«ندعو أصدقاءنا فى أوروبا لإيصال رسالة الى صندوق النقد والبنك الدوليين بأن الواقع الموجود فى بلادنا لا يحتمل المعايير المعمول بها خلال هذه المرحلة»، بهذه العبارة البليغة لخص الرئيس عبد الفتاح السيسى المشكلة الأساسية فى برامج الصندوق والتى تعكس تناقضات واضحة بين المنطلقات النظرية لها والواقع الاجتماعى والاقتصادى المعيش. وكما يقول المفكر الاقتصادى الكبير جوزيف ستجليتز انه إذا لم تتفق الحقائق مع النظرية فعلينا ان نغير النظرية. فمن المعروف أن استخدام موارد الصندوق يتطلب بالأساس التوصّل لاتفاق تُعلن فيه الدولة مُجمل السياسات الاقتصادية التى ستتبعها خلال فترة معيّنة، وتتم مراقبة ذلك بشكل دورى مستمر، بحيث توضع أهداف محدّدة سنوية وربع سنوية، أو يتم بناءً عليها مراجعة ما تم منها فى ضوء الأهداف المطروحة. إذ يتخذ برنامج التثبيت الاقتصادى شكل مجموعة من النوايا التى تتعهّد بها الدولة. وتنبع من أساس فكرى واحد، هو مدرسة واشنطن.
ينطلق خبراء الصندوق من فكرة أساسية مفادها أن الدول التى تُعانى أوضاعا اقتصادية سيئة ترجع بالأساس إلى الخلل بين إجمالى الطلب المحلى وإجمالى العرض، وهو ما ينعكس فى ازدياد أوضاع مدفوعاته الخارجية سوءا. وكثيرا ما تكون هذه الاختلالات راجعة أساسا إلى السياسات المحلية المطبّقة، والتى تعمل على توسيع إجمالى الطلب المحلى بصورة كبيرة لا تتفق مع الإمكانات الإنتاجية للاقتصاد. مما يُحدث بدوره تشوّهاً شديدا فى الأسعار النسبية. وهكذا فإن الأوضاع الاقتصادية السيئة والاختلالات القائمة تعكس بالأساس إفراطا فى الطلب، وبالتالى ترتكز المُقترحات والأُطُر الفكرية على كيفية كبح جِماح الطلب المحلي، ووضع تصور للإجراءات والسياسات التى يجب أن تتبعها الدولة للحد من هذا التوسّع.
ولذلك يتكون البرنامج المالى من مجموعة من السياسات تهدف لإزالة الاختلال بين إجمالى الطلب المحلى وإجمالى الرصد فى الاقتصاد. بهدف التوفيق بين الموارد المتاحة والاحتياجات، وبما يؤدى إلى تحقيق الأهداف المنشودة منها. ويستند خبراء الصندوق إلى أسلوب البرمجة المالية معتمدا أساسا على التحليل النقدى لميزان المدفوعات، كما صاغه بالأساس جاك بولاك فى نموذجه الشهير عام 1957، وأُدخل عليه العديد من التعديلات بعد ذلك خاصة مع التطوّرات التى شهدتها البيئة النقدية الدولية. وذلك لأنها تنطلق أساسا من هدف رئيسى يكمُن فى تعزيز أوضاع الصرف الأجنبى بالبلاد، وضمان وضع سليم لميزان المدفوعات يسمح بسداد الموارد المقترضة وتنفيذ الالتزامات المستحقة على الدولة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التركيز الأساسى لهذه البرامج يهدف إلى ضمان تحقيق أغراض صندوق النقد بالأساس، ومن المنظور الأكثر اتساعا يهتم الصندوق بحدوث تحسّن مطرد فى أوضاع مديونية الدولة، وبالتالى ينصب الاهتمام على توليد حصيلة كافية من النقد الأجنبى للوفاء بجميع التزامات المدفوعات فى المستقبل.
وقد تمحورت هذه الأفكار أساسا على ثلاثة محاور هى تحرير سياسات الأسعار، بحيث تُترك فى معظمها لتحدد وفقاً لآليات السوق دون تدخل من جانب الدولة. انطلاقا من فرضيّة أساسية مؤدّاها أن الأسعار السائدة كانت تتسم بالجمود ولا تعكس التكلفة الحقيقية للسلع والخدمات، كما تنطوى على درجة عالية من التشوّه (أى اختلاف الأسعار المحلية عن مثيلتها فى الأسواق الدولية).والعمل على تخفيض العجز المالى للدولة، عن طريق إعادة النظر فى الإنفاق العام والاستثمار الحكومي، وذلك بخفض الإنفاق العام فى العديد من المجالات،وتعديل أسعار الصرف، والفائدة وإلغاء القيود على المعاملات الجارية، بُغية إصلاح القطاع الخارجي، وعلاج الخلل فى ميزان المدفوعات المصري. وقد بدأ بالفعل إعادة النظر فى هذه السياسة، وظهر العديد من الدراسات التى حذرت منها.
بل ونشرت مجلة التمويل والتنمية، لسان حال الصندوق مقالا بعنوان الليبرالية الجديدة هل شابها الإفراط؟ ينتقد الاعمدة الأساسية التى تقوم عليها جميع برامحه الإصلاحية فيما يتعلق بالسياسة المالية، حيث يرى ان سياسة التقشف التى يدعو اليها عن طريق تخفيض النفقات العامة، خاصة على بعض الجوانب الاجتماعية كالأجور والدعم قد أدت فى النهاية الى المزيد من عدم المساواة وسوء توزيع الدخول، بل واقر بأن هناك إفراطا شديدا فى تخفيض الموازنات مما أدى الى نتائج عكسية اضرت بأهداف النمو والعدالة الاجتماعية وحتى استمرارية السياسة المالية ذاتها. ولذلك يرى انه إذا كان من الضرورى والمهم ان تؤدى السياسة المالية الى تعزيز النمو وتحقيق العدالة الاجتماعية على المدى المتوسط والبعيد فإن ذلك يتوقف على طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة لدى كل دولة.
ويرى خبراء الصندوق أن سياسة الإيرادات وسياسة الإنفاق متكاملتان وينبغى تقييمهما كحزمة واحدة لتحقيق أهداف المالية العامة والأهداف الاقتصادية والاجتماعية. وفى هذا السياق أشار صندوق النقد الدولى فى تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمى الى ان استمرار النمو البطيء فى الاقتصاد العالمى يهدد باحتمال وصول الاقتصاد العالمى الى الانهيار والسقوط فى حالة من الركود المزمن واسع النطاق.
خاصة فى ظل الجغرافيا السياسية الحالية وتنامى عدم المساواة فى الدخول الى جانب التحولات الهيكلية المرتبطة بالعولمة والتى كانت منحازة للنخبة الاقتصادية ولا تراعى الآخرين (على حد تعبير التقرير) من هذا المنطلق فاذا كان من الضرورى الحصول على تسهيل ائتمانى من الصندوق ليس فقط للمساهمة فى سد الفجوة التمويلية بالبلاد، وهى مسألة مهمة وضرورية جدا نظرا لضعف المدخرات المحلية وازدياد عجز الموازنة العامة للدولة وارتفاع الدين العام، ولكن وهو الأهم للحصول على ثقة المستثمرين والمؤسسات التمويلية الأخرى بغية ضخ المزيد من الاستثمارات فى دولاب الاقتصاد المصري، يجب ان يكون البرنامج الإصلاحى شاملا ومستداما يحقق التغييرات الهيكلية المطلوبة ويدفع معدلات التشغيل والتنمية ويسهم فى تحسين نوعية الحياة للسواد الأعظم من الشعب.
نقلا عن جريدة الاهرام الأربعاء 3 أغسطس 2022