د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
تكثفت في الآونة الأخيرة، وبالتزامن مع اشتداد حملة الانتخابات الرئاسيّة، حملة انتقادات قاسية من داخل أركان المؤسّسة الحاكمة، ترصد “تهاوي مكانة أميركا دولياً” جراء السياسات الراهنة لإدارة الرئيس ترامب، والّتي “أخفقت في معالجة جائحة كورونا” وتداعياتها على الاقتصاد الأميركي.
تأرجحت السّياسة الأميركية الخارجية، منذ الحرب الكونية الأولى والثانية بين سياسة الانطواء على الذات والانفتاح، سعياً إلى بسط السيطرة والهيمنة الأميركية على “مصادر الطاقة والثروات الطبيعية” عبر العالم.
ومنذ عهد الرئيس جورج بوش الإبن وتبنّيه “استراتيجية الحرب على الإرهاب” 2001، اشتدّ التنافس بين القوى العالمية الصاعدة وواشنطن، بسيطرة النخب السياسية من “المحافظون الجدد”، أضفى عليها الرئيس ترامب طابعه بإثارة “القومية الشعوبية البيضاء” من حلفائه داخل تيار اليمين الانجيلي، تمخّض عنها بلورة استراتيجية ثابتة تقضي بعدم السماح بقيام قوى منافسة، والعودة إلى سباق التسلّح وخصوصاً الأسلحة النووية.
الثابت في معظم ولاية الرئيس ترامب أنّ المجتمع الأميركي يعاني من التصدّع واشتداد حالة الانقسام الداخلي، معطوفاً على تراجع هيبة مكانة الاقتصاد الأميركي عالمياً، نتيجة جائحة كورونا واعتماد سياسات داخليّة تحابي أصحاب رؤوس الأموال وتقلِّص الاستثمارات الداخلية.
محصّلة ولاية الرئيس ترامب، والنظام السياسي الأميركي برمته، أنّ الإفراط في الشعور بالتفوق، حضارياً واقتصادياً وعلمياً، بدأ يعاني من الترهل ومواجهة الحقيقة جسّدها تراجع الإنتاج المحلي العام بنسبة 24% لواشنطن مقابل نحو 15% للناتج المحلي للصين.
على المستوى العالمي، رصد مركز “بيو” لاستطلاعات الرأي، ويعدّ الأكثر حصافة ومصداقية، زيادة “منسوب الكراهية” لسياسات الولايات المتحدة عبر العالم، وهي تقارب أو تتخطّى الأجواء العامة العالمية لمناهضة الحرب وغزو العراق في العام 2003، حسبما أفاد الاستطلاع.
النخب الفكرية والسياسية الأميركية أخذت علماً بتلك النتائج، معبّرة عن تصاعد منسوب القلق من المستقبل، وخصوصاً أنّ أبرز حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا كانوا الأقل تأييداً ومراعاةً للاعتبارات الأميركية.
الاستطلاعات أجريت قبل تفشي جائحة كورونا في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا والسويد واستراليا واليابان. نسب عدم الرضا والارتياح لسياسات واشنطن جاءت كالتالي: بريطانيا 65%، فرنسا 75%، ألمانيا 79%، كندا 67%، السويد 69%، استراليا 60%، اليابان 68%.
أما نسب “الرضا” عن سياسة الولايات المتحدة عند طرح السؤال بطريقة ايجابية، فقد جاءت بنتائج موازية: بريطانيا 41%، فرنسا 31%، ألمانيا 26%، اليابان 41%.
في الداخل الأميركي، جاءت النتائج مفزعة للمؤسّسة الحاكمة بأكملها، ونشر “مجلس شيكاغو” للأبحاث الاستراتيجية نتائج استطلاعه الدوري للعام 2020 من بيانات ومعلومات استقصاها بين مطلع ومنتصف شهر تموز/يوليو العام الجاري، ومحوره “كيف ينظر الأميركيون إلى أهمية السياسة الخارجية لبلادهم”، جسّد حالة الانقسام الحادة “بين الديموقراطيين والجمهوريين” في بلورة انخراط بلادهم في القضايا العالمية وتنفيذه.
من أبرز ما توصّل إليه الاستطلاع المذكور، الذي يطبّق كل أربع سنوات بالتزامن مع الانتخابات الرئاسيّة، أنّ عهد الرئيس ترامب تميّز بمحاباة النزعة القومية، والإحجام عن الانخراط عالمياً، وإعلاء مفهوم “أميركا أولاً”، مقابل “وعد” المرشح الديموقراطي جو بايدن بإعاد الحياة إلى سياسات “الشراكة وبناء التحالفات” التقليدية.
بلغة الأرقام أعرب نحو 58% من الجمهوريين عن تفضيلهم لشعار “أميركا أولاً” والتصّرف أحادياً، مقابل 18% من الديموقراطيين أيّدوا سياسة الانطواء الداخلي، بينما ايّد نحو 80% من الديموقراطيين التعاون مع الدول الأخرى، مقابل 40% من الجمهوريين.
اللافت أن يومية “واشنطن بوست” تناولت نتائج استطلاع مركز “بيو” في اليوم التالي لاحتفالية البيت الأبيض بتوقيع حكومتي الإمارات والبحرين اتفاقيتي تطبيع مع “الكيان الإسرائيلي”، ما فسّره المراقبون بتهميش “توهّج نجاح البيت الأبيض”.
يؤخذ على القائمين على استطلاع مركز “بيو” الدوري إضافة دولتي الدانمارك وبلجيكا لجمهور الاستطلاع، خروجاً عن القاعدة السابقة التي رسمها للدول المعنية. كما أنّ إرجاء المركز إعلان النتائج لتتزامن مع تنافس حملات الانتخابات الرئاسية رمى من ورائها إلى التأثير في وعي الناخب بالتصويت “ضد ترامب”.
قواعد استطلاع الرأي لا يتم التلاعب بها عادة، كما جرى في الحملة الرئاسية السابقة للعام 2016، وفق خبراء الاستطلاع والرافضين لنتائج “مركز بيو”، حين رصدت بيانات الاستطلاع تفوّق المرشحة هيلاري كلينتون على خصمها الجمهوري بنسب عالية، بينما فاز المرشح ترامب بأصوات المجمّع الانتخابي بنسبة مريحة.
في بريطانيا، بحسب نتائج الاستطلاع المذكور، كانت نسبة تأييد الرئيس ترامب عالية بين أوساط مؤيدي سياسة الخروج من الاتحاد الاوروبي، بريكست، و”بريطانيا أولا”. كما أن الاحزاب اليمينية الاوروبية تتشاطر منسوب العداء للمهاجرين مع انصار الرئيس ترامب بين الجمهوريين.
تناغمت نسب وجهات النظر للولايات المتحدة مع مدى ثقة الجمهور بأداء الرئيس، كما يقول “مركز بيو”، وانخفضت بشكل حاد في العام 2017، السنة الرئاسية الأولى لترامب، وزاد منسوب الانخفاض منذئذ باطراد “وبشكل أكبر في كلّ دولة شملها الاستطلاع”.
في السعي إلى إجابة شافية على مسألة “هبوط هيبة الولايات المتحدة وهيمنتها” عالمياً، لا ينبغي الإصغاء لنتائج استطلاعات الرأي بصورة حصرية، على الرغم مما تعكسه من توجهات شعبية حقيقية في فترة زمنية معينة، ووفق قيود صارمة تتحكّم بصياغة التساؤل أو تأثير صياغة معينة في طبيعة الإجابات التي بُنيت عليها النتائج، بل تجدر الإشارة إلى الأهمية البالغة التي توليها الحكومة الأميركية لمدى شعبيتها عالمياً، “وخصوصاص منذ الحرب العالمية الثانية”.
ميزانية الولايات المتحدة السنوية تتضمن بنداً ثابتاً بعنوان جذاب وخادع هو “برامج الديبلوماسية العامة”، ومعدّله نحو 2 مليار دولار، للإنفاق على المؤسّسات الإعلامية الأميركية الموجهة إلى الخارج، مثل “صوت أميركا” وإذاعة “سوا” وتلفزيون “الحرة”، والتمويل السخي “للمنظّمات الأهلية غير الحكومية” في الدول المعنيّة لتحسين صورتها فيها، فضلاً عن برامج تمويل أخرى تشرف عليها مباشرة وزارة الخارجية الأميركية، كوكالة التنمية.
ختاماً، تنبغي الإشارة الى آخر مظاهر تراجع مكانة أميركا على المسرح الدولي، بعجزها عن تنفيذ رغبتها في تجديد العقوبات الدولية على ايران، وفشل كلّ مساعيها في مجلس الأمن.
رابط المصدر: