أسماء رفعت
يرتبط الاقتصاد بالبيئة ارتباطًا واضحًا؛ ويبدو هذا الترابط جليًا في أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، والتي تجمع بين الشق الاقتصادي والبيئي والاجتماعي، وبصفة خاصة يتمثل الهدف الرابع عشر من أهداف التنمية المستدامة في الحفاظ على المحيطات والبحار والموارد البحرية، واستخدامها بشكل مستدامٍ لتحقيق التنمية المستدامة، ويرتبط ذلك الهدف بمفهوم الاقتصاد الأزرق، والذي ظهر منذ عام 1990 من قبل الاقتصادي البلجيكي غونتر بولي Gunter Pauli، وهو يضم كافة الموارد المائية في البحار والمحيطات وإدارتها بشكل يضمن تحقيق التنوع البيولوجي، واحترام حقوق النظام البيئي، مع تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية ذات الصلة بتلك الموارد، مثل القيام بأنشطة الصيد المستدام للأسماك والكائنات البحرية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والقضاء على الفقر والجوع، وتوفير فرص عمل، وتوليد الطاقة الكهرومائية، واستخراج المواد الخام من البحار، والقيام بأنشطة التعدين في البحار والمحيطات وتنمية السياحة البحرية.
ويتبين من ذلك تركيز الاقتصاد الأزرق على تحقيق الاستخدام المستدام لكافة الموارد المائية بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة بكافة محاورها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وفي إطار تزايد الاهتمام الدولي بالشق البيئي لعملية التنمية المستدامة يتناول المقال استعراض مفهوم وأهمية الاقتصاد الأزرق، وبحث الفرص المتاحة لتوجيه النشاط الاقتصادي لمسار أكثر استدامة، مع التركيز بشكل خاص على الاقتصاد المصري.
الاقتصاد الأزرق.. المفهوم والأهمية
يعرف البنك الدولي الاقتصاد الأزرق بأنه “الاستخدام المستدام لموارد المحيطات من أجل النمو الاقتصادي وتحسين سبل المعيشة والوظائف مع الحفاظ على صحة النظم البيئية للمحيطات، ولا سيما أنه يؤثر على الأنشطة البشرية مثل مصايد الأسماك والنقل والطاقة المتجددة وإدارة النفايات والتغير المناخي والسياحة”. وتأتي أهمية الاقتصاد الأزرق نتيجة الارتفاع النسبي لمساحة المسطحات المائية على كوكبنا الأزرق والتي تغطي أكثر من ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية، وتضم ما يقرب من 50-80% من أشكال الحياة على الأرض. وبشكل خاص فإن الأهمية النسبية للاقتصاد الأزرق ترتفع بالنسبة للدول الجزرية الصغيرة النامية والبلدان الساحلية الأقل نموًا، وكذلك بالنسبة لبعض الدول المتقدمة مثل اليابان التي كان يمكن أن تعاني فقرًا غذائيًا لولا امتلاكها أسطولًا كبيرًا من سفن الصيد.
ووفقًا لإحصاءات الأمم المتحدة فإن قيمة الأنشطة الاقتصادية لكافة الموارد المائية عالمية تقدر بنحو من 3 – 6 تريليونات دولار سنويًا، وتصل تلك القيمة إلى 24 تريليون دولار وفقًا لتقديرات أخرى. ووفقًا للبنك الدولي فإن الاقتصاد الأزرق يولد نحو 83 مليار دولار للاقتصاد العالمي سنويًا، وهذا الرقم قابل للزيادة. ويتوقع الاتحاد الأوروبي نمو الاقتصاد الأزرق بشكل أسرع من الاقتصادات الأخرى، مع احتمالية تضاعف حجمه عام 2030.
وتتعدد الأنشطة الاقتصادية التي يمكن ممارستها من خلال الاقتصاد الأزرق، فبجانب أنشطة صيد الأسماك وإنشاء المزارع السمكية هناك قطاعات أخرى مثل الشحن البحري والموانئ واللوجستيات والتعدين والتنقيب البحري ونقل وتوليد الطاقة وصناعة السفن والقوارب وأنشطة السياحة البحرية والترفيه، فضلًا عن قطاع التكنولوجيا والمعلومات والتكنولوجيا الزرقاء الحيوية.
فأما بالنسبة لقطاع صيد الأسماك، فهو يُسهم بنحو 270 مليار دولار سنويًا من الناتج الإجمالي عالميًا، ويُعتبر مصدرًا رئيسيًا للأمن الاقتصادي والغذائي لأكثر من 300 مليون شخص، ويوفر نحو 350 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، وبإضافة الخدمات والصناعات المكملة لصيد الأسماك يصل حجم التوظيف عالميًا إلى نحو 660-820 مليون شخص وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة، كما تستحوذ النساء على 25% من إجمالي تلك الوظائف.
وعلى صعيد نشاط التجارة، فقد بلغت حصة التجارة البحرية 55% من إجمالي التجارة الدولية عام 2013، وارتفعت إلى 80% عام 2015، وتقدر النسبة الحالية لقطاع النقل البحري بنحو 90% من الأنشطة التجارية عالميًا، ويتوقع ارتفاعها خلال الفترات التالية في ظل الطفرة التي يشهدها قطاع النقل البحري وإنشاء العديد من المناطق اللوجستية حول العالم.
وبالنسبة لقطاع الموارد التعدينية والاستخراجات، فتتعدد الموارد المستخرجة من البحار؛ إذ تشمل عددًا كبيرًا من المعادن النفيسة والمواد البترولية، وتشير التقديرات إلى أن 34% من إجمالي إنتاج النفط الخام يستخرج من الحقول البحرية. وعلى صعيد السياحة البحرية فتقدر بنحو 5% من الناتج الإجمالي العالمي، وتوفر فرص عمل لنحو 6-7% من قوة العمل عالميًا.
وهناك قطاع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والتي تشمل خدمات الأرصاد الجوية والتأمين البحري والاستشارات الهندسية البحرية والمعلومات الجغرافية، وتقدر نسبة ما تحمله الكابلات البحرية من معلومات بنحو 95% مـــن جميــــع البيانــات الرقمية حول العالم.
وعلى صعيد آخر، هناك قطاع التكنولوجيا الزرقاء الحيوية الذي يضم بعض المنتجات الطبية والمستحضرات الصيدلانية التي يتم إنتاجها من مواد مستخرجة من البحار، كما يضم الطاقة البحرية المتجددة التي تشمل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والمد والجزر وطاقة الكتلة الحيوية الحية، وتمثل نحو 22% من الطاقة العالمية.
أما بالنسبة للاقتصاد المصري، فتمتلك مصر نحو أربعة آلاف كم من الشواطئ على البحرين الأحمر والأبيض المتوسط وقناة السويس ونهر النيل وعدد من البحيرات. وتمكن تلك الإطلالات المائية من إقامة المزيد من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالاقتصاد الأزرق. فعلى صعيد نشاط صيد الأسماك والاستزراع السمكي تتوفر في مصر المقومات اللازمة لتنمية الثروة السمكية من وفرة الأراضي والمياه والكوادر البشرية، بالإضافة إلى التوسع في صناعة الأعلاف السمكية، وجذب الاستثمارات الخاصة لهذا القطاع، فيسهم القطاع الخاص بنحو 99% من إنتاج القطاع السمكي، و90% من إنتاج الأعلاف السمكية عام 2019. وقد تم اعتماد استراتيجية التنمية الزراعية المستدامة 2030 على إعادة تشكيل سلة البروتين الحيواني من المصادر المحلية الأقل تكلفة، وزيادة نصيب الفرد من البروتين الحيواني بحوالي 4.4 جرام/يوم بحلول عام 2030، وذلك من خلال زيادة الاستهلاك من البروتين بنحو 1.8 جرام منهم 1.7 جرام من الأسماك. ويُعد ذلك التوجه من الأهمية بمكان في ظل تعدد الأزمات الدولية المؤثرة على حركة التجارة العالمية، وارتفاع أسعار السلع المستوردة، وانعكاس ذلك على الاقتصاد المصري.
وأما بالنسبة للموانئ فتمتلك مصر نحو 53 ميناء بحريًا، منها 15 ميناء تجاريًا و38 ميناء تخصصيًا، ويُقدر حجم الوارد والصادر لهيئات الموانئ المصرية خلال 2021 حوالي 162.8 مليون طن، من خلال 11.59 ألف سفينة. وتسعى الدولة إلى أن تصبح مصر مركزًا عالميًا للتجارة واللوجستيات من خلال زيادة عدد الموانئ وتحويلها إلى مناطق لوجستية للقيام بأنشطة الشحن والتفريغ والتعبئة وإعادة التصدير وتصنيع وصيانة وتمويل السفن والصناعات البحرية الثقيلة والخفيفة، فضلًا عن ربط الموانئ البحرية بالموانئ الجافة والمراكز اللوجستية. وتتضمن استراتيجية تطوير الموانئ أيضًا ميكنة الخدمات اللوجستية والتي ترتب عليها تقليص زمن الإفراج الجمركي إلى 50%، وتقدر تكلفة خطة تطوير الموانئ إلى نحو 115.6 مليار جنيه.
ومن جهة أخرى، تمتاز مصر بالأنشطة السياحية وبصفة خاصة السياحة الشاطئية والرحلات النهرية الشتوية من القاهرة إلى الأقصر وأسوان، بالإضافة لسياحة اليخوت والغوص والصيد. وتستحوذ السياحة الشاطئية على أكثر من 90% من حركة السياحة الوافدة لمصر، ويسهم قطاع السياحة بنحو 11.9% من إجمالي الناتج المحلي، ويستوعب نحو 12.6% من إجمالي العمالة، ويشارك بنحو 21% من إجمالي الصادرات غير السلعية، و19.3% من إيرادات النقد الأجنبي، وبلغت نسبة نمو القطاع 16.5% عام 2019 قبل تأثره بجائحة كورونا.
وعلى صعيد متصل، فقد توسعت الدولة في أنشطة الاستخراجات والاستكشافات البترولية على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وقد بدأت جهود الدولة في هذا السياق بتهيئة مناخ ملائم لعمليات البحث والتنقيب من خلال توقيع اتفاقيات ترسيم الحدود بين مصر والسعودية من الجانب الشرقي، وبين مصر واليونان وقبرص من الجانب الشمالي، وقد تلا ذلك اكتشاف أكبر حقل غاز في المياه الاقتصادية المصرية باحتياطيات بلغت نحو 30 تريليون قدم مكعب غاز قابلة للزيادة، أدى ذلك إلى جذب العديد من الشركات العالمية للقيام بأنشطة التنقيب والاستكشافات، كما قامت الدولة عام 2019 بطرح عدة مزايدات عالمية للبحث عن الثروات البترولية والمعدنية والغاز الطبيعي، وتُعد هذه الطروحات هي الأولى من نوعها بخصوص الثروات الطبيعية في البحر الأحمر.
مخاطر الاقتصاد الأزرق والتنمية المستدامة
على الرغم من أهمية الاقتصاد الأزرق، إلا أنه يواجه عددًا كبيرًا من المخاطر والتحديدات. وترتبط نسبة كبيرة من تلك المخاطر بالأنشطة الاقتصادية، ومثال على ذلك ارتباط ظاهرة التغيرات المناخية بالنشاط الصناعي الملوث للبيئة، وكذلك ارتباط نشاط صيد الأسماك الجائر وغير المستدام بفقدان التنوع البيولوجي ومن ثم يهدد الأمن الغذائي، وكذلك أنشطة النقل والشحن البحري والسياحة البحرية والساحلية غير المستدامة ينتج عنها تلوث بحري يهدد الحياة المائية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أهمية الاقتصاد الأزرق بالنسبة لقارة إفريقيا، وقد تضمنت أجندة إفريقيا 2063 وصف الاقتصاد الأزرق بأنه نافذة لتحقيق النهضة الإفريقية، وعلى الرغم من ذلك فإن الصراعات والنزاعات على البحار والأنهار بين الدول الإفريقية تعيق من تحقيق الهدف المنشود، وهنا ينبغي الاستفادة من التجربة المصرية في أهمية ترسيم الحدود البحرية والمائية لتجنب النزاعات وتعزيز المنافع ودفع النمو وتحقيق التنمية.
ولضمان تحقيق التنمية المستدامة فإن إدارة الاقتصاد الأزرق ينبغي أن تضمن الحفاظ على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأجيال القادمة، وتشمل تلك الحقوق تحقيق الأمن الغذائي والقضاء على الفقر وتحسيـــن مستـــوى المعيشة وتحسين الدخل وتوفير فرص العمل والسلامة وتحقيق تنمية صحية وأمنية وسياسية مستدامة، كما تتطلب المحافظة على كافة عناصر النظام الإيكولوجي والاعتماد على التكنولوجيا النظيفة ومصادر الطاقة المتجددة واستخدام المنتجات الصديقة للبيئة وإدارة المخلفات بشكل فعال.
وفي سبيل تطوير الأنشطة الاقتصادية المستدامة التي ترتبط بالاقتصاد الأزرق، يأتي الحديث عن أهمية التوسع في طرح السندات الزرقاء، فعلى غرار السندات الخضراء التي تهدف إلى تمويل كافة الأنشطة الاقتصادية ذات الأثر البيئي الإيجابي، تأتي السندات الزرقاء التي تركز فقط على الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالاستغلال المستدام لموارد الاقتصاد الأزرق. وقد تم إصدارها لأول مرة عام 2018 بجزيرة سيشل بالتعاون مع البنك الدولي بهدف دعم المشروعات البحرية ومزارع ومصائد الأسماك المستدامة، وقد نجحت في جمع 15 مليون دولار من مستثمرين دوليين. ومع حداثة إصدار السندات الزرقاء واقتصار أغلب إصداراتها في قارة آسيا، يتوقع أن تكون ذات أثر فعّال في دول منطقة الشرق الأوسط، وبصفة خاصة الاقتصاد المصري، مع إتاحة العديد من فرص الاستثمار الأزرق وتنوعها.
.
رابط المصدر: