ترمب سعى لتصوير تظاهرات جورج فلويد كحفلات عنف منفلت

ريتشارد هول

 

ما إن عبر المتظاهرون جسر مانهاتن قادمين من حي بروكلين، حتى توقفوا على بعد مبانٍ قليلة من وول ستريت، شارع المال الشهير في نيويورك، ودعت إحدى منظمات التحرك في طليعة الحشد المتظاهرين إلى التوقف، وحملت مكبراً للصوت.

ثم صرخت بأعلى صوتها “إنها الذكرى الـ99 لإحراق شارع وول ستريت الأسود”. آنذاك، فقد 300 شخص حياتهم، في إشارة إلى مذبحة “سباق تولسا” في العام 1921، حين قتل السكان البيض جيرانهم السود، وأحرقوا مؤسساتهم التجارية وأعمالهم بالكامل. وأضافت “الليلة، نسير من أجل شارع وول ستريت الأسود”.

وفي مكان غير بعيد عن الموقع الذي خاطبت منه تلك الناشطة حشداً من نحو ألف شخص، في أحد جوانب التظاهرة، بدأ التململ يظهر على مجموعة من الشبان اليافعين الملثمين. وصرخ أحدهم وهو يجاهد كي يسمعه الآخرون “تعالوا معنا إن كنتم تريدون المشاركة في النهب”. وحثهم على ذلك مراراً وتكراراً، منتظراً تجاوبهم معه، قائلاً “فلننهب!”. لم ينضم أحدٌ إليه. تجاهلته المسيرة، ومضت في طريقها السلمي.

طافت في المدينة تلك الليلة مسيرات عدة، انضم إليها آلاف الأشخاص، لكن ما تصدّر الأخبار في اليوم التالي تمثّل في العدد الأصغر من الشبان المشاركين في أعمال النهب.

وشكّل المشهد وما حدث في أعقابه صورة تعبيرية عن مشكلة أوسع تتعلق بطريقة تصوير التظاهرات التي عمّت كل أرجاء البلاد على خلفية مقتل جورج فلويد على يد الشرطة. ويُقصد من ذلك، أن الغالبية العظمى لهذه التظاهرات جاءت سلمية ومنظمة، وبلغت حجماً لم تعهده الولايات المتحدة منذ عقود طويلة، ومع ذلك، طغت عليها مشاهد الفوضى والعنف الذي تسببت به قلة من الأشخاص.

استحوذت أعمال النهب والعنف على عناوين الأخبار. وفي بعض الأحيان (ما خلا بعض الاستثناءات الملحوظة) جاءت التغطية التلفزيونية للتظاهرات أقرب إلى طريقة تغطية سقوط بغداد منها إلى تغطية اضطرابات داخلية. إذ ينطلق المذيعون داخل استوديوهات التلفزيون في خطاباتهم، بينما يتابعون مشاهد التقطتها الكاميرات من المروحيات، وتُبين تقدّم المتظاهرين عبر الشوارع، ويعيدون عرض فيديوهات لمواجهات الشرطة والمتظاهرين. لكن أصوات المتظاهرين غائبة.

في ذلك الشأن، تبدو خطيئة الإغفال عن هذه الأصوات ضئيلة مقارنة مع الاستراتيجية المتعمدة والمدروسة، التي تنتهجها إدارة دونالد ترمب من أجل استغلال الفوضى لخدمة مآربها السياسية. إذ سعى ترمب إلى تصوير الاضطرابات التي عمّت البلاد على أنها أزمة قانون ونظام، محمّلاً متطرفي اليسار ومثيري الفتنة مسؤوليتها. وقرر أن يركز حصراً على مشاهد العنف، وهدد بنشر الجيش الأميركي داخل المدن الأميركية من أجل إعادة فرض الهدوء.

وحسب كلماته، “إذا رفضت مدينة، أو ولاية أن تتخذ الخطوات المطلوبة من أجل الدفاع عن حياة سكانها وممتلكاتهم، فلسوف أنشر القوات العسكرية الأميركية، وأحل مشكلتهم بسرعة”.

واستطراداً، تكرر وصف ترمب للتظاهرات على ألسنة مناصريه في وسائل الإعلام المحافظة. وفي خطاب لاذع أدلى به في وقت سابق من هذا الأسبوع، عمل تاكر كارلسون معلق محطة “فوكس نيوز” الإخبارية، على الخلط بين المتظاهرين السلميين والأقلية العنيفة.

وحسب كارلسون، “على مدار الساعة، نشاهد على شاشات التلفزيون هؤلاء الأشخاص، تلك الحشود من المجرمين، وهم يدمرون ما بناه بقيتنا. لا يكلف هذا النوع من الأشخاص نفسه عبء العمل. ولا يتطوّع لدفع الضرائب من أجل مساعدة الآخرين. إنهم لا يعيشون إلا لأجل أنفسهم. ويتصرفون على سجيتهم. ويتكلمون على سجيتهم”.

في المقابل، إن الصورة التي يقدمها ترمب وحلفاؤه أبعد ما تكون عن الحقيقة. صحيح أنّ أعمال عنف اندلعت داخل مدن في الولايات المتحدة، وتعرضت الشرطة لهجمات، كما تعرّضت ممتلكات للتخريب ومتاجر للنهب. لكن، إشعال الحريق لا يتطلب أكثر من شخص واحد. وكل ما يتطلبه تعطيل مدينة كاملة لا يزيد على عشرات الأشخاص، بينما الشرطة منهمكة في تفريق التظاهرات السلمية بأماكن أخرى.

هنا في نيويورك، كما في كل أرجاء البلاد، تضافرت جهود المتظاهرين في الحرص على استمرار الطابع السلمي لاحتجاجاتهم. مساء الاثنين الماضي في بروكلين، شاهدت رجلاً يقاطع خطاباً عميقاً لأحد المتظاهرين، كي يصرخ “العنف هو الحل!”، سارعت شابة سوداء نحوه فوراً، وقالت له بلا تردد “اخرس”.

تحدث تلك المشاهد في كل أنحاء البلاد. مساء الثلاثاء الماضي، ظهر فيديو يصوِّر متظاهراً يُمسك بأحد الناهبين ويطرحه أرضاً بينما كان يغادر متجراً في مانهاتن، وينهره ويصرخ به قائلاً: “لست حليفاً للسود”. كما ظهر شريط يصوّر سيدة في “إيست فيليدج” تصرخ احتجاجاً في وجه ناهبين اقتحموا متجراً يقع أسفل شقتها. وفي فيديو آخر من منطقة “راليه” في ولاية كارولاينا الشمالية، ظهر رجل يحطّم نافذة بلوح التزلج، قبل أن يتصدى له بعض الأشخاص، ثم يذهب إلى حال سبيله.

وفي الحقيقة، انطلقت معظم أعمال العنف التي تظهر على شاشات التلفزيون بسبب وكالات الأمن، وحماستها الزائدة في أثناء محاولتها تفريق تظاهرات سلمية. ويستطيع العالم بأكمله أن يرى السخرية واضحة في أن ما واجهته التظاهرات المناهضة وحشية الشرطة لم يكن سوى مزيدٍ من وحشية الشرطة. ودفع ذلك بـ”منظمة العفو الدولية” إلى إصدار بيان يهاجم استجابة الشرطة الأميركية للاحتجاجات.

وفي ذلك الصدد، ذكرت رايتشيل وارد، المديرة الوطنية للبحوث في الفرع الأميركي لـ”منظمة العفو الدولية”، أن “الشرطة الأميركية في كل أرجاء البلاد لا تفي التزاماتها بموجب القانون الدولي، في ما يتعلق باحترام التظاهر السلمي، وتسهيل الحق به. وبهذا، تزيد الشرطة من حدة وضع متوتر أصلاً، وتضع حياة المتظاهرين في خطر”.

وأضافت، “في مدينة تلو الأخرى، نشهد أعمالاً يمكن اعتبارها قوة غير ضرورية، أو مفرطة. ونحن نطالب بوقف كل استخدام لهذه القوة، كذلك ندعو القوى الأمنية إلى أن تضمن، وتحمي حق التظاهر الذي يكفله القانون”.

ثمة هدف وراء محاولات ترمب تصوير المتظاهرين، باعتبارهم أشراراً. فمن خلال ذلك، يستطيع أن يؤدي دور الرجل القوي الذي يفرض النظام والاستقرار. وربما لأنه يعي عجزه عن معالجة مشكلات الظلم العرقي، وعنف الشرطة المتجذر في هيكلية أميركا، ونظامها، ويستطيع في المقابل أن يلجأ إلى حل مُحكم أشد قسوة بكثير. حل عسكري لمشكلة اجتماعية.

لكن، ربما يكون ذلك أصعب مما يتوقع. إذ تراجعت حالات اندلاع العنف الأولية في المدن حول البلاد في الوقت الراهن، لتحل مكانها مسيرات أكبر بعد. وبوجود عدد أقل من صور الفوضى التي يستطيع أن يشير إليها، ستلقى دعوات ترمب إلى القمع عدداً أقل فأقل من الآذان المصغية.

ما الذي تبقّى؟ يبقى ما كان موجوداً طوال الوقت في الخلفية: مئات الآلاف من الأشخاص الذين يعبّرون عن غضبهم تجاه موت فلويد، والظلم العرقي عبر التظاهر السلمي. ومسيرات تتحوّل إلى اجتماعات حاشدة وجلسات حداد، وقراءات شعرية وصلوات ليلية، تضم أشخاصاً من مختلف الثقافات والأجيال. وشبان وشابات يشارك عديد منهم للمرة الأولى في حياتهم بتظاهرات، ويدلون بخطابات ويستمعون إلى أخرى، يرددون أسماء الرجال والنساء السود الذين قتلتهم الشرطة مراراً وتكراراً، ويتعهدون أن لا ينسوهم.

ولقد لخصت متظاهرة شابة المزاج العام بشكل أفضل مما تستطيع أن تفعله ساعات من التغطية الإعلامية المستمرة، قبل أن تتوجّه مباشرة إلى منزلها قبيل بدء سريان منع التجوّل مساء الاثنين.

إذ قالت لي تلك المتظاهرة، واسمها هانيك، “أشعر بأنني أعيش حقّاً، أكثر من كل وقت مضى في حياتي. وأشعر بأنه لديّ ما أحارب من أجله وأدافع عنه. نحن هنا من أجل إحداث تغيير على المدى البعيد”. واستطراداً، “نحن هنا على المدى البعيد أيضاً. ستظل هذه الشعلة متقدة”.

 

رابط المصدر:

https://www.independentarabia.com/node/125311/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D8%B3%D8%B9%D9%89-%D9%84%D8%AA%D8%B5%D9%88%D9%8A%D8%B1-%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC-%D9%81%D9%84%D9%88%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D8%AD%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%86%D9%81-%D9%85%D9%86%D9%81%D9%84%D8%AA

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M