تقليص الهيمنة.. بلينكن ومستقبل الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط

مارى ماهر

 

يشهد الشرقُ الأوسط حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا ينطوي على إعادة ترتيب التحالفات السياسية وسط مشهد جيوسياسي متغير، انعكس في جملة الزيارات والاجتماعات متعددة الأطراف التي انعقدت خلال فترة زمنية قصيرة بدأت باستضافة الرئيس عبدالفتاح السيسي اجتماعًا ثلاثيًا مع ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في شرم الشيخ يوم 22 مارس الماضي، تلاه اجتماع رباعي استضافه العاهل الأردني الملك عبدالله بمدينة العقبة يوم 25 مارس ضم إلى جانب الرئيس السيسي والشيخ محمد بن زايد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وتُوّج هذا الحراك بجولة وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن الذي توقف في إسرائيل يوم 29 مارس ليشهد قمة سداسية جمعت وزراء خارجية إسرائيل والإمارات والبحرين ومصر والمغرب، وانعقدت للمرة الأولى في منزل ديفيد بن جوريون مؤسس وأول رئيس وزراء لإسرائيل ببلدة سدية بوكير الصحراوية، بما يحمل دلالات رمزية بشأن شكل التحالفات الأمنية والتوجهات السياسية في المنطقة. وأعقب قمة النقب أمنية الطابع، استكمال بلينكن جولته الشرق الأوسطية بزيارة رام الله ولقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قبل التوجه إلى المغرب والجزائر للقاء قادة البلدين.

رسائل وأهداف دافعة

ينطوي توقيت وسياق ومحطات جولة بلينكن على دلالات مرتبطة بتزامنها مع إعادة ترتيب المشهد الجيوسياسي الإقليمي استجابة للتغيرات الدولية والإقليمية المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، ومساعي إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وتنامي النفوذ الصيني، مما يجعلها تحمل رسائل محددة يمكن استعراضها فيما يلي:

• إدماج إسرائيل في المعادلة الأمنية الشرق أوسطية الجديدة: ينطوي اختيار إسرائيل كمحطة أولى لجولة بلينكن الإقليمية واستضافتها لاجتماع النقب، وليس إحدى الدول العربية الموقعة على اتفاقيات أبراهام عام 2020، على دلالات مرتبطة بإعادة تموضعها داخل المعادلة الأمنية الجديدة التي تتبلور وتتشكل ملامحها تدريجيًا خلال المرحلة الراهنة باعتبارها لاعبًا إقليميًا بات مقبولًا عربيًا.

وهكذا، تتطلع الولايات المتحدة لاستثمار تلك المتغيرات الجديدة التي عبرت عن نفسها في توقيع اتفاقات أبراهام لتثبيت الاندماج الإسرائيلي عربيًا وربما تفويض بعض التزاماتها الأمنية تجاه الشرق الأوسط إلى الحليف الإقليمي الأصغر أو جعله جسرًا بين بعض العواصم العربية وواشنطن، لا سيمّا أن أغلب الدول المشاركة في اجتماع النقب لديها تحفظاتها الخاصة ضد إدارة بايدن وتنظر لإسرائيل باعتبارها قناة تواصل مهمة مع البيت الأبيض، فضلًا عن كونها أكثر استعدادًا للتحرك ميدانيًا ضد إيران ووكلائها داخل سوريا والعراق. وليس أدل على مسعى واشنطن لجعل إسرائيل رقمًا مهمًا في المعادلة الأمنية العربية من إعلان اجتماع النقب منتدى دائمًا يطلق عليه “منتدى النقب” يجتمع دوريًا لبحث القضايا الإقليمية. كذلك توظف الولايات المتحدة حالة الاضطرابات الجيوسياسية القائمة لإعادة جدولة أجندة الأولويات العربية لصالح تأخير القضية الفلسطينية على جدول الاهتمامات العربية بما يخدم المصالح الإسرائيلية.

• احتواء التحركات العربية الإسرائيلية المنفردة: أظهرت الأزمة الأوكرانية اتساع الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها الشرق أوسطيين، وبالأخص الخليجيين، بعدما فشلت في تأمين الدعم المطلوب من القوى الإقليمية التي اصطفت دائمًا إلى جانبها على مدى العقود الثلاثة الماضية؛ إذ يُمثل إحجام السعودية والإمارات عن تلبية النداء الأمريكي بزيادة إمدادات النفط تحولًا عن سياسة الثمانينيات عندما رفعت المملكة إمدادات النفط بناء على طلب واشنطن لإضعاف الاتحاد السوفيتي، بما يؤشر للتصورات المتغيرة لطبيعة علاقاتهم مع الولايات المتحددة واعتقادهم بأن عقيدة كارتر “الحماية الأمريكية مقابل النفط” التي صاغها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عام 1980 قد انتهت إلى حد كبير.

وقد أبدت الكثير من الدول العربية استياءها لفشل الولايات المتحدة في أخذ مصالحها ومخاوفها الأمنية بعين الاعتبار منذ تغيير رؤيتها المتعلقة بمكانة ودور الخليج في استراتيجيتها العالمية والتي أصبحت أكثر وضوحًا منذ تولي بايدن منصبه وانسحابه العشوائي من أفغانستان وتخليه عن الأصول الأمريكية في المنطقة، وراحت تبحث عن ترتيبات أمنية جماعية جديدة جمعت دولًا كان الحديث سابقًا عن انخراطها معًا يشكل دربًا من دروب الخيال، لكنها باتت الآن تتشارك المخاوف والأهداف، وهكذا وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام جبهة دبلوماسية شرق أوسطية تتشكل دون مشاركتها بل إن أطرافها يحملون انزعاجًا من السياسات الأمريكية، وبالتالي فإنها إمام خيارين؛ إما الحفاظ على وجود إقليمي لحماية مصالحها عبر تقديم تطمينات حقيقية وضمانات أمنية للحلفاء، وإما الاستعداد لشرق أوسط تركز دوله على استقلالها الاستراتيجي وتحدد أولوياتها وفقًا لمصالحها دون اعتبار للمصالح الأمريكية. ومن هنا جاءت جولة بلينكن لمحاولة تأطير الهيكل الأمني الجديد وفقًا للرؤية الأمريكية وتحديد مستويات وحجم الشراكات الجديدة.

• تهدئة المخاوف بشأن المُهدد الإيراني: كان العنوان الرئيسي لجولة بلينكن طمأنة الشركاء الإقليميين بشأن الهواجس الأمنية المرتبطة بالاتفاق النووي الوشيك مع إيران، الذي تعتبره القوى الإقليمية تحولًا للرؤية الأمريكية بشأن مصادر التهديدات الإقليمية، وتفكيكًا للنموذج الأمني الذي رسخته واشنطن منذ عقود القائم على احتواء المهدد الإيراني، باتجاه تشكيل بنية سياسية وأمنية إقليمية جديدة تصبح إيران جزءًا أصيلًا منها متجاهلة بذلك المخاوف الملحة لحلفائها؛ فإحياء الاتفاق يعني السماح لإيران بتطوير برنامجها النووي وإعطاء دفعة لمشروعها التوسعي مدفوعةً بقبول عضويتها داخل المجتمع الدولي والإفراج عن مليارات الدولارات التي ستتدفق بسخاء على الجماعات الإقليمية الوكيلة كحماس وحزب الله والحوثيين والحشد الشعبي وغيرهم، مما يتسبب في مزيد من الأنشطة المزعزعة للاستقرار بالمنطقة.

لكن الهاجس الأكبر بالنسبة للاعبين الإقليميين هو الأنباء المتصلة بدراسة إزالة الحرس الثوري من قائمة واشنطن للمنظمات الإرهابية الأجنبية بعدما عُلقت المفاوضات انتظارًا لحسم أمريكي لهذا الملف. وبينما يحمل استئناف البرنامج النووي تهديدات مستقبلية، فإن الحرس الثوري يشكل تهديدًا فوريًا في ظل خدمة كبار ضباط الحرس داخل السفارات الإيرانية بجميع أنحاء الشرق الأوسط وتدفق الأموال على شبكات وكلائه. لذلك، سعت جولة بلينكن لإطلاعهم على المراحل النهائية للمفاوضات النووية، وطمأنتهم بأن واشنطن لن توافق على مطالب إيران برفع تصنيفها للحرس الثوري كمنظمة إرهابية أجنبية، ولن تسمح لطهران بامتلاك أسلحة نووية.

• توظيف ورقة الشرق الأوسط ضد روسيا: أراد بلينكن إرسال رسالة إلى موسكو مفادها أن الولايات المتحدة ما زالت ممسكة بورقة الشرق الأوسط وقادرة على تحريكها بشكل يخدم مصالحها الاستراتيجية العليا، وجعلها رقمًا مهمًا في معادلة الاشتباك الجيوسياسي بين القوى الكبرى لإعادة تشكيل النظام الدولي، عبر محاولة إقناع الحلفاء الإقليميين بالاصطفاف إلى جانب الموقف الغربي بعدما فشلت واشنطن في حمل إسرائيل ودول الخليج على دعم العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، مفضلين التحرك خارج الغطاء الأمريكي واتّباع سياسة حيادية تجاه مجريات الحرب الأوكرانية.

ويتمثل الشق الأهم بالنسبة لبلينكن في دفع السعودية والإمارات ودول الخليج الأخرى المنتجة للنفط نحو زيادة طاقتها الإنتاجية من أجل تخفيف عبء تكاليف الطاقة المرتفعة التي يتحملها حلفاؤها الأوروبيون، وإقناع الجزائر بأن تصبح موردًا بديلًا للغاز الروسي، وبالتالي تقليل الاعتماد الأوروبي على موسكو لتأمين إمدادات الطاقة وخفض أسعار الغاز، وربما أراد بلينكن استغلال موقف روسيا الضعيف وتعليق صفقة بقيمة 7 مليارات دولار لطائرات سوخوي المقاتلة وغيرها من المعدات العسكرية كان مقررًا تسليمها إلى الجزائر، لدفع الأخيرة بعيدًا عن روسيا والتخلي عن سياسة الحياد. وبذلك تكون الزيارة امتدادًا لأخريات مماثلة أجراها مسئولون غربيون للجزائر كنائبة وزير الخارجية الأمريكية ويندي شارمان، ووزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، لحثها على زيادة إمدادات الغاز نحو أوروبا ضمن مساعي تخليص القارة العجوز من التبعية الطاقوية لروسيا.

• تأكيد قيادتها لجهود حلحلة الأزمات الإقليمية: يؤشر اختيار دولتي شمال إفريقيا (المغرب والجزائر) لتكونان المحطتين النهائيتين لجولة بلينكن الشرق أوسطية، إلى محاولات إثبات دور الولايات المتحدة في حل القضايا الأمنية الإقليمية واستمرارية التزامها بقضايا شمال إفريقيا، من خلال محاولة تقريب وجهات النظر بين الجارتين المنقطعتين دبلوماسيًا منذ أغسطس الماضي إثر تجدد الاشتباكات بشأن الصحراء الغربية واتهام المغرب بالتورط في هجوم بطائرة أسفر عن مقتل ثلاثة مدنيين جزائريين. ويخدم ذلك هدف تنويع مصادر إمدادات الغاز لأوروبا حيث كان المغرب قناة حيوية لتسليم الغاز الجزائري عبر خطوط الأنابيب التي تمر عبر المغرب وإسبانيا، لكن بعد تعليق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قررت الجزائر عدم تجديد صفقة استخدام أنابيب الغاز المغاربية الأوروبية في نوفمبر 2021، مما أجبر إسبانيا على استيراد الغاز الجزائري فقط باستخدام خط أنابيب مباشر وخفض كمية الغاز الجزائري المتدفق.

وتمتلك واشنطن مقومات تؤهلها للعب هذا الدور كونها الحليف العسكري الاستراتيجي للمغرب منذ مؤتمر الدار البيضاء (مؤتمر أنفا) عام 1943، والدعامة الأساسية للاقتصاد الجزائري إذ تشكل الشركات الأمريكية العمود الفقري لقطاع النفط والغاز. ورغم كونها لن تفرض صيغة تقاربية ما على البلدين إلا أنها ليست مستعدة لفتح جبهة توتر جديدة في شمال إفريقيا. وتشير بعض التقديرات إلى نجاح واشنطن في إثناء مدريد عن موقفها المنحاز إلى المغرب الذي عبر عنه وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل بقوله: “تعتبر إسبانيا أن مبادرة الحكم الذاتي المُقَدمة عام 2007 من جانب المغرب هي الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية لحل النزاع بين الرباط وجبهة البوليساريو”، والذي كاد يُفاقم أزمة الطاقة الحالية بعد ورود تقارير تتحدث عن رفع محتمل لأسعار الغاز الجزائري الموجه لإسبانيا.

• الإقرار بعدم واقعية الانسحاب الأمريكي: أبرزت الأزمة الأوكرانية أهمية الشرق الأوسط المركزية في المنافسة العالمية مع روسيا والصين، ويرجع ذلك لعاملين أساسيين؛ أولهما النفط الذي يشكل عنصرًا محوريًا لنجاح مخطط تطويق موسكو وإضعافها، فقد أظهرت الإمارات في منتصف مارس الماضي مدى أهميتها لسوق النفط العالمي بعدما تسبب إعلان سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة اعتزام بلاده ضح المزيد من النفط في الأسواق العالمية في أكبر خفض للأسعار خلال يوم واحد منذ ما يقرب من عامين، والتي سرعان ما انتعشت مرة أخرى بعد تصريح معاكس لوزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي أكد فيه التزام بلاده باتفاقية إنتاج “أوبك +”. وثانيهما الحضور الصيني والروسي الكبير في المنطقة الذي يجعل مواجهتهما لا تقتصر على المحيط الهادي وأوراسيا، وإنما تمتد إلى ساحات الانخراط المصلحي البعيدة جغرافيًا، وهو ما يجعل إهمال المنطقة كليةً ترفًا لا تستطيع الولايات المتحدة تحمل تبعاته.

نتائج محدودة

لم تنجح جولة بلينكن في قلب التوجّهات الإقليمية الجديدة التي حكمت سلوك الدول العربية تجاه التعاطي مع المتغيرات الدولية الجديدة، ويرجع ذلك لأسباب نذكر منها:

• اهتزاز الثقة في الالتزامات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط: تشعر الدول العربية بأن الولايات المتحدة تتخلى عن دورها التقليدي كضامن لأمن الشرق الأوسط، وتقلل اهتمامها بتقييد نشاط الجهات المزعزعة للاستقرار مثل إيران طالما لا تتجاوز الخطوط الحمراء للمصالح الأمريكية بالمنطقة، لصالح إعادة توجيه سياستها الخارجية نحو التنافس مع الصين وروسيا، فيما وصفه الباحث الأمريكي ستيفن كوك باستراتيجية “البراجماتية القاسية” التي طورتها إدارة بايدن للتعاطي مع الشرق الأوسط في عصر صراعات الهيمنة الجديدة.

ولعل رد الفعل الأمريكي المتأخر على هجمات الطائرات بدون طيار والصواريخ الباليستية المتكررة ضد المدن والمنشآت النفطية الإماراتية والسعودية، كاشف عن تغير الرؤية الأمريكية بشأن طبيعة المهددات الإقليمية ومستويات الانخراط المطلوبة لمجابهتها، كما أنه رسم التصورات الشرق أوسطية لحدود الشراكة والتعاون المستقبلي مع الولايات المتحدة، وقاد الدور الرئيسية بالمنطقة للشعور بالانكشاف الاستراتيجي وفقدان الموثوقية في الشراكة الأمنية الأمريكية، وتعزيز توجه الاعتماد على الذات وتبني مسارات مستقلة بعيدًا عن الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، شعرت الإمارات بالإحباط من استغراق اتصال الرئيس بايدن بولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان ثلاثة أسابيع عقب الهجومين الصاروخيين الحوثيين ضد مطار أبو ظبي ومنشآت نفطية وقاعدة عسكرية يتمركز بها 2000 جندي أمريكي في يناير وفبراير الماضيين، وأغضبها انتظار قائد القيادة المركزية الأمريكية السابق الجنرال كينيث ماكنزي 22 يومًا منذ الهجوم الحوثي الأول قبل إجراء زيارة للإمارات ما دفع بن زايد لرفض مقابلته.

ومن جهتها، لا تزال الجزائر تشعر بقلق عميق إزاء رفض بايدن التراجع عن اعتراف سلفه دونالد ترامب بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية المتنازع عليها، فيما يشعر المغرب بالإحباط كون بايدن لا ينوي تجاوز مقايضة ترامب (الاعتراف مقابل التطبيع) نحو اتخاذ خطوات سياسية باتجاه فرض سيطرته الفعلية على الصحراء.

• الالتزام بمبدأ الحياد السياسي: فشلت جولة بلينكن في حشد التأييد العربي للموقف للأمريكي مع تمسك الدول العربية بمبدأ الحياد السياسي وعدم الانحياز لأي طرف، في إطار قواعد التحوط الاستراتيجي الذي يتيح لها تأمين مصالحها مع الأطراف المتعارضة، ويمنحها قدرة على المناورة وطرح نفسها كوسطاء للتسوية، وتفعيل مبدأ الاعتماد على الذات والتحرك بقدر أكبر من الاستقلالية عن الولايات المتحدة اتصالًا بحالة انعدام الثقة المشار إليها سلفًا.

وتتطلع الدول الخليجية للموازنة بين مصالحها مع الطرفين الروسي والأمريكي؛ فبينما ترتبط مع موسكو بقضايا رئيسية تتعلق بسياسات الطاقة والوصول للتكنولوجيا العسكرية والتنسيق في القضايا الجيوسياسية وتدفق الاستثمارات، فإنها تحتاج لضمان استمرارية المظلة الأمنية الأمريكية التي لن تستطيع استبدالها فورًا بغطاء روسي أو صيني، كون التكنولوجيا الأمريكية تمثل العمود الفقري للقدرات التسليحية لتلك الدول، فعندما هاجم الحوثيون الإمارات تصدت لهم الصواريخ الاعتراضية الأمريكية، وأعلنت الولايات المتحدة تجديد مخزون البلاد من الصواريخ الاعتراضية وإرسال طائرات F-22 للمنطقة، كما أرسلت بعض بطاريات صواريخ باتريوت إلى السعودية لتدعيم دفاعات المملكة ضد هجمات الحوثيين. ويتطلب استبدال الأنظمة التسليحية الغربية بأخرى شرقية إعادة تدريب الأفراد العسكريين لاستخدام أنظمة مختلفة، كذلك تحتاج الدول الخليجية لضمانات أمنية في شكل أصول وقوات متمركزة في المنطقة.

وبالمثل، تحاول الجزائر الحفاظ على التوازن بين روسيا والولايات المتحدة بما يتفق وسياستها الخارجية القائمة على مبدأ الحياد في النزاعات الدولية ورفض دبلوماسية المقايضة. ويبدو أن بلينكن فشل في حملها على إعادة النظر في موقفها إزاء علاقاتها بروسيا، فعقب انتهاء الزيارة شدد المبعوث الخاص المكلف بملف الصحراء الغربية ودول المغرب العربي بوزارة الخارجية الجزائرية عمار بلاني، على أنه لم يرد في حديث وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أنه دعا الجزائر إلى الحد من علاقاتها مع روسيا والعمل على تحسين علاقاتها مع الجارة المغرب.

• رفض زيادة إمدادات الطاقة: تمسكت الدول الخليجية برفض الدعوات الأمريكية المتكررة لزيادة إنتاج النفط بشكل كبير، وبعد يوم واحد من مغادرة بلينكن الشرق الأوسط وافقت أوبك+ على زيادة متواضعة في إنتاج النفط متجاهلة الضغط الغربي لرفع الإنتاج. وعلى الصعيد الشمال إفريقي، بينما أبدت شركة النفط والغاز الحكومية الجزائرية سوناطراك استعدادها لزيادة الإمدادات إلى أوروبا، تثور تساؤلات بشأن حدود طاقتها الإنتاجية في ظل زيادة الاستهلاك المحلي للغاز وإغلاق خط الأنابيب المغاربي الأوروبي “GME” عبر المغرب إلى إسبانيا يحد من فاعلية البديل الجزائري على المدى القصير، ويحمل خيار إعادة تخصيص جزء من الكميات المخصصة للصناعات المحلية إلى التصدير مخاطر سياسية لما تعنيه من تباطؤ القطاع الصناعي المحلي.
ختامًا، عكست جولة بلينكن الشرق أوسطية تحولات في بنية النظام الإقليمي الذي يُعاد ترتيبه حاليًا على وقع المتغيرات الدولية والإقليمية التي ستفرض تحديات أمنية وسياسية بعيدة المدى دفعت القوى الرئيسية بالمنطقة لإدراك تعاملها مع واقع مختلف يتطلب منها إعادة صياغة توجهات سياستها الخارجية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. فالزيارة التي مثلت اختبارًا للدبلوماسية الأمريكية أظهرت تقلص مساحات القبول العربي للهيمنة الأمريكية والاستعداد لنظام إقليمي لا تنفرد فيه الولايات المتحدة بدور القوة العظمى الضامنة للأمن، وهو ما سيتطلب من واشنطن تكثيف الجهود لطمأنة شركائها الإقليميين بالقدر الذي يؤمن مصالحها الاستراتيجية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19226/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M