تصعيد غير مُجدٍ: كيف تعامل زيلينسكي مع الكرملين قبل الحرب؟

 داليا يسري

 

تُفسَّر كلمة “السياسة” بوصفها كلمة تعكس مفهوم معالجة الأمور ورعاية كافة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى توزيع النفوذ والقوة ضمن حدود مجتمع ما. وتُفسَّر أيضًا على أنها العلاقة التي تربط بين الحُكام والمحكومين في الدولة. وتندرج مادة العلوم السياسية تحت فرع العلوم الاجتماعية، لكنها تتميز عن سائر هذه العلوم بأنها تتركز حول القوة، التي تُعرَّف بوصفها قدرة أحد الفاعلين السياسيين على جعل فاعل آخر يفعل ما يريد.

وتعود بدايات ظهور علم السياسة إلى العصر اليوناني القديم. ويُلاحظ ظهوره في صورته العصرية الأكاديمية لأول مرة في عام 1856، عندما أنشئ كرسي مستقل لعلم السياسة بجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة. وبعد الحرب العالمية الثانية، انتشرت العلوم والدراسات السياسية في جامعات العالم أجمع؛ نظرًا لوجود ضرورات مُلحة لدراسة هذا الفرع الإنساني أملًا في تجنيب الإنسانية المزيد من الحروب والآلام.

لذا، نُدرك مما سبق، أن حاجة البشرية لدراسة العلوم السياسية باتت أمرًا لا مفر منه، لتجنب الحروب. والعكس صحيح، فقد بات جليًا أمام العالم أجمع أن الافتقار للمعرفة بهذه العلوم لدى صانع قرار بحجم رئيس دولة، مثل الرئيس الأوكراني، “فلاديمير زيلينسكي”، قد أودى بنتائج كارثية عادت بالخراب على شعبه في المقام الأول، وبالدمار الاقتصادي على العالم أجمع في المقام الثاني.

علاوة على ذلك، تظل المعاناة التي لا يدرك أحد لها نهاية مستمرة. ومن هذا المنطلق، نرى أنه من الضروري الوقوف على أبرز ملامح الطريقة التي تعامل بها “زيلينسكي” مع الكرملين على مدار سنوات ما قبل الحرب، لدراسة كيف من الممكن أن تتسبب سلسلة من القرارات غير الرشيدة في وقوع كوارث كان من الأجدر تجنبها.

النتائج المترتبة على القيود الأوكرانية على الثقافة الروسية قبل الحرب

بتاريخ ديسمبر 2016، اعتمد البرلمان الأوكراني قانونًا يسمح بمنع استيراد أي مطبوعات “ذات محتوى معادي” لسيادة واستقلالية ووحدة الأراضي الأوكرانية. وبتاريخ يناير 2017، دخل القانون حيز التنفيذ، بعد أن صوت البرلمان الأوكراني على ضرورة منع استيراد أي مطبوعات من روسيا، إلا بعد حصولها على تصريح خاص. ويحظر على المسافرين بين البلدين أن يحضروا معهم ما يزيد على عشرة كتب بحد أقصى! ولقد قام زيلينسكي بعد وصوله إلى الحكم بتعزيز هذا القانون وإضافة المزيد من القيود عليه.

ووفقًا لهذا القانون، تقوم الدولة بفحص جميع الكتب القادمة من روسيا بحثًا عن محتوى مناهض للهوية الأوكرانية، ويتم عمل هذا الفحص من قبل لجنة من خبراء الإعلام في أوكرانيا. وتضم هذه اللجنة عادة مجموعة من العلماء والكُتاب والمؤرخين والصحفيين، ويشترط أن يكون هؤلاء قد قرأوا الكتاب المرجو استيراده بعناية ودرسوا مراجعه الرسمية والوثائق المتعلقة بنشره، وجميع هذه الخطوات يحتاج الناشر الأوكراني توفيرها قبل الموافقة على استيراده داخل البلاد.

وبغض النظر عن أن هذا القرار كان له وقع استفزازي على موسكو، إلا أنه كان قرارًا قد جلب –أولًا وقبل أي شيء- أضرارًا جمة على عالم النشر في أوكرانيا. فقد تضرر ناشرو الكتب الأوكرانيون بشدة من هذا القرار؛ نظرًا لأن أوكرانيا اعتادت فيما قبل استيراد نحو مائة ألف كتاب سنويًا يأتي معظمها من روسيا، في مقابل نسبة ضئيلة للغاية من أوروبا، مما تسبب في خسائر فادحة للناشرين الأوكرانيين الذين انتقدوا القرار، نظرًا لأنه على حد وصفهم آنذاك، قرار بيروقراطي وروتيني معقد، لم يفعل شيئًا سوى أنه حوّل الكتب إلى سلع تتماثل مع السلع المهربة التي لا تدخل البلاد من أبوابها الأمامية وتدخل من الخلفية فقط بعد القرار.

وقد جلبت القرارات ذات الصلة المعاناة إلى سوق الكتب الأوكرانية بوجه عام؛ إّذ تسببت في إحداث نقص كبير في المؤلفات العلمية والمنهجية والكتب الطبية وكتب إدارة الأعمال والتي كانت تستورد تلقائيًا إلى أوكرانيا من روسيا. وبالنسبة للناشرين، تضاعفت أسعار هذه الكتب ثلاث مرات، نظرًا لعدم قدرتهم على شراء هذه الكتب في شكلها الإلكتروني وذلك بموجب القانون الذي يحدد مجالات الكتب التي يتم شراؤها عبر الإنترنت كذلك.

كيف حاربت السلطات الأوكرانية اللغة الروسية؟

بدأت السلطات الأوكرانية منذ أوائل العام 2021 في الاعتماد على سياسة تقوم على تشديد حربها مع الاتحاد الروسي ونقلها إلى مواجهات لغوية، خاضتها أوكرانيا تحت لواء “الحفاظ على الهوية الأوكرانية”، ومقاومة توغل اللغة الروسية في الحياة الأوكرانية. وبدأت في فرض حظر على استخدام اللغة الروسية في المؤسسات والتعاملات الرسمية، وفي المتاجر والأكشاك التجارية والمطاعم والمقاهي التي بدأت بدورها تواجه قرارات تحظر على العاملين والباعة فيها الرد أو التعامل مع عملائهم بغير الأوكرانية.

وإلى جانب الاستياء الكبير الذي أثارته القرارات من هذا القبيل لدى الكرملين، فقد تسببت أيضًا في إثارة تساؤلات حول ماهية وتفسير كلمة “الهوية الأوكرانية الخالصة”، بمعنى، كيف يتم التمييز بين ما هو أوكراني وما هو روسي إذا كان الشخص الأوكراني يظل معتمدًا على الروسية في حياته اليومين رغم معرفته المتقنة بلغة أخرى؟ وهو ما اضطر الدولة الأوكرانية إلى حل هذا اللغط من خلال التفرقة بين هذا وذاك، بالقول بأن الأوكراني الأصلي هو من يعترف بسيادة أوكرانيا على شبه جزيرة القِرم، وما دون ذلك لا يمكن أن تُنسب هويته إلى أوكرانيا!

ولقد أتى هذا النمط من القرارات بوصفه نمطًا مثيرًا للجدل للغاية، لعدة أسباب؛ أولها: يتمثل في أن نسبة ليست قليلة من سياسيي أوكرانيا إما ولدوا في روسيا أو حصلوا على تعليمهم هناك، ثم عادوا لممارسة الحياة السياسية في أوكرانيا، مما يطرح سؤالًا مُلحًا حول حقيقة هويتهم؟! وثانيها: يتمثل في أن الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين جميعهم شعوب تتحدر من عرقية بشرية واحدة. وجميعهم يتشاركون الأساطير الشعبية نفسها والتاريخ واللغة. مما يجعل الأوكرانية شيئًا أقرب إلى اللهجة الشعبية أو اللغة الفرعية، شأنها في ذلك شان اللغة الكازاخية، وهو الشيء الذي يظل يطرح سؤالًا مُلحًا حول كيف يمكن الفصل بين هويتين لشعوب تتمتع بطبيعتها بنفس الهوية؟ وما هي الجدوى من هذا النمط من القرارات التي لا تتسبب في أي شيء سوى أنها تزيد من مستوى تعقيد العلاقات مع روسيا؟!

قانون السكان الأصليين: عنصرية قانونية غير مُبررة

تقدم الرئيس الأوكراني، أوائل العام 2021، للبرلمان بمشروع قانون بشأن السُكان الأصليين. وينص هذا القانون على أن أوكرانيا يعيش فيها مجتمع عرقي أصلي، تم تشكيله على أراضي البلاد بشكل طبيعي، ويمتلك لغة وثقافة أصليتين، ولديه كذلك هيئات تقليدية أو اجتماعية أو ثقافية أو تمثيلية. وهو القانون الذي وافق عليه البرلمان الأوكراني بتصديق من 325 من نوابه، وتم اعتماده بالفعل في أوائل يوليو من العام نفسه. ويفسر القانون السكان الأصليين المُعترف بهم لأوكرانيا بأنهم العرقيات التي تنتمي إلى “تتار القرم، والقرائيين، والكريشماك”، ولا يندرج الروس من بينهم.

ويكفل القانون للشعوب الأصلية لأوكرانيا الحق في تقرير المصير، والحماية القانونية المتكافئة، وحماية الرموز الوطنية للسكان الأصليين، واتخاذ إجراءات في هذا الصدد وفقا للقانون الأوكراني، فضلًا عن الحق في نقل تاريخها ولغاتها وتقاليدها والكتابة والأدب لأجيال المستقبل. وكذا يمكن للشعوب الأصلية إنشاء مؤسساتها التعليمية الخاصة والدراسة بلغتها الأم، وسيكون لديها (الشعوب الأصلية) كذلك الحق في إنشاء وسائل الإعلام الخاصة بها، وتلقي التمويل من ميزانية الدولة. ويضمن القانون كذلك الحماية القانونية للشعوب الأصلية ضد أي إجراءات تهدف إلى حرمان الشعوب الأصلية من علامات الانتماء العرقي، ويهدف إلى حمايتها وعدم حرمانها من قيمها الثقافية، أو تعرضها لعمليات الإخلاء أو التهجير القسري من أماكن إقامتها بأي شكل من الأشكال.

وفي هذا السياق يمكن أن نفهم مصدر لفظة “النازيين الجُدد” التي لا ينفك الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، يرددها وينعت بها السلطات الأوكرانية في الآونة الأخيرة. فقد أثار هذا القانون –منذ اللحظات الأولى للإعلان عنه- استياءه الشديد، ووصفه “بوتين” بأنه قبيح نظرًا لخلو قائمة السكان الأصليين من الشعوب الروسية. ولفت إلى “أن التقسيم في حد ذاته بما يجعل السُكان أصليين من الدرجة الأولى، أو غير أصليين من الدرجة الثانية، وما إلى ذلك يبدو مثل ممارسات ألمانيا النازية”. وأضاف، “أن زيلينسكي نفسه يهودي، لكن السؤال هنا، هل سيفعلون في أوكرانيا مثلما فعلوا في ألمانيا النازية، باحتجاز الأشخاص وفقًا لمعايير جماجمهم، باستخدام بوصلات لتحديد الآريين الأصليين وغير الأصليين؟ هل سيُحدد الأوكراني الحقيقي من الأوكراني غير الحقيقي بنفس الطريقة؟”.

وشدد بوتين –آنذاك- على أن موسكو لن تظل غير مبالية بمثل هذه القرارات، لأنها تُمثل ضربة قوية وخطيرة للشعب الروسي ككل، لافتا إلى أنه لا يوجد شخص يرغب في أن يكون مواطنًا من الدرجة الثانية. مؤكدا أنه لا يتحدث حتى عن التمييز في اللغة والمكونات الأخرى للحياة التي يرغب بها الشخص الطبيعي، ولكن سيؤدي ذلك أيضًا إلى حقيقة مفادها أن مئات الآلاف وربما حتى الملايين إما سيضطرون إلى مغادرة البلاد أو إعادة تقديم أنفسهم بطريقة مختلفة.

وختامًا، تُشير الظروف المحيطة بالانتخابات الرئاسية التي نجح الرئيس الأوكراني في اجتيازها عام 2019 إلى أن استطلاعات الرأي أوضحت أن المجتمع الأوكراني كان يعايش آنذاك توجهًا عامًا بضرورة اللجوء إلى وجوه جديدة، سواء على مستوى الشخصيات السياسية من المسؤولين أو على مستوى اللجوء إلى الاستعانة بأفراد منتمين للأحزاب السياسية التي تم تشكيلها حديثًا، والتي لا يتمتع قادتها بأي خبرة في البرلمان والمجالس المحلية.

وتعود الأسباب وراء التوجهات الشعبية الأوكرانية في هذه الفترة إلى السياسات الفاشلة التي اتبعها سلفه “بيتر بورشينكو”، والتي أودت بأوكرانيا إلى أن تحتل المرتبة الأولى كأفقر دولة في أوروبا، وما رافق ذلك من تعقد في الأمور المعيشية على كافة المستويات بالنسبة للمواطن الأوكراني، وهي الأمور التي دفعت جميعها الشعب إلى التطلع إلى وجوه سياسية جديدة أملًا في مستقبل أفضل.

غير أن رياح المجهول ربما أتت بما لا تشتهيه السفن، وتحولت فترة رئاسة الرئيس الجديد، في الحُكم والسياسة على حد سواء، “فلاديمير زيلينسكي”، إلى سنوات كارثية قادت البلاد من وضع اقتصادي صعب، إلى وضع أصعب، آل في نهاية المطاف إلى مصير مأساوي؛ بسبب اعتماد القيادة الأوكرانية منذ يومها الأول في الحكم على إصدار قرارات استفزازية تخلو من أي فهم لمقتضيات السياسة وضرورات الدبلوماسية، ولا جدوى من خلفها سوى زيادة الأمور مع الاتحاد الروسي تعقيدًا.

ذلك بالإضافة إلى عدم قدرة النظام الأوكراني على تقدير حجم المواقف الدولية للفاعلين الكبار من حوله، قياسًا على قدرته الحقيقية –الاقتصادية والسياسية والعسكرية- وخلو قراراته بوجه عام من أي حكمة سياسية أو دبلوماسية كان من شأنها أن تُعطي للدب الروسي إشارات طمأنة بأن أوكرانيا وإن لم تصبح حليفًا للاتحاد الروسي، فإنها بالتأكيد ستظل دولة على وضع الحياد، وتعمل دورًا عازلًا بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي. وهي جميعها الأمور التي لم تحدث قط، فقد اتخذ “زيلينسكي” بدلًا عن ذلك مسارًا شديد الاستفزازية لم يكن أي رئيس آخر يتحلى بالقليل من الحكمة السياسية ليسلكه في نفس الموقف.

وهو ما قاد الأمور إلى اللحظة الحالية التي قادت فيها عدم خبرة الرئيس الأوكراني العالم أجمع إلى حرب كان الجميع في غنى عنها. لهذا السبب، ربما نعرف اليوم، أن التاريخ الإنساني سيتوقف عند هذه الحكمة ليتعلم وبالطريقة الصعبة “أنه لا ينبغي على الرئيس أن يصبح مهرجًا، ولا يُمكن كذلك للمُهرج أن يؤدي دور الرئيس”.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/68042/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M