د. محمد عباس ناجي
منذ بداية تصاعد حدة الاحتجاجات الحالية التي تشهدها إيران، منذ 16 سبتمبر الفائت، بدا لافتاً أن هناك اهتماماً خاصاً تبديه الولايات المتحدة الأمريكية بدعم المحتجين، خاصة على صعيد إمدادهم بالآليات التي يستطيعون من خلالها التحايل على القيود التي تفرضها السلطات على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. كما اتجهت، على غرار ما فعلت بعض الدول الغربية، إلى فرض عقوبات جديدة على بعض المسئولين والكيانات الإيرانية التي تتهمها بقمع الاحتجاجات وارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
وقد كان العنوان الأبرز للمقاربة الجديدة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في هذا الصدد هو عدم تكرار أخطاء إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما التي عزفت عن دعم الاحتجاجات التي قادتها الحركة الخضراء في إيران في عام 2009 للتنديد بنتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في منتصف هذا العام وأسفرت عن فوز الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.
هذه السياسة الجديدة التي تتبناها إدارة الرئيس بايدن إزاء الاحتجاجات في إيران تكتسب أهميتها من كونها تأتي في وقت تتعثر فيه المفاوضات النووية، على نحو أضعف من احتمالات الوصول إلى اتفاق نووي جديد، على الأقل في المدى القريب، بسبب إصرار إيران على ضرورة الاستجابة لبعض شروطها الخاصة، مثل الحصول على ضمانات بعدم الانسحاب الأمريكي مجدداً من الاتفاق وتوسيع نطاق العقوبات التي سوف ترفعها الولايات المتحدة الأمريكية وإغلاق ملف التحقيقات الخاصة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وهنا، فإن ثمة تساؤلات عديدة تطرح نفسها عن العوامل التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى اتباع هذه السياسة في التعامل مع الاحتجاجات الإيرانية، وما إذا كان ذلك يرتبط بوجود رغبة في إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي يسيطر على السلطة منذ 43 عاماً، وهو الاحتمال الذي حاولت بعض قوى المعارضة الإيرانية في الخارج الترويج له في الفترة الأخيرة. بل إن النظام نفسه أمعن في تبني هذه الرواية في سياق حملته لتشويه الاحتجاجات واتهام المحتجين بأنهم يخدمون أجندات قوى خارجية تسعى إلى تقويض دعائمه ونشر الفوضى في إيران.
مقاربة مختلفة
ربما يمكن القول إن الهدف الأساسي الذي تسعى الإدارة الأمريكية إلى تحقيقه يتمثل في “ترشيد سلوك” النظام الإيراني وليس إسقاطه. وهنا، فإن الاهتمام الأكبر ينصب على اتجاهات السياسة الخارجية التي يتبعها الأخير، وليس موقفه من القضايا الداخلية مثل الحريات العامة والإصلاح السياسي وغيرها والتي اكتسبت زخماً خاصاً خلال الاحتجاجات الحالية. وبمعنى أدق، فإن الإدارة الأمريكية تسعى إلى استغلال أزمة داخلية لفرض تغييرات على الصعيد الخارجي.
ووفقاً لهذه المقاربة، فإن تغيير سلوك النظام يمكن أن يساعد في تحقيق هدفين رئيسيين: أولهما، تعزيز فرص الوصول إلى صفقة جديدة مع النظام حول الملف النووي، إلى جانب الملفات الخلافية الأخرى التي لا تقل أهمية وفي مقدمتها برنامج الصواريخ الباليستية، والتدخلات الإقليمية. وربما يمكن القول إن الملفين الأخيرين يحظيان بأهمية خاصة لدى قوى عديدة في المنطقة من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، قد تفوق أهمية وخطورة الملف النووي.
فالخطر الذي يمكن أن يفرضه الملف الأخير ما زال مؤجلاً، باعتبار أن إيران ما زالت في حاجة إلى إمكانيات تكنولوجية نوعية قبل أن تصبح دولة تمتلك قنبلة نووية، هذا في حالة ما إذا افترضنا أنها بالفعل تتجه إلى تبني هذا الخيار أو اتخذت قراراً سياسياً في هذا الصدد. في حين أن الخطر الذي يفرضه الملفان الآخران قائم بقوة، حيث تواصل إيران تدخلاتها السافرة في الشئون الداخلية لدول المنطقة سواء دول الأزمات أو بعض دول الجوار.
كما أنها تستخدم صواريخها الباليستية لتصفية حساباتها مع خصومها، على غرار ما حدث عندما وجهت ضربات صاروخية إلى قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية في 8 يناير 2020 رداً على قيام الولايات المتحدة الأمريكية باغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني قبل ذلك بخمسة أيام، فضلاً عن الضربات الصاروخية التي وجهها الحرس الثوري إلى الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة في شمال العراق، بداية من 28 سبتمبر الفائت، في سياق مزاعمه بشأن محاولات تلك الجماعات تأجيج الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت بعد وفاة الفتاة الكردية مهسا اميني.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية، في بداية المفاوضات مع إيران التي افتتحت في 6 أبريل 2021، ممارسة ضغوط على الأخيرة لإجراء مفاوضات شاملة تتضمن كل هذه الملفات، إلا أن ذلك قوبل برفض واضح من جانب إيران التي أكدت مراراً على أن المفاوضات تجري حصراً حول الاتفاق النووي فحسب. ومن هنا، فإن واشنطن تطمح في أن تساعد الاحتجاجات الداخلية الحالية التي امتدت إلى أسبوعها السادس، في الضغط على النظام لتبني سياسة أكثر مرونة في هذا الصدد، بشكل يمكن أن يساهم في تحقيق الرؤية الأمريكية في هذا الصدد، خاصة أن بعض القوى الإقليمية ما زالت تضغط من أجل العمل على الوصول إلى اتفاق شامل يستوعب كل الملفات الخلافية.
وثانيهما، اضطرار النظام إلى محاولة استيعاب الضغوط التي يفرضها استمرار المحتجين في الشارع رغم كل الإجراءات القمعية التي يتبناها في التعامل معهم، سواء من خلال القيود المفروضة على الإنترنت أو اعتقال عدد كبير منهم بل وقتل بعضهم، وذلك عبر الاستجابة لبعض المطالب، على غرار تقليص مستوى الدعم الذي يقدمه إلى حلفاءه الإقليميين من الأنظمة، مثل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، والمليشيات، على غرار حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، والمليشيات الشيعية متعددة الجنسيات في سوريا.
ورغم أن تقليص هذا الدعم، وربما إنهاءه، يمثل أحد مطالب المحتجين، ليس خلال الاحتجاجات الحالية فحسب، بل في الاحتجاجات السابقة، على غرار الاحتجاجات التي اندلعت في أعوام 2009 و2017 و2019، إلا أنه حظى باهتمام وزخم خاص خلال الاحتجاجات الحالية، على نحو بدا جلياً في تعمد المحتجين إحراق تمثال قاسم سليماني في العاصمة طهران في 24 أكتوبر الجاري.
حرص المحتجين على إحراق تمثال سليماني يمثل رسالة من جانبهم إلى النظام مفادها أنهم يرفضون التدخلات الإقليمية التي يقوم بها في منطقة الشرق الأوسط، والتي كان يديرها سليماني قبل مقتله، الذي تسبب في ارتباك واضح في هذه التدخلات بدليل عدم قدرة إيران على احتواء الأزمات السياسية والضغوط التي تتعرض لها في بعض الدول مثل العراق واليمن.
فهذه التدخلات استنزفت، في رؤية المحتجين، الموارد الإيرانية، في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية داخل إيران نفسها، على غرار وصول معدل التضخم إلى 40% ومستوى البطالة إلى 12%. كما أنها عرّضت إيران لعزلة دولية وعقوبات أمريكية وغربية كان لها تأثير واسع في تفاقم هذه الأزمات وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على احتواء تداعياتها.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إنه رغم أن مستوى الدعم الذي تقدمه الإدارة الأمريكية للمحتجين في إيران قد يتطور مع استمرار الاحتجاجات نفسها- على نحو لم يتوقعه لا النظام ولا القوى الخارجية- إلا أنه في الغالب سوف يبقى مرتبطاً بالخيارات المتاحة أمام الإدارة الأمريكية، ورؤيتها للآليات التي يمكن من خلالها التعامل مع أزمات الشرق الأوسط، والتي تحولت إيران إلى طرف رئيسي في معظمها إن لم يكن مجملها.