بعد أيام من الإنهاء الافتراضي لأزمة تمرد قوات “فاجنر”، وانتقال قائدها “يفجيني بريجوزين” إلى بيلاروسيا في تسوية يشوبها كثير من الغموض. لازالت مساحات الأسئلة أكبر كثيرا مما تكشف عن حقيقة ما جرى، وامتدت التساؤلات إلى المستقبل، فيما يمكن توقعه من مؤثرات في جبهات القتال على الجانبين الروسي والأوكراني. الداخل الروسي؛ رغم ما حاول أن يبديه من تماسك، أمام فداحة ما جرى، وحبس أنفاسه طوال ساعات “السبت العصيب” وهو يرقب الدراما العنيفة، التي حملت تهديد للعاصمة موسكو بقوات عسكرية روسية وصفها الرئيس بوتين، بالخيانة و”الطعنة في الظهر”. استدعت ذاكرته تلقائيا ما تعرض له جورباتشوف من محاولة انقلاب، قام بها المتشددون السوفييت عام 1991 وانقذه منها انتصار بوريس يلتسن قبل أن يدرك الجميع، أن رحيل آخر رئيس للاتحاد السوفيتي كان مجرد مسألة وقت.
هناك بعض الإجابات التي تكشفت لاحقا، عن سؤال كبير تعلق بغياب كلا من سيرجي شويجو وزير الدفاع الروسي وفاليري جيراسيموف رئيس الأركان العامة، عن مسرح أحداث السبت بعد اعلان استيلاء قوات فاجنر على مدينة “روستوف” ووقوف يفجيني بريجوزين داخل مقر القيادة العسكرية بالمدينة، لالتقاط الصور وبث المقاطع التي تحدث فيها عن ما أسماها “مسيرة من أجل العدالة”. بعد ساعات قليلة من هذا المشهد قام جهاز الأمن الروسي (FSB) بوضع منطقة موسكو بأكملها، في حالة تأهب بموجب نظام “عمليات مكافحة الإرهاب” وهو إجراء صارم يخول للأمن الروسي القيام بإجراءات استثنائية واسعة بحق الأفراد والمركبات والمقار السكنية والمباني بشكل عام. في هذا الوقت انصرف الرئيس بوتين لترميم الهزة المفاجئة التي تعرضت لها مكانته السياسية، فيما بدا أن القادة العسكريين الكبار للجيش كانوا في مهمة أخرى لها علاقة بأوضاع الجبهات داخل أوكرانيا. فرغم الاتهامات التي وجهت إليهم بقصف معسكرات لفاجنر مما تسبب في مقتل عدد كبير من مقاتليها، وادعاء بريجوزين أن هذا كان بأوامر مباشرة من رئاسة الأركان العامة، إلا أن هؤلاء القادة مارسوا طوال أحداث ما سمي بـ”التمرد المسلح” بحسب وصف النائب العام الروسي، أكبر درجات ضبط النفس رغم تكبد قوات الجيش خسائر عرضية في الأثناء، تمثلت في اسقاط قوات فاجنر لعدد من المروحيات بها طيارين روس، على ما يبدو كانوا في مهام تتعلق بمراقبة تقدم قوات فاجنر تجاه العاصمة على الطريق السريع (M 4) الممتد من روستوف إلى موسكو.
يمكن تصور أن القيادة العليا للجيش الروسي، أدارت اليوم العصيب باعتبار أن نهاية وشيكة لأسطورة “قوات فاجنر” على ساحات القتال كانت قد بدأت بالفعل، أي كان حجم الدور الذي لعبته في صنع تلك النهاية. لذلك جاء قرارها التكتيكي بعدم الاشتباك مع قوات فاجنر بل وربما افساح المجال أمام تهور قائدها بريجوزين، كي تتمثل خطيئته كاملة الأبعاد أمام الكرملين ومن خلفه الرأي العام الروسي، الذي ذهب قطاع كبير منه إلى تأييد حالة الهوس والانفلات التي ظل بريجوزين يروجها طوال شهور مضت. لذلك ففي الوقت الذي كان الكرملين ممثلا في الرئيس بوتين يدير مع حليفه البيلاروسي، عملية اخراج مشهد النهاية وبنود تسويته على الوضع الذي يحفظ لنظام الحكم الروسي هيبته، أو القدر الذي تبقى منه على الأقل. انصرف الاهتمام العسكري لقادة الجيش الروسي إلى خطوط القتال على الجبهات المفتوحة، كي يحرموا الهجوم المضاد الأوكراني من الاستفادة من هذا المشهد المفاجئ بأي صورة، ورغم توالي الانسحابات التي قامت بها قوات فاجنر من مناطق، كانت تتمركز فيها وتسيطر عليها قبل أحداث السبت أشهرها مدينة “باخموت” ومحيطها، إلا أن حصاد الجهد العسكري للأيام التي تلت هذا اليوم الاستثنائي، تشي بمفاجأة نجاح قوات الجيش الروسي في المهمة التي انصب تركيز قيادة الجيش ورئاسة الأركان العامة في إنجازها.
ففي الوقت الذي اعتبرت فيه كييف أن تمرد قوات فاجنر؛ يعد فرصة ذهبية لتطوير الهجوم المضاد في ظل انشغال الجيش الروسي بالأحداث الداخلية، أثبتت وقائع الميدان شدة التحصينات التي تتمتع بها الدفاعات الروسية في مختلف جبهات الحرب. فمما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية؛ أنه لم تكن هناك ثغرات في الدفاعات الروسية أمكن للقوات الأوكرانية استغلالها، في الوقت الذي تأكد فيه أن أي من وحدات الجيش الروسي لم تغادر مواقعها في الجنوب أو الشرق، طوال ساعات تمرد قوات فاجنر وما تلاها من أيام. كما رصد أيضا على طول الجبهات أن الجيش الروسي لم يبطأ وتيرة القتال المعتادة، بل حرص على إطلاق ما يتجاوز 50 صاروخا على أوكرانيا خلال يومي السبت والأحد، مما جعل وزير الدفاع الأوكراني أليكسي ريزنيكوف يعترف مؤخرا بأن توقعات الهجوم المضاد قد تكون مبالغا فيها، فسير المعارك معقد في أكثر من منطقة والدفاعات الروسية لازالت قوية للغاية. هذه الحصيلة من التعثر والاخفاق في تطوير الهجوم المضاد، واعتراف أكثر من قيادة غربية من الداعمين لأوكرانيا بأن كييف “متأخرة” في الجدول الزمني للهجوم، يصب بالضرورة في صالح القيادة العسكرية الروسية ويمثل بارقة لتصحيح كبير سيكون هناك ما بعده، خاصة مع التجربة الملتبسة لإشراك قوات فاجنر في القتال وما صاحبها من جدل وصخب واسع كان الجيش الروسي أول من يحمل عبئه.
هذا عن القيادة العسكرية العليا، وهي غير بعيدة بالطبع عن صناعة السياسة الروسية، لكن يبقى الأهم الرئيس بوتين ودائرة الحكم بداخل الكرملين؛ فالثابت حتى اللحظة أنهم المتضرر الأكبر مما جرى. هناك تساؤل ضمن عشرات غيره حول الاستخبارات الروسية هل علمت مسبقا بالاستعدادات للتمرد، ومتى أبلغت الرئيس بوتين بما لديها حتى يبدو متفاجئا على هذا النحو في كلمته التي وجهها للشعب الروسي. وكيف سمحت دائرة الحكم بأن تكون خيارات الرئيس محدودة وضيقة، في التعامل مع الأزمة، لحد اضطراره إلى الاعتماد على الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، كي يدير التفاوض ويقبل بالشروط المذلة لتمرير إنهاء بريجوزين لهذا المشهد، فيما بدا أنه غير مهدد إلا لسلطة ومكانة فلاديمير بوتين بشخصه. لذلك يتصور أن الأضواء لم تطفأ في الكرملين، منذ السبت الماضي وحتى يصل الرئيس الروسي إلى إجابات على تلك الأسئلة الوجودية لمنظومة حكمه وإدارته، لاسيما وهناك إجراءات ضرورية يجري الاعداد لتنفيذها في روسيا وفي بيلاروسيا. فكلمة النهاية التي لم تكتب بعد تطارد الكثيرين، كالشبح الماثل أمام من بالقصر بما فيهم الرئيس نفسه، أنهم ربما يواجهون ما يمكن اعتباره مسألة وقت.
.
رابط المصدر: