دبابات من هذا النوع إلى أوكرانيا، في حين أعلنت الدانمارك وفنلندا أنهما يمكن أن يشاركا مع دول أخرى مثل بريطانيا وبولندا في تحالف لإرسال دبابات إلى أوكرانيا، وما زال موقف دول مثل إسبانيا متناقضًا حتى الآن فيما يتعلق بهذه المسألة، فوزير خارجيتها قال إن بلاده لا تدرس مسألة إرسال دبابات “ليوبارد” إلى أوكرانيا، في حين تتحدث الصحافة الإسبانية حول عكس ذلك.

الدبابات وعربات القتال الغربية في ميزان الميدان الأوكراني

تشترك الوسائط المدرعة التي تم الإعلان عن إرسالها إلى أوكرانيا – أو يتم بحث إمكانية إرسالها – في عناصر أساسية يجب وضعها في الاعتبار إذا ما أردنا قياس حجم القيمة المضافة التي ستنتج عن دخولها الخدمة الفعلية في الميدان الأوكراني، من بينها حقيقة أن الأعداد التي تم الإعلان عنها حتى الآن – سواء من الدبابات أو عربات القتال المدرعة – لا تمثل أرقام معتبرة يمكن من خلالها تحقيق نتائج ميدانية رئيسة، خاصة في ظل التفوق الجوي الروسي المسيطر على أجواء الجبهات المختلفة، والذي يشمل استخدام مكثف للذخائر الجوالة والمروحيات المزودة بصواريخ مضادة للدبابات.

على المستوى العملياتي، وإذا ما وضعنا جانبًا النقطة التي تتعلق بالمدى الزمني الذي يمكن من خلاله أن تصبح الدبابات وناقلات الجند المدرعة الغربية المنشأ جاهزة للتشغيل القتالي الكامل في أوكرانيا – وهذا يتضمن تدريب الأطقم القتالية والأطقم الفنية الخاصة بالصيانة – ستظهر بعض التحديات التي تتعلق بتشغيل الدبابات الغربية، التي تحتاج إلى وسائط نقل خاصة تستطيع تحمل الأوزان الثقيلة، فدبابات “ليوبارد-2” على سبيل المثال، تزن زهاء 70 طنًا، في حين تزن دبابات “تشالينجر-2” نحو 72 طنًا، وبالتالي تحتاج هذه الدبابات إلى ناقلات أكبر وأثقل من الناقلات المتوفرة حاليًا لدى الجيش الأوكراني

إذن معضلة الوقت والعدد تجعل من الصعب وضع المزايا الفنية لأنواع الدبابات وعربات القتال المدرعة المطروح إرسالها إلى أوكرانيا في الاعتبار، خاصة وأن هذه الأنواع تعتبر -رغم أن جميعها غربي المنشأ- لكنها تنتمي لمدارس تصنيعية مختلفة، فعربات القتال المدرعة الفرنسية الصنع “AMX-10″، ورغم تسليحها الجيد الذي يتكون من مدفع من عيار 105 ملم، تعاني من ضعف الدروع التي تتزود بها، على عكس عربات القتال المدرعة “برادلي” و”ماردر”، علمًا أن الأخيرة تعتبر من المنظومات المتقادمة، التي بدأ إخراجها من الخدمة في الجيش الألماني. يضاف إلى ذلك أنه حتى الآن لا يوجد يقين واضح بشأن النسخة التي سيتم إرسالها إلى أوكرانيا من دبابات “ليوبارد”. وهنا يجب التنويه أن بريطانيا تعتزم أيضًا إرسال نحو 30 مدفعًا ذاتي الحركة من نوع “AS-90″، لتدخل إلى الخدمة جنبًا إلى جنب مع المدافع السويدية ذاتية الحركة “أرتشر”، التي تخطط السويد لإرسال 12 مدفعًا منها قريبًا إلى أوكرانيا. كذلك تدرس لندن فكرة إرسال منظومات مهمة وهي عربات القتال المدرعة “FN432” وتحديدًا نسختها المحدثة المسماة “Bulldog”، والتي تتميز بتسلحها بصواريخ “هيلفاير” المضادة للدبابات، في حين تدرس السويد إرسال أعداد من عربات القتال المدرعة “CV-90”.

رغم ما سبق، إلا أن المباحثات بين كييف والدول الغربية، والتي تم بحثها بشكل أعمق خلال اللقاء الأخير بين رئيسي الأركان الأمريكي والأوكراني، تشمل معدات نوعية تحتاجها كييف، خاصة فيما يتعلق بالدفاع الجوي، فقد بدأت عمليات التجهيز لنقل منظومات الدفاع الجوي الأمريكية الصنع “باتريوت” من ألمانيا وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية، لتضاف إلى منظومات مهمة دخلت إلى أوكرانيا مؤخرًا مثل “ناسامز” الأمريكي الممول من كندا، و”أيريس-تي” الألماني، ولكن ستبقى معضلة مدة تدريب الأطقم الأوكرانية ماثلة أمام كييف، حيث تحتاج أطقم تشغيل بطارية “باتريوت” واحدة إلى نحو ثمانية أشهر من التدريب، وهو وقت لا تمتلك كييف رفاهية امتلاكه، خاصة وأنها تعاني من فجوات كبيرة في شبكة دفاعها الجوي، لدرجة أن بعض التقديرات تشير إلى حاجتها لنحو مئة بطارية دفاع جوي على الأقل لتغطية أجواء وسط وغرب البلاد. لذا طلبت كييف من الولايات المتحدة الأمريكية منظومات دفاع جوي إضافية، لكن هذه المرة من نوع “I-Hawk” وهي نسخة محدثة من بطاريات الدفاع الجوي قصيرة المدى “Hawk”.

النقطة الأخطر فيما يتعلق بالدعم التسليحي الغربي الجاري دراسته حاليًا، تتعلق بإمكانية حصول كييف على قنابل صغيرة القطر “GLSDB”، يمكن إطلاقها عبر راجمات “هيمارس”، ويصل مداها إلى نحو 150 كيلو متر، وهو ما سيضع كافة القواعد العسكرية والجوية الروسية في نطاق الجبهة الجنوبية والشرقية، بما في ذلك مطار المروحيات الذي تم استحداثه مؤخرًا في مطار “بيرديانسك”، تحت مرمى الراجمات الأوكرانية، جنبًا إلى جنب مع قذائف المدفعية الموجهة بالليزر من عيار 155 ملم “Excalibur”، التي استخدمتها القوات الأوكرانية بنجاح خلال الفترة الماضية.

خلاصة القول، إن ملامح المرحلة القادمة على المستوى الميداني في أوكرانيا، تبدو من وجهة النظر الغربية أشبه بمحاولة لضمان “تثبيت الجبهات” في المرحلة المقبلة، ومساعدة كييف على الاستعداد لامتصاص الهجوم الروسي المتوقع، بالإضافة إلى الاستمرار في سياسة “تعظيم التكاليف”، التي من خلالها تعمل القوات الأوكرانية في الجبهة الشرقية، على إلحاق القدر الأكبر من الخسائر في صفوف القوات الروسية المهاجمة. هذا الوضع يمكن قراءته من خلال التدريبات التي بدأت مطلع الأسبوع الجاري في منطقة “جرافينوير” في ألمانيا، لتدريب القوات الأوكرانية على عمليات القوات المشتركة التي تشارك فيها الدبابات والمدفعية وعربات القتال المدرعة في وقت واحد، وهذا يتم بالتزامن مع بدء التجهيز لتشغيل عدد كبير من طائرات الإنذار المبكر “E-3A” من رومانيا.

وبغض النظر عن تمكن القوات الروسية من تحقيق تقدم أكبر في جبهة “دونيتسك”، وتحديدًا السيطرة – بعد مدينة سوليدار- على مدينة باخموت الاستراتيجية، ومن ثم عبور نهر باخموت غربًا ومهاجمة قوس دفاعي أوكراني أساسي في هذه الجبهة، وهو خط سلوفيانسك – كراماتورسك – دروزكيفكا – كونستانتينوفكا، يمكن اعتبار أن الأسابيع المقبلة ستكون فاصلة بين حرب استنزاف شتوية وبين حرب مفتوحة قد تبدأ بحلول الربيع، وفيها تكون معارك رئيسة للأسلحة المشتركة، بهدف نهائي وهو تحسين الموقف التفاوضي في المباحثات التي ستأتي آجلًا أو عاجلًا، ولهذا كان التصريح الأخير للأمين العام لحلف الناتو، رابطًا بين وصول مزيد من الدعم التسليحي لأوكرانيا وبين تزايد فرص إنجاح أية مفاوضات محتملة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75115/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M