تعديل المعادلات.. ماذا بعد “بأس جنين” و”المنزل والحديقة”

محمد منصور

 

لم يكن مفاجئًا – من حيث الشكل – التصعيد الإسرائيلي المستمر منذ صباح أمس، في مدينة ومخيم جنين شمال الضفة الغربية المحتلة، فالمشهد الميداني في الضفة الغربية خلال الأشهر الأخيرة، كان ينذر بقرب دخول كافة مدن القطاع في حالة استنفار كبيرة ومفاجئة، خاصة بعد وصول الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى سُدة الحكم في نوفمبر الماضي، وهي الحكومة التي حرصت في كل مناسبة على تأكيد توجهاتها المتطرفة سواء عبر فتح أبواب الاستيطان على مصراعيها، مرورًا بـ “عسكرة” التواجد الاستيطاني في الضفة الغربية، وصولًا إلى العودة لسياسة الاغتيالات والاقتحامات المستمرة.

لكن من حيث المضمون وبالنظر إلى الاشتباك الأخير بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، يمكن ملاحظة نقطة تغير أساسية في المقاربة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية حيال الضفة الغربية، فقد لاحظ المخطط الأمني الإسرائيلي منذ فترة التحولات النوعية التي طرأت على التواجد المسلح لفصائل المقاومة الفلسطينية في معظم مدن الضفة الغربية، وعلى رأسها مدينتي نابلس وجنين، حيث تصاعدت أنشطة عدة فصائل فلسطينية مسلحة “غير نمطية” خلال الفترات الماضية، مثل “عرين الأسود”، بجانب لجوء فصائل المقاومة الفلسطينية الأساسية، التي كان نشاطها ينحصر بشكل شبه كامل في قطاع غزة، إلى تأسيس كتيبة خاصة بكل مدينة كبيرة من مدن الضفة الغربية، فأسست كتائب شهداء الأقصى – الذراع العسكرية لحركة فتح – لواء “العامودي”، ليعمل في نطاق مدينة نابلس ومحيطها، في حين أسست سرايا القدس – الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي – كتيبة “جنين”، وكانت ألوية الناصر صلاح الدين – الذراع العسكرية للجان المقاومة الشعبية – أحدث الفصائل التي شكلت كتيبة خاصة لمدينة جنين، وذلك في مايو الماضي.

وعلى الرغم من أن هذه المشاهد قد بدأت عمليًا أواخر عام 2013، إلا أن نتائجها وثمارها قد ظهرت بشكل أوضح منذ بدايات العام الماضي، ومثلت بالنسبة للحكومة الإسرائيلية عامل ضغط متواصل، نظرًا لأن ظهور المجموعات المسلحة غير النمطية، والتي لا ينتمي بعضها -على الأقل تنظيميًا- لفصائل المقاومة الفلسطينية الأساسية، كان مؤشرًا على فشل الاستراتيجية الإسرائيلية التي كانت متبعة سابقًا، والتي من خلالها عملت القوات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، على الاستهداف المستمر والممنهج لقادة الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية، سواء بالاعتقال أو القتل بشكل تدريجي دقيق يراعي القضاء على القيادات الميدانية الأكثر قدرة وخبرة، وبالتالي التقليل قدر الإمكان من إمكانية قيام هجمات مسلحة تستهدف المستوطنات والحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية. هذه الاستراتيجية بدا أنها كانت ناجحة خلال مرحلة سابقة، لكن باتت الآن شبه عقيمة بحكم الواقع الجديد الذي فرضه الظهور غير النمطي للمجموعات المسلحة في الضفة.

نشوء هذه المجموعات وإعادة تشكيل فصائل المقاومة الفلسطينية لكتائب تابعة لها في المدن الأساسية للضفة، ساعد بشكل واضح على تحول أية أنشطة مسلحة فردية كانت تتم بين الفينة والأخرى في الضفة الغربية، إلى حالة عامة متعددة التوجهات والاتجاهات، وهو ما أدى إلى سلسلة من عمليات الدهس والطعن والهجمات بالأسلحة النارية، جعلت عام 2022 هو الأكثر دموية بالنسبة لإسرائيل منذ عام 2015، حيث سقط لها جراء هذه العمليات نحو 33 قتيلًا وهذا الوضع استمر خلال العام الجاري، الذي سقط في النصف الأول منه فقط 27 قتيلًا إسرائيليًا جراء سلسلة العمليات التي تم تنفيذها خلال الفترة الماضية في الضفة الغربية، وكان آخرها عملية مستوطنة “عيلي” شمال مدينة نابلس، التي تبنتها – وهو أمر لافت – حركة حماس بشكل رسمي، وتم تنفيذها عبر هجوم مباشر بالأسلحة النارية، وهو الأمر الذي لم تواجهه القوات الإسرائيلية المنتشرة في الضفة إلا في مرات محدودة سابقًا.

عملية “المنزل والحديقة” وذكريات “الدرع الواقي”

هذا التصاعد في الأنشطة الفلسطينية في الضفة، وما طرأ عليه من معطيات خلال الاشتباك الصاروخي الأخير بين الجيش الإسرائيلي وفصائل غزة، سواء فيما يتعلق بالقدرة على إدامة إطلاق الصواريخ، أو تطور تكتيكات الدفاع الجوي الخاصة بهذه الفصائل، بالإضافة إلى عدة مؤشرات أخرى من بينها التغيرات النوعية في أسلوب تنفيذ العمليات الفلسطينية، ونوعية الأسلحة وتكتيكات استخدامها، بل وحتى طرق تهريب الأسلحة من خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى داخلها.

فقد أظهرت عملية “عيلي” أن الأسلحة المستخدمة فيها – وهي أمريكية الصنع – من نوع “إم-16″، كانت مزودة بملحقات ومناظير اشتباك، وفرت للمهاجمين القدرة على استهداف أكبر عدد من الأفراد، بجانب حقيقة أن عمليات تفجير العبوات الناسفة ضد الدوريات العسكرية الإسرائيلية المقتحمة لمدن الضفة، خاصة جنين، باتت تشكل تهديدًا حقيقيًا على العربات المدرعة الإسرائيلية، وهو ما ظهر بشكل كبير خلال اقتحام مدينة جنين منتصف الشهر الماضي، والذي خسرت فيه القوات الإسرائيلية ناقلتي جند مدرعتين من نوع “بانثر”.

بالنظر لما تقدم، والاشتباكات التي دارت مؤخرًا بين المستوطنين والسكان الفلسطينيين في عدة مناطق بالضفة، كان من المتوقع أن تلجأ القوات الإسرائيلية إلى بدء عملية عسكرية في مدينة جنين، لكن اللافت في هذا الإطار أن العملية العسكرية الإسرائيلية في المدينة ومحيطها والتي أُطلق عليها اسم “المنزل والحديقة”، بدأت أمس على شكل عملية “محدودة”، لكن مع دخولها يومها الثاني بدا أنها تتحول بشكل تدريجي إلى عملية غير محددة المدى الزمني، تستهدف إنهاء “الحالة الأمنية الحالية” في مخيم ومدينة جنين استغلالًا للظروف الدولية والإقليمية الحالية، ورغبة في تسويق “إنجاز” داخلي وسط الأزمات الحالية في تل أبيب، والأهم هو منع تحول جنين ونابلس ومناطق أخرى في الضفة الغربية إلى “قطاعات غزة”، وهي جميعها أهداف تختلف بشكل كبير عما استهدفته إسرائيل حين أطلقت عملية “الدرع الواقي” لاجتياح الضفة الغربية عام 2002، والتي تعتبر – عمليًا – أكبر عملية تم تنفيذها في الضفة وكانت ردًا آنيًا ومباشرًا على عملية فندق “بارك” في مدينة نتانيا، التي نفذها أحد عناصر حركة حماس في مارس من نفس العام.

بالنسبة للجانب الميداني من العملية العسكرية الإسرائيلية، فهي تتضمن نحو 1000 جندي، و100 دبابة ومدرعة، بجانب أعداد من مقاتلات “إف-16” والطائرات بدون طيار من نوعي “إيتان” و”هيرميس-450″، وتشارك فيها تشكيلة من الوحدات العسكرية والأمنية الإسرائيلية الخاصة، وبشكل محدد كتائب لواء القوات الخاصة التاسعة والثمانين المعروف باسم “عوز”، والذي يضم ثلاث كتائب خاصة، الأولى هي كتيبة “ماجلان” الاستطلاعية، ووحدة “دوفدوفان” لمكافحة الإرهاب، المعروفة إعلاميًا باسم “المستعربين”، ووحدة “إيجوز” المتخصصة في حرب العصابات وحروب المدن. يضاف إلى هذا اللواء وحدات أخرى هي وحدة “اليمام” الخاصة التابعة للشرطة الإسرائيلية، ووحدة “لوتر إيلات” العسكرية الخاصة، ويقود هذه العملية بشكل ميداني اللواء “آفي بلوت”، قائد فرقة الضفة الغربية في الجيش الإسرائيلي.

خلال عمليات أمس، بدا أن هدف عناصر القوات الخاصة الإسرائيلية الدخول إلى قلب مخيم جنين من مدخله الشرقي وصولًا إلى محيط مسجد الأنصار وحي “الدمج” وهو ما تم بالفعل أمس، وكان تقدم هذه العناصر يتم عبر عربات مدرعة تتقدمها جرافات ثقيلة تحسبًا لانفجار العبوات الناسفة المزروعة بكثافة في كافة أنحاء المخيم، واللافت هنا أن عناصر الفصائل الفلسطينية الموجودة داخل جنين، سواء عناصر “عرين الأسود” أو كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس أو حتى العناصر التابعة لكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح وكتائب المجاهدين، قد استوعبت صدمة الهجوم الإسرائيلي ونفذت عدة كمائن للقوات الإسرائيلية المتقدمة داخل حي “الدمج”، مستغلين في ذلك صعوبة تقديم الغطاء الجوي لهذه القوات داخل المخيم، وتمكنوا من تحقيق عدة إصابات في صفوف وحدة “لوتر إيلات” ووحدة “ماجلان”، ووحدة “إيجوز”، بجانب إسقاط أربع طائرات مسيرة استطلاعية خلال اشتباكات اليوم الأول.

مساء اليوم الأول للعمليات في جنين، كان واضحًا أن القوات الإسرائيلية قد لجأت إلى إفراغ مخيم جنين من ساكنيه عبر ترهيبهم، كما قامت كذلك بتجريف الطرق المحيطة بمخيم جنين وإقامة الحواجز الترابية حوله، وهو ما كان مؤشر واضح على أن هذه العملية سوف تمتد لعدة أيام، وأن هدفها الأساسي هو “تطهير” كامل مناطق مخيم جنين الذي تبلغ مساحته نحو 1 كيلو متر مربع، وهذا اتضح بشكل أكبر بعد قرار رئيس الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي، اللواء هرتسي هليفي، مساء أمس باستمرار العملية في ضوء النتائج التي قام بتقييمها هو وكبار ضباط الوحدات الإسرائيلية الخاصة، وعلى ضوئها تم الدفع بمعدات عسكرية متخصصة تشمل مدافع ذاتية الحركة من نوع “أم-109″، وملاجئ القيادة والتحكم المدرعة ذاتية الحركة “راينو”، بجانب عدد من ناقلات الجند المدرعة “نامير”.

في خلاصة الموقف الميداني، يمكن القول إن عملية “المنزل والحديقة” هي تكرار “مطور” لعملية “الدرع الواقي”، لكن في نطاق مخيم جنين فقط. وفي ضوء عملية الدهس وإطلاق النار، التي نفذها أحد أفراد كتائب القسام في مدينة تل أبيب اليوم، يكون من المنطقي اعتبار استمرار العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين لأيام إضافية بمثابة رهان غير محسوب العواقب على عدم لجوء الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة الغربية إلى توسيع جبهة المواجهة مع القوات الإسرائيلية لتشمل معظم الأراضي الفلسطينية، وهو رهان إن نجحت تل أبيب فيه وتمكنت من إنهاء الحالة في مدينة جنين، فلا يعني هذا على الإطلاق أن الوضع العام في الضفة الغربية قد يهدأ أو يخرج عن نطاق التصعيد التدريجي الذي سبق ذكره، بل ربما تكون هذه المواجهة شرارة انطلاق انتفاضة جديدة، أو على الأقل بداية مواجهة جديدة مع فصائل غزة. أما في حال عدم تمكن تل أبيب من حسم الموقف في جنين، ستكون هذه ضربة إضافية لحالة الردع الإسرائيلية التي اهتزت بشكل كبير جدا بعد عملية “عيلي”.

في ظلال “بأس جنين.. الجامعة العربية تتوجه إلى الورقة الدولية

في ضوء الوضع الدولي الحالي الذي يتجاهل بشكل شبه كامل ما يحدث في جنين، احتضنت العاصمة المصرية القاهرة اليوم، الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين الدائمين بمقر الأمانة العامة لبحث التطورات الأخيرة في فلسطين، وتحديدًا التصعيد الإسرائيلي المستمر منذ صباح أمس في مدينة جنين ومخيمها. جاء هذا الاجتماع بناء على طلب عاجل تقدم به مندوب فلسطين الدائم في الجامعة العربية، بناء على توجيهات من الرئاسة الفلسطينية، وبالتنسيق مع القيادتين المصرية والأردنية، بهدف بحث الخيارات المتاحة على المستويين العربي والدولي لوقف التصعيد الإسرائيلي الحالي.

سبق هذا الاجتماع، موقفًا أعلنه أمس الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، على صفحته الرسمية في موقع التغريدات القصيرة “تويتر”، أعرب فيه عن الإدانة الكاملة للعملية الإسرائيلية في مدينة جنين، واعتبرها عملية “مشؤومة وإجرامية”، مناشدا أنصار السلام في العالم التدخل الفوري لوقفها، واعتبر أن ما تقوم به إسرائيل هو “عقاب جماعي لن يؤدي إلا للمزيد من تفجير الموقف”. تلى هذا الموقف بيان أصدرته في نفس اليوم، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، أدانت فيه العدوان الذي يشنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدينة جنين، واستشهاد عدد من المواطنين وإصابة العشرات بجروح بعضهم خطيرة، وحملت الأمانة إسرائيل المسؤولية الكاملة عن هذا العدوان وهذه الجرائم بوصفها جرائم حرب وانتهاك للمواثيق والقوانين وقرارات الشرعية الدولية، وتقويضًا لمساع ومحاولات إعادة إحياء مسار وآمال السلام الإقليمية والدولية.

بطبيعة الحال يكون التحدي الأكبر الذي يواجه العمل العربي المشترك في مثل هذه الظروف، هو الخروج بموقف موحد وقوي و”على مستوى الحدث”، يوازي حجم التصعيد الإسرائيلي الذي بات عنوانًا رئيسًا ومتكررًا لمعظم الاجتماعات العربية العادية وغير العادية، لكن تزايد حجم هذا التحدي خلال الأشهر الأخيرة نتيجة عدة عوامل، من بينها التشكيلة الحالية للحكومة الإسرائيلية التي تجمع بين التيارات اليهودية المتشددة واليمين المتطرف، وكذا طبيعة الظروف الدولية الراهنة وتداعيات تطبيع العلاقات مؤخرًا بين تل أبيب وبعض الدول العربية. وعلى الرغم من هذه العوامل، إلا أن الجلسة الافتتاحية لاجتماع اليوم، شهدت اجماعًا واضحًا من جانب المندوبين الدائمين الممثلين للدول العربية، على ضرورة إيجاد “مقاربة فعالة وإيجابية” للتعامل مع التصعيد الإسرائيلي المتكرر.

هذا كان واضحًا بشكل أكبر من خلال كلمات مندوبي فلسطين ومصر والأردن، حيث اعتبر مندوب مصر الدائم لدى جامعة الدول العربية، السفير محمد مصطفى عرفي، أن ما يحدث في جنين هو جريمة إسرائيلية جديدة، تمثل انتهاكًا صريحًا للقوانين والأعراف الدولية، موضحًا أن استخدام آلة الحرب في جنين يقوض أي فرصة لتحقيق السلام، في إطار حل الدولتين. كما اعتبر المندوب المصري أن ما يحدث في جنين لا يمكن فصله عن الانتهاكات التي ترتكب في المسجد الأقصى، وهو ما يمثل تحديًا صريحًا واستفزازًا لمشاعر ملياري مسلم، مشيدًا بالوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية في القدس، مشددًا على أن حل الدولتين عبر تأسيس دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية هو الضمان الوحيد والسبيل لتحقيق السلام.

في حين أكد مندوب فلسطين لدى جامعة الدول العربية، السفير مهند العكلوك، أن جنين تذبح ولكنها تقاوم، كما تفعل القدس ونابلس وغيرهما من المدن والقرى الفلسطينية التي تعاني من الانتهاكات الاسرائيلية وسياسات الفصل العنصري، الذي تسعى سلطات الاحتلال إلى تثبيتها. وأضاف، خلال كلمته أن الإدانات والبيانات وحدها لا يمكنها وقف الانتهاكات ومنظومة الاستيطان، حيث تحولت إسرائيل إلى نظام فصل عنصري مجرم ومنظومة استعمارية، تعمل على الاستمرار في انتهاكاتها.

وأشار السفير الفلسطيني في كلمته إلى نقطة جوهرية، يمكن اعتبارها من أهم الأدوات التي تحوزها الدول العربية، ويمكن من خلالها الرد بشكل فعال على التصعيد الإسرائيلي، ألا وهي اللجوء إلى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. فقد أوضح السفير الفلسطيني أنه في ظل غياب الضغط الدولي، وبقاء الممارسات الاسرائيلية كما هي دون تغيير، فإنه يجب التأكيد على تمسك الدول العربية، كما جاء في قمة جدة، بتقديم مرافعات أمام محكمة العدل الدولية لطلب فتوى قانونية حول تشخيص ماهية الاحتلال، معتبرًا أن هذه الخطوة فرصة تاريخية حقيقية يجب استثمارها واغتنامها لمجابهة سياسات الاحتلال، من خلال تقديم مرافعات قانونية خطية لمحكمة العدل الدولية قبل تاريخ 25 يوليو الجاري، وهو الموعد النهائي الذي حددته المحكمة لتلقي تلك المرافعات في إطار عملها على إصدار رأي استشاري أو فتوى قانونية، بشأن ماهية نظام الاحتلال الإسرائيلي وآثاره على الشعب الفلسطيني.

وأوضح السفير العلوك، أنه لا يفصلنا عن التاريخ المذكور سوى 20 يومًا، مطالبًا المحكمة الجنائية الدولية بالخروج عن صمتها كما فعلت في أماكن أخرى حول العالم، والعمل بجد وبسرعة على إنجاز التحقيق الجنائي الذي فتحته قبل أكثر من عامين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، بما فيها جرائم الاستيطان والعدوان وقتل واعتقال المدنيين والصحفيين والمسعفين والتهجير القسري من بيوتهم وخاصة في القدس الشرقية المحتلة. ودعا السفير الفلسطيني للضغط على المحكمة الجنائية الدولية للخروج عن صمتها واتخاذ الإجراءات ضد السياسات والانتهاكات الإسرائيلية، موضحا أن المدعي العام للمحكمة لم يتحرك حتى الآن لمواجهة تلك الانتهاكات.

في السياق نفسه، قال مندوب الأردن الدائم لدى جامعة الدول العربية، السفير أمجد العضايلة، أن العدوان الإسرائيلي الغاشم يطال جنين رغم أهميتها ورمزيتها في انتهاك جديد للقانون الدولي مما يقوض أي أمل لتحقيق السلام الشامل. وأعرب عن تأييده لما ذهبت إليه مصر حول الربط بين ما تشهده جنين، وسياسات الحكومة الإسرائيلية القائمة على التوسع وانتهاكاتها بحق الأقصى، معربًا عن تأييده للخطوات التي اتخذتها القيادة الفلسطينية لمواجهة الاعتداءات المتتالية. وشدد السفير الأردني على ضرورة استخدام كل الأدوات السياسية من قبل الدول العربية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وتوفير الحماية للشعب الفلسطيني، والعمل على تحقيق حل الدولتين عبر تأسيس دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس.

في ضوء هذه الكلمات، جاءت مخرجات هذا الاجتماع في صورة القرار رقم 8916 الذي جاء البند الثالث فيه متوافقًا مع الدعوة التي أطلقها المندوب الفلسطيني الدائم لتفعيل ورقة “المحاكم الدولية”، حيث طالب هذا البند المحكمة الجنائية الدولية بالوفاء بمسؤولياتها بموجب ميثاق روما المؤسس لعملها فيما يخص العمل على إنجاز التحقيق الجنائي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بما فيها جرائم الاستيطان والضم، والعدوان على المدن والقرى والمخيمات، وقتل المدنيين والصحفيين والمسعفين، والتهجير القسري، ومطالبة المحكمة بدراسة كل الخيارات التي يمكن من خلالها ممارسة ولايتها القضائية في أرض دولة فلسطين المحتلة، وإنجاز التحقيق، وتوفير كافة الإمكانات البشرية والمادية لهذا التحقيق وإعطائه الأولوية اللازمة.

تضمن هذا القرار بشكل عام ثمانية بنود، من بينها بند يدعم كل الخطوات والإجراءات والقرارات التي تتخذها القيادة الفلسطينية لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وبند آخر يحث المجتمع الدولي على الوفاء بالتزاماته تجاه المدنيين الفلسطينيين وحمايتهم، عبر تشكيل آلية عملية وفعالة لتنفيذ ما جاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 10/20 A/RES/E، وحث الأمين العام للأمم المتحدة على تطبيق إجراءات عملية وفعالة لحماية المدنيين الفلسطينيين. ودعوة الأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقية جنيف الرابعة لتحمل مسؤولياتها وكفالة احترام وإنفاذ الاتفاقية في أرض دولة فلسطين المحتلة بما فيها القدس الشرقية، من خلال وقف الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

وطالب القرار العربي كذلك المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، للسماح للجنة تقصي الحقائق المستمرة التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2021، بالدخول إلى أرض دولة فلسطين المحتلة لممارسة ولايتها في تقصي الحقائق حول الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية، وتقديم تقاريرها وتوصياتها بهذا الشأن. وحقيقة الأمر أن القرار العربي كان مركزًا بشكل كبير وطاغٍ على تفعيل الدور الدولي والأممي حيال هذه الأزمة، حيث دعا إلى تحرك عربي عاجل يشمل اللجنة الوزارية العربية مفتوحة العضوية، المكلفة من القمة العربية بمهمة التحرك على المستوى الدولي لتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وذلك بهدف إطلاق تحرك دبلوماسي مكثف، عبر مجالس السفراء العرب وبعثات جامعة الدول العربية، ومن خلال التواصل عبر القنوات الرسمية مع الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن ومراكز صنع القرار الدولي، للتعبير عن التوجه العربي لاتخاذ  ما يلزم نحو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وجميع سياساته وممارساته وإجراءاته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني.

وقد دعا القرار أيضًا للقيام بزيارات واتصالات وتوجيه رسائل مشتركة وثنائية رفيعة المستوى من جانب الدول العربية إلى مجلس الأمن وأعضائه ومراكز صنع القرار الدولي، بهدف تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بوقف الاعتداءات الإسرائيلية بأشكالها كافة على الشعب الفلسطيني وتوفير الحماية الدولية له، بما فيها قرارات مجلس الأمن أرقام 605 و904 و2334، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 10/20 A/RES/E، وتحميل إسرائيل بصفتها القوة القائمة بالاحتلال مسؤولية نتائج عدوانها كافة. ويضيف القرار أنه في حال عجز مجلس الأمن عن القيام بدوره وتولي مسؤولياته في حفظ الأمن والسلم الدوليين، يتم التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لعقد دورة مستأنفة عن الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة تحت عنوان “الاتحاد من أجل السلام”، لإصدار القرارات اللازمة نحو وقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالحماية الدولية للشعب الفلسطيني، ومنح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.

خلاصة القول، إن معيار الحكم على أي تحرك عربي مشترك على المستوى السياسي والدبلوماسي، يبقى دومًا مرهونًا بتنفيذ القرارات التي يتم اتخاذها في المحافل العربية الرسمية من عدمه، وعليه فإن خطوة زيادة وتيرة التوجه إلى المؤسسات الدولية ضد إسرائيل يمكن أن تمثل في حالة تفعيلها بشكل ديناميكي ومتصاعد مصدر ضغط مستمر على تل أبيب، خاصة أن التجارب السابقة أثبتت أن إسرائيل تتضرر بشدة من أية قرارات أممية أو دولية توجه لها اللوم أو الاتهام فيما يتعلق بحقوق الإنسان واحتلال الأراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان فيها. وعلى جانب آخر، يبقى سؤال مهم يتعلق بمستقبل مبادرة السلام العربية – أو أي مبادرة سلام تتعلق بالشأن الفلسطيني – في ظل تجذر الحالة الاستيطانية ولجوء تل أبيب بشكل دائم ومتكرر إلى القوة، وهو ما تزايدت حدته بعد وصول الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى سُدة الحكم، وهذا كله أدى في المحصلة النهائية إلى نشوء واقع جديد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ربما بدأت تل أبيب في حصد ثماره “السلبية” عبر تنوع أشكال العمليات الفلسطينية التي تستهدف التواجد الاستيطاني والعسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/78331/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M