تغذية التوترات: دوافع وتداعيات توقيع اتفاق التنقيب التركي الليبي

يبدو أن تركيا تُعيد تسخين الملف الليبي في إطار إعادة التصعيد مع اليونان وقبرص، حيث وقع وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو مذكرة تفاهم في العاصمة الليبية طرابلس يوم الاثنين 3 أكتوبر الجاري مع وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها نجلاء المنقوش تسمح بالتنقيب عن النفط والغاز في مياه البحر المتوسط ​​الليبية، وذلك بعد ثلاث سنوات من اتفاق ترسيم الحدود البحرية المثير للجدل الذي وقعته الحكومة التركية مع حكومة الوفاق الوطني السابقة برئاسة فايز السراج في 17 نوفمبر 2019 الذي أثار غضب مصر واليونان وقبرص والاتحاد الأوروبي. وقد حظيت الصفقة بتنديد إقليمي ودولي من قِبل مصر واليونان والسعودية والإمارات والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باعتبارها إجراءً غير قانوني ينتهك الأسس الأساسية للقانون الدولي والعملية السياسية الليبية.

حسابات الطرفين

بالنظر للسياق الدولي والإقليمي وتوقيت توقيع تلك المذكرة يتبين وجود دوافع عديدة للطرفين يُمكن توضيحها على النحو التالي:

• الجانب التركي: تتعدد الأهداف التركية ويُمكن أن نذكر منها؛ أولًا، استخدام أنقرة الاتفاقية كأساس قانوني لإرسال سفن التنقيب إلى المياه جنوب جزيرة كريت اليونانية والبدء في التنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة باليونان كجزء من تصاعد التوترات مؤخرًا بين أثينا وأنقرة مع اتهامات الأخيرة للأولى بتسليح جزر بحر إيجه بالمخالفة للمعاهدات الدولية. وثانيًا، تحريك الورقة الليبية في مواجهة الولايات المتحدة التي كثفت تعاونها الأمني والعسكري مع قبرص، وهو ما تنظر إليه تركيا على كونه محاولة لتهديد أمنها القومي وتعزيز عزلتها في إقليم شرق المتوسط.

وثالثًا، تذهب بعض التحليلات لاعتبار المذكرة وسيلة تركية لانتهاز الانقسامات السياسية الحالية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى، ولعل أهمها تأمين نفوذها في ليبيا على المدى الطويل وتأمين حصة في إعادة الإعمار. ويرى أصحاب هذا الرأي أن تلك الخطوة لا تعتبر موجهة لصالح أحد الأطراف المتنازعة وضد الطرف الآخر، ويرتكن أصحاب هذا التوجه إلى تصريح وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو الذي أكد فيه ثقته بشأن استمرار حوار أنقرة مع معسكر طبرق-بنغازي، مشيرًا إلى أن بلاده ستعيد فتح قنصليتها في بنغازي بمجرد أن تنضج الظروف وستستمر الاتصالات بين البرلمانين التركي والليبي. ورابعًا، لا يُمكن قراءة تلك الخطوة بعيدًا عن الانتخابات التركية البرلمانية والرئاسية المقررة في يونيو 2023، حيث تعتبر الورقة القومية إحدى أوراق الحشد الانتخابي المهمة لدى أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وبالنظر إلى أن قضية التنقيب عن الهيدروكربونات في شرق المتوسط تأخذ بُعدًا قوميًا عابرًا للأحزاب فإنه سيتسنى لأردوغان استخدامها عبر تقديم نفسه باعتباره مدافعًا عن حقوق وثروات البلاد.

وخامسًا، تسعى أنقرة لتعزيز تموضعها الجديد كجزء من عملية إعادة رسم وتشكيل خرائط تداول الطاقة كأحد تداعيات الحرب الأوكرانية، وحجز مقعدها ضمن مشاريع نقل الطاقة الروسية والأفريقية إلى أوروبا، فبينما اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنشاء مركز في تركيا لتداول وتسعير الغاز الروسي بعيدًا عن خطوط الأنابيب الأوروبية المباشرة (نورد ستريم 1 و2) وهو ما يدعم الهدف التركي المتمثل في التحول لمركز إقليمي لتداول ونقل الطاقة المستخرجة من روسيا وبحر قزوين إلى أوروبا، يسعى أردوغان لتحقيق الهدف ذاته ولكن هذه المرة عبر نقل الغاز الأفريقي حيث تعتبر ليبيا مسارًا محتملًا لمشروع نقل الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر النيجر وهو مشروع حظي بمناقشات داخل حكومة الدبيبة خلال الأشهر الماضية وبدأت مباحثات استكشافية بين مسئولين ليبيين ونيجيريين حول جدوى هذا المشروع على هامش اجتماع منظمة منتجي البترول الأفارقة (APPO) في سبتمبر، ولذلك تسعى أنقرة للهيمنة على قطاع الغاز والنفط الليبيين لضمان الاستفادة من مشروعات نقل الطاقة المستقبلية، علاوة على السيطرة على الموارد الليبية حيث تمتلك البلاد أكبر احتياطات من النفط الخام أفريقيًا باحتياطي يقدر بحوالي 34 مليار برميل، وتحتل المرتبة الـ 21 عالميًا في احتياطات الغاز التي تُقدر بنحو 54.6 تريليون قدم مكعب، لا سيمَّا مع تعافي إنتاج النفط الخام الليبي مؤخرًا إلى حوالي 1.1 مليون – 1.2 مليون برميل في اليوم. كذلك تسعى تركيا لإعادة تأكيد حضورها في ليبيا في مواجهة بريطانيا والدول الأوروبية الأخرى بالنظر لتصاعد الاهتمام البريطاني بليبيا كدولة لديها احتياطيات كبيرة من النفط والغاز وهو ما تجلى في زيارة البارجة الملكية البريطانية “آليبون” إلى طرابلس.

• الجانب الليبي: أراد الدبيبة توظيف مذكرة التنقيب في سياق تجدد النزاع بشأن الشرعية عبر تعميق الانقسامات بين الليبيين، وإضافة المزيد من التعقيدات والعقبات أمام جهود التقريب بين الفرقاء السياسيين والتوصل إلى حكومة توافقية للتحضير للانتخابات حيث تشكل الانتخابات تهديدًا لسلطته، كما أنه يبحث عن غطاء تركي لدعم حكومته في مواجهة ما يعتبره ترتيبات إقليمية مضادة، ويأتي ذلك ضمن تحركاته الأخيرة لتأمين المظلة التركية والتي عكستها زيارة الدبيبة لمدينة إسطنبول ولقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2 سبتمبر الفائت، حيث يعول الدبيبة على الحليف التركي أكثر من أي طرف آخر لا سيمَّا أن واشنطن أعربت عن استيائها من الفساد في صفوف حكومته وبعد أن بدأ مسئولون أمريكيون يتحدثون عن خطة جديدة لتقسيم عائدات النفط بين الإدارتين الليبيتين. كذلك يريد الدبيبة اللعب على التوترات الإقليمية وتعبئة التيارات الإسلامية لصالحه بالتظاهر بقيادة سلطة شرعية تواجه مؤامرات داخلية تشمل البرلمان وكبار ضباط الجيش وحكومة فتحي باشاغا كجزء من مؤامرة إقليمية أوسع.

تغذية التوترات

تحمل مذكرة التنقيب الثنائية الموقعة بين الدولتين في طياتها عوامل تصعيد التوترات الداخلية في ليبيا والخارجية في إقليم شرق المتوسط والتي تتحدد في زيادة حدة التنافس الإقليمي، ويُمكن توضيح تأثيراتها كالتالي:

• تأزيم مسار التقارب التركي مع مصر: كان أحد أهداف تبني أنقرة سياسة حيادية أكثر توازنًا تجاه ليبيا مرتبطًا بجهودها لتحقيق المصالحة مع مصر، حيث طالبت القاهرة ضمن شروط عديدة بالانسحاب العسكري التركي من ليبيا التي تشكل عمقًا استراتيجيًا لها، إلى جانب معارضتها التنقيب عن غاز شرق المتوسط وفقًا لاتفاقية تعتبرها مصر غير شرعية وتتعارض مع القوانين الدولية ولا تراعي حقوق شركائها ضمن إقليم شرق المتوسط وبالأخص اليونان، وعليه فإن المذكرة الثنائية للتنقيب عن النفط والغاز مع طرابلس تبدو تراجعًا عن مغازلة القاهرة لفتح صفحة جديدة وتنذر بالعودة إلى المربع الأول في العلاقات الثنائية، حيث نددت مصر بالاتفاقية مؤكدة أنها وُقعت بواسطة حكومة منتهية الصلاحية وغير مخول لها التوقيع على مذكرات تفاهم أو إبرام اتفاقيات دولية.

• تعزيز الاستقطاب السياسي الليبي: تشي التداعيات السياسية للاتفاق بتعميق حالة الانقسام والاستقطاب الذي طفى على السطح في الآونة الأخيرة، كونه يؤشر إلى تخلي أنقرة عن سياسة الحياد والانفتاح على كافة الأطراف الليبية وحسم موقفها بالاصطفاف إلى جانب حكومة الدبيبة مما قد يمنحها مزيدًا من القوة والنفوذ في مواجهة حكومة فتحي باشاغا المُنتخبة من قبل مجلس النواب، لاسيمَّا أن التوقيع عليها أعقبه بثلاث أيام استئناف أنقرة جسرها الجوي لنقل المرتزقة السوريين الذين تجندهم المخابرات التركية إلى مدينة طرابلس غرب ليبيا. وتعكس ردود الفعل الداخلية الليبية على توقيع المذكرة حالة الانقسام تلك؛ فبينما حظيت بدعم أطراف الحكومة المنتهية صلاحيتها، سارع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بالإعلان عن رفضها واعتبارها غير ملزمة للدولة، وهو الموقف نفسه الذي تبناه رئيس الحكومة الشرعية فتحي باشاغا رغم مساندته السابقة لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية عام 2019، فيما اعتبرها 73 من أعضاء المجلس الأعلى للدولة محاولة غير مقبولة لفرض سياسة الأمر الواقع، كما أعلن الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر رفضه الاتفاقية وتجهيزه مناورات عسكرية ضخمة في مدينة سبها الجنوبية. وعليه، يُنظر لتلك المذكرة بأنها ستضيف عقبة جديدة أمام المهمة الأساسية للمبعوث الأممي الجديد عبد الله باتيلي، ألا وهي استعادة المبادرة الدولية من خلال تسهيل التقارب بين الخصوم السياسيين لمعالجة المأزق السياسي وإرساء أسس التوافق على الانتخابات تمهيدًا لإجرائها.

• عرقلة تطوير حقول الغاز القبرصية: قد تؤدي المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالتصعيد في شرق المتوسط كنتيجة متوقعة لتطبيق المذكرة الموقعة، واستمرار قضية قبرص الشمالية، إلى إحباط فرص الاستثمار في تطوير حقول الغاز القبرصية، بعدما خلقت الانفراجة في ملف التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل حالة تفاؤلية بشأن إمكانية تحفيز أو تمهيد الطريق للتوصل لاتفاقية قبرصية لبنانية مماثلة كون الاتفاق اللبناني الإسرائيلي يسمح بتحديد النقطة التي تلتقي فيها المناطق الاقتصادية الخالصة بين قبرص ولبنان وإسرائيل ويُضفي الطابع الرسمي على اتفاقية عام 2007 بين قبرص ولبنان لتحديد الحدود بين المناطق الاقتصادية الخالصة، كما يُحفز قبرص وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق بشأن تقاسم احتياطيات أفروديت من الغاز، وهي خطوات يُمكن أن يُعرقلها التوترات والتصعيد التركي اليوناني في شرق المتوسط.

• تصاعد التوترات الدبلوماسية وتعزيز العزلة التركية في شرق المتوسط: تُثير الخطوة القلق بالعودة لدبلوماسية القوارب الحربية التركية التي كادت أن تشعل حربًا عسكرية في الإقليم عام 2020، حيث أعادت إحياء المطالبات المتنازع عليها بشأن الحدود البحرية وحقوق الغاز والطاقة في شرق المتوسط مع تركيا وليبيا من جهة واليونان ومصر من جهة ثانية وهو ما يضاف إلى القائمة الطويلة من الخلافات بين تركيا ودول منظمة شرق المتوسط ويُدخِل لاعب جديد في المنافسة على الموارد الإقليمية، كما تُنذر بتجدد دورات التصعيد الدبلوماسي والحشد العسكري وهو ما اتضح في زيارة وزير الخارجية نيكوس دندياس إلى القاهرة يوم 9 أكتوبر لبحث تلك المذكرة مع نظيره المصري.

كذلك تقوض تلك الخطوة الرغبة التركية في تفكيك شبكة التعاون الإقليمية المناهضة لها التي نشأت مما يسمى بالشراكات الثلاثية (مصر-قبرص-اليونان وقبرص-اليونان-إسرائيل، ومنظمة غاز شرق المتوسط) بل قد تدفع بهم لصياغة موقف جماعي مناهض للتحركات التركية، وربما السعي لإنشاء أُطر تعاونية جديدة لإحباط المخططات التركية، وفي هذا السياق، اقترح الباحث اليوناني ايوانيس كوتولاس إجراء مباحثات ثلاثية أولية بين مصر وليبيا واليونان لبحث ترسيم كامل حدود مناطقهم الاقتصادية الخالصة تمهيدًا لتوقيع اتفاقية بين الدول الثلاث في هذا الخصوص بناء على القانون الدولي، معتبرًا أن صفقة كهذا من شأنه القضاء على جميع مناطق الغموض وتحقيق الاستقرار في المنطقة والتغلب على التدخل الخارجي والسماح للدول الثلاث بالمضي قدمًا في الاستكشاف واستغلال احتياطيات الطاقة في المناطق الاقتصادية الخاصة بهم، ومع ذلك ينبغي التأكيد على أن تلك الخطوة لن تأخذ مسارها على أرض الواقع دون تحقيق الاستقرار السياسي الليبي وتشكيل حكومة شرعية بموجب الانتخابات.

إشكاليات قانونية

يثير توقيع وزيرة خارجية حكومة الدبيبة المنتهية صلاحياتها إشكاليات تتعلق بمدى قانونية تلك المذكرة وإلزاميتها بالنظر لعدة اعتبارات، أولها، أنها وُقعت من قِبل حكومة منتهية ولايتها بينما تكتسب الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومذكرات التفاهم شرعيتها من إبرامها وفقًا للآلية الدستورية المنصوص عليها في دساتير الدول والتي تُطبقها سلطة شرعية (رئيس الدولة أو الحكومة أو البرلمان) مُعترف بها. ثانيها، يُخالف توقيع حكومة الدبيبة لهذه المذكرة منطلقاتها الشرعية التي تم بناءً عليها تكليفها ومنحها ثقة مجلس النواب، والمتمثلة في حالتنا هذه في خريطة طريق جنيف، التي شكلت أساسًا لمنحها الشرعية وقد حددت مهام السلطة التنفيذية وحدود الصلاحيات الممنوحة لها وكان منها الالتزام بعدم عقد أي اتفاقات دولية ترتب التزامات طويلة الأجل على ليبيا وهو ما يعني عدم صلاحيتها لتوقيع تلك المذكرة التي تمنح تركيا حقوق التصرف في الثروات الليبية (الموارد الهيدروكربونية بالمنطقة الاقتصادية الخالصة الليبية، عبر إجراء التنقيب والإنتاج والنقل والتكرير والتوزيع والاتجار في الهيدروكربونات.

ثالثها، لا تتوافق مذكرة التفاهم التي تستند إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية لعام 2019 مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، كما تتعارض أيضًا مع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين اليونان ومصر لعام 2020 التي حددت المناطق الاقتصادية الخالصة الخاصة بهما. رابعها، أن هذه الوثيقة هي مذكرة تفاهم لا ترقى إلى مستوى اتفاقية رسمية صادق عليها البرلمان قانونًا حيث تتيح أحكامها للطرفين مجالًا لإلغائها بشرط أن يتم إبلاغ الطرف الآخر قبل فترة زمنية محددة قبل الإلغاء. وعليه، طرحت شخصيات سياسية ليبية رفع المذكرة إلى المحاكم الوطنية لإلغائها باعتبارها تفتقر للأسس الدستورية والشرعية.

ختامًا، رغم عدم الكشف عن تفاصيل بنود المذكرة الموقعة إلا أن التوقعات تُشير إلى عدم تحقيق نتائج فورية نظرًا لاستمرار التنازع بشأن حقوق الدول المُطلة على المنطقة الاقتصادية لشرق المتوسط، وضبابية المشهد السياسي الليبي وتعقد احتمالات حل تشابكاته على المدى القريب، علاوة على حالة الرفض الإقليمي والدولي للمذكرة واحتمالات ترجمتها إلى المزيد من التنافس الإقليمي داخل ليبيا، وهو ما يجعل المذكرة ليست إلا صيغة مُغذية للتوترات ومنذرة بتسخين الأجواء وتعزيز حالة عدم الاستقرار في إقليم شرق المتوسط.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21285/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M