تقديس القائد تقديس للنفس الأمارة بالسوء

 

أبتلي المسلمون وأتباع الديانات عموماً بمرض تقديس الأشخاص ، سواء استحقوا التقديس أم لم يستحقوا ، ولا أعرف بصراحة منشأ كلمة (التقديس) ربما ارتباطها بساحة القدس الإلهية أو روح القدس أو غير ذلك ، ولكنها في كل الأحوال تعني وجود حصانة لبعض الأشخاص تحميمهم من النقد والمحاسبة بل وفي بعض الأحيان حتى السؤال والاستفسار عن بعض الأمور خصوصاً تلك التي ترتبط بحياة السائل او التابع لذلك القائد .
نشوء هذه الثقافة جاء بسبب فهم خاطئ لأصل صحيح ، فالمؤمنون عموماً يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخطأ بل إن أفعاله لا يمكن أن تكون غير حكيمة ، وفي ذلك شواهد عديدة ، فهذا جسم الإنسان العجيب الذي اختص بدراساته آلاف المختصين منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا فتفرعت التخصصات ليصبح كل فرع اختصاصاً موسعاً ، وما زال علم الطب يتوسع ويتوسع من دون أي خلل واضطراب يسجله رغم تعقيد الأجهزة وتشابكها وتداخلها ، وكذلك الكون مثالاً ثانياً للحكمة الإلهية التي تدل أن احتمالية الخطأ صفر بالمائة ، وغير ذلك كثير لا نريد أن نذكرها كي لا يتحول الموضوع الى بحث عقائدي .
لذا فتقديس الذات الإلهية أمر مبرر عقلاً ، فإذا أمرنا الإله بتقديس شيءٍ آخر هل سيكون هذا الشيء مقدساً ام لا ؟ طبعاً سيكون مقدساً بحكم تقديس الأمر الإلهي ، فالإله لا يأمر بأمر غير حكيم أو خاطئ ، لذا سيكون انتقال التقديس من تقديس الذات الإلهية الى تقديس ما دونه ممن أمر الله بأن نقدسهم مثل الأنبياء وغيرهم وهو ما يمكن أن نسميه التقديس النبوي ، وهو المرتبة الثانية من التقديس وهي أقل مرتبة من تقديس الذات الإلهية ، بمعنى أنه لو حصل تعارض بين تقديس الإله وتقديس ما أمرنا بتقديسه فنقدم الأول على الثاني .
تأتي المرتبة الثالثة من التقديس وهي ما أمرنا بها المقدسون بتقديسهم ، وهذه المرتبة أقل شأناً بالتأكيد من التقديس الإلهي والتقديس النبوي ، وبالتالي ينتقل التقديس مرتبة بعد أخرى ليشمل كل من ارتبط بالله سبحانه وتعالى ولكن يختلف عن المراتب السابقة له ، والمشكلة هنا أن الخطأ الذي ارتكبه بعض الجهلة من تقديس المراتب المتأخرة من المقدسين بحيث يكون بنفس درجة التقديس النبوي والإلهي ، فلا خطأ في ساحتهم ولا نقد ولا تشكيك ، وأي نقد او تشيك او تخطيئٍ فهو بمثابة نقد وتشكيك وتخطيئ للذات الإلهية ! مع إن الفرق واضح بحكم اختلاف تقديس كل مرتبة عن سابقتها .
فمثلاً يقدس البعض علماء الدين والمراجع باعتبارهم الامتداد الطبيعي للنبوة لأنهم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل ، وأي انتقاد لهم بل أي نقد لهم سيعتبر الناقد والمنتقد ممن خرجوا عن دين الله ، خاصة وأن هناك حديث يقول ( الراد عليهم – اي على العلماء – راد علينا – اي على أهل البيت عليهم السلام ، والراد علينا بمنزلة الشرك ) ، وبذلك أصبحت القدسية النبوية شاملة لكل العلماء والفقهاء من دون أي فرق بين التقديسين ، هذا التصور الخاطئ للتقديس  انجرّ الى ما بعد العلماء من مرتبة أدنى مثل وكلاء العلماء وأبناءهم وحاشيتهم وووو ، وهذه هي الكارثة .
إن هذا الفهم الخاطئ يرد بالفهم المنطقي للتقديس الذي تناولناه بعض الشيء أعلاه ، وهناك أحاديث وروايات تعطي صلاحية للأمة لمراقبة الفقهاء وقادتها ، فمثلاً ( إذا رأيتم العالم مكباً على دنياه فاتهموه في دينه) و (إذا رأيتم العلماء على أبواب الأمراء فبئس العلماء وبئس الأمراء) و ( إذا ظهرت الفتن فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فلعنة الله عليه ) ، والأحاديث منقولة بالمعنى ، من هذا نفهم أن التقديس العلمائي نسبي وهو بمقدار مطابقة عمله للشريعة ولأوامر الأنبياء والأوصياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ، وكذلك وكيل المرجع وابنه وصهره وحاشيته لهم تقديس نسبي بمقدار ما يطبقوه من فتاوى مرجعهم ، بل إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يكونوا مقدسين حتى يثبتوا أنهم مرسلون من الله سبحانه ، فليس كل شخص قال أني نبي أو رسول أصبح مقدساً إلا أن يثبت ذلك من خلال الأدلة والحجج والبراهين والمعاجز وغيرها .
لذا فمن حق أي شخص ان يقدس أي شخص بشرط تطبيقه لأحكام الله وأحكام دينه ، ومتى ما لم يطبقها فمرفوعة عنه الحصانة ، وعلى هذا الأساس يكون تقديس الأشخاص من دون علة شرعية أو سبب ديني هو جهل ، وإن لم يكن جهلاً فهو طاعة لنفسه الأمارة بالسوء ، إذ تأمره بما لم يأمره الله جلت قدرته ، وهذا يريد أن يكون التقديس وفق ما تشتهي نفسه ويريد أن يضع قائدا ًوفق ما يأمره هواه ، وهو يعلم أن عدم تقديس من لا يستحق التقديس يضعه في حرج نفسي واجتماعي ، إذ عليه الاعتراف بأنه كان على خطأ وأن القائد الحقيقي الذي يجب اتباعه هو غير من كان يتبعه ، وتجد شخصاً يقدس القائد – الذي يستحق التقديس والذي لا يستحق – ليس لاستحقاقه التقديس ام لا ولكن حتى يثبت أنه على حق ، فمن دون تقديسه سيكون هو على خطأ ، لذا نرى المغالة والمبالغة في تقديس القادة الى حد الإلوهية والتصنيم لا حباً بهم وإنما حتى يقطع فكرة قبول غير قيادة وحتى لا يتعب نفسه في البحث عن القيادة الحقيقية او كي يبرهن أنه على حق او حتى يبين للناس أنه أكثر الناس إيماناً من غيره او لأي غاية شيطانية لإرضاء نفسه الأمارة بالسوء .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M