كيف ستُدير إسرائيل علاقتها مع الصين بعد “إعلان القدس”؟

شادي محسن

 

انتهت زيارةُ الرئيس الأمريكي إلى إسرائيل بتوقيع إعلان القدس الذي يشمل مجموعة من الاتفاقيات الأمنية والتعاون التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي والكمي في وقتٍ يتزايد فيه السباق لتطوير قدرات عسكرية فائقة من الجيل السادس.

أحد دوافع إعادة تنظيم الولايات المتحدة لوجودها في الشرق الأوسط هو سد الفراغات في النواحي الأمنية والتكنولوجية التي يمكن لروسيا والصين أن تشغلها. وكانت إسرائيل حريصة طوال الوقت على حفظ توازن استراتيجي بين الولايات المتحدة كشريك استراتيجي على المستوى الأمني وبين الصين كشريك استراتيجي محتمل من الناحية التكنولوجية.

لكن قبل عودة محتملة لبنيامين نتنياهو إلى السياسة الإسرائيلية -الذي يعد أهم المدافعين عن العلاقات الإسرائيلية الصينية- فضّلت الإدارة الأمريكية توقيع اتفاق استراتيجي ملزم لكافة الأطراف المعنية بالتعاون المشترك، والحصري إن جاز التقدير من بين سطور الاتفاق؛ لتفويت الفرصة على إسرائيل بتعميق تعاون تكنولوجي مع الصين.

يبقى السؤال: هل يعني هذا الاتفاق (اتفاق القدس) كسر العلاقة بين إسرائيل والصين وإبقاءها في حدود متواضعة؟.

متغيرات السياسة الخارجية الإسرائيلية

تحمل كل دولة في استراتيجيتها لرسم سياستها مع العالم الخارجي مجموعة من المتغيرات سواء الداخلية أو الخارجية، و(أول) هذه المتغيرات في سياسة إسرائيل هو مراقبة تغيرات النظام الدولي عن كثب لرصد موازين القوة الجديدة التي ترسم عالمًا متعدد الأقطاب متعدد القوى النوعية سواء على المستوى التكنولوجي أو الأمني أو الاقتصادي.

لذا تسعى إسرائيل لحشد أدوات دبلوماسية وسياسية متنوعة لحفظ توازن علاقاتها مع عدد أكبر من الدول، ومنها الصين والهند وروسيا، بالإضافة إلى تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

(ثاني) هذه المتغيرات الخارجية هو محاولة إسرائيل الانخراط في أي هندسة سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو تكنولوجية على المستويين الإقليمي والدولي من أجل تنويع أوراق الضغط التي تحفظ بقاءها، وتحييد مصدر التهديد المستمر لها بالعزلة الإقليمية بسبب القضية الفلسطينية.

ترى إسرائيل في مبادرة “الحزام والطريق” بكافة أنواعها الخمسة (البرية، والبحرية، والرقمية، والصحية، والأخضر) فرصة اندماج وتكامل مهمة لها لترسيخ تموضعها في منطقة الشرق الأوسط، والتحول إلى قوة موازنة حاسمة للقوى المتعددة في النظام الدولي المتماسة مع الشرق الأوسط.

أما على المستوى الداخلي فتبين بعد النظر في الدراسات الاقتصادية الإسرائيلية أن هناك ظاهرة ملحوظة في تراجع الاستثمارات في قطاع الأعمال الإسرائيلي لجملة من العوامل، كان من أهمها هو عدم اهتمام الحكومة الإسرائيلية بالبنية التحتية، وعليه التزمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ 2015 بالاهتمام في تعزيز البنية التحتية الإسرائيلية لتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر وتعزيز استدامة الاقتصاد الإسرائيلي.

ويمكن القول -في هذا السياق- إن المتغيرات الداخلية والخارجية للسياسة الخارجية الإسرائيلية وصلت إلى ارتباط وثيق بين قطاع البنية التحتية الإسرائيلية والسياسة الإسرائيلية مع الدول العملاقة في الاستثمار في هذا المجال الحاسم للاقتصاد الإسرائيلي.

الموانئ: التجارة الإسرائيلية البحرية

تُعد التجارة البحرية ركيزة أساسية في الاقتصاد الإسرائيلي التي تصل إلى 95% تقريبًا من حجم التجارة الإسرائيلية الخارجية ككل، ورغم ذلك تعاني إسرائيل من عملية إصلاح هيكلية لموانئها البحرية. وتملك إسرائيل عددًا محدودًا من الموانئ وهي ثلاثة موانئ مهمة جاهزة للتطوير (موانئ حيفا، وأشدود، وإيلات)، وميناء الخليج في حيفا الذي استأجرته الشركة الصينية-الإسرائيلية SPIG، وميناء الجنوب الجاري عملية تشغيله حاليًا بعد إتمامه من قبل شركة تشاينا هاربور الصينية.

هناك مجموعة من العوامل التي تؤخر إسرائيل من استثمارها في مجال بناء وتطوير وإصلاح الموانئ البحرية وخاصة المطلة على البحر المتوسط، وأهم هذه العوامل هي:

(1) نقص المحفظة الاستثمارية للحكومة الإسرائيلية في مجال البنية التحتية والحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وفي الواقع نجحت الحكومة الإسرائيلية بعد طرحها مناقصات شراء أو تطوير أو تأجير موانئها في رفع قيمة الاستثمارات الأجنبية إلى ما يقرب من 3 مليارات ونصف مليار دولار حسب إحصاءات الربع الأول من عام 2022، بالإضافة إلى رفعها إلى 6 مليارات دولار في نهاية 2021. ولم تهبط قيمة الاستثمارات إلا بعد أن أوقفت الحكومة بعض المناقصات في البنية التحتية تحت ضغط أمريكي.

(2) العامل الثاني هو الضغط الحقوقي المتزايد على الحكومة الإسرائيلية على المستوى البيئي، إذ تتسبب عمليات إصلاح وتطوير وبناء الموانئ في تآكل شواطئ إسرائيل، والتأثير بالسلب على بعض الأحياء البحرية التي قد تقلل فرص إسرائيل من تحقيق ما يُعرف بالاستراتيجية الشاملة لإدارة الاقتصاد الأزرق، مثل التي أعلن عنها معهد تخنيون الإسرائيلي في 2021.

(3) ضغط مؤسسات اقتصادية وبحثية إسرائيلية تحمل دراسات تقر بعيوب في دراسات الحكومة قبل خصخصتها تطوير وبناء الموانئ في إسرائيل. إذ تقول هذه المؤسسات (مثل هيئة مكافحة الاحتكار الإسرائيلية، ولجنة مراقبة الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل) إنه ليس هناك أي دليل على أن الموانئ التي يديرها القطاع الخاص أكثر كفاءة من الموانئ التي تديرها الحكومة. قبل أن تقدم الشركة الصينية المستأجرة لميناء حيفا نموذجًا ناجحًا في إدارة الموانئ في إسرائيل. وبشكل عام، مثّل هذا الضغط زخمًا للرأي العام الإسرائيلي في مواجهة سياسات الحكومة في هذا الشأن، حتى وإن كان غير مسموع بالقدر الكافي.

ورغم هذه الضغوط فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تسابقت في طرح مناقصات في بناء وتطوير موانئها، خاصة المطلة على البحر المتوسط وبالتحديد ميناء حيفا. ففي 2019 فازت الشركة الصينية-الإسرائيلية SPIG باستئجار ميناء الخليج الجديد في حيفا، وبدأ العمل على تشغيله في سبتمبر 2021، وينتهي عقد الإيجار في 2046. ويمثل هذا العقد طفرة قوية لتاريخ الموانئ الإسرائيلية، كونه يوطن تكنولوجيا صينية فائقة في مجالي الذكاء الاصطناعي والكمي، وربطها بإدارة الشحن والتفريغ والرسو، ومن المتوقع أن تصل حمولة الميناء سنويًا بواقع مليون طن من البضاعة العامة. وبما أن الميناء مخصص للحاويات فقط فذلك يعني تقليل إسرائيل للازدحام المروري في البحر وعدد ساعات عمل يصل إلى 24 ساعة بسبب الذكاء الاصطناعي، كما سيسمح بخفض الرسوم الجمركية.

متطلبات الدور الجيوسياسي للموانئ 

لا تُخفي الوثائق الرسمية وغير الرسمية في إسرائيل هدفها الاستراتيجي من أن تتحول إسرائيل إلى مركز إقليمي لتجارة السلع مع الأردن والعراق، وكذلك دول الخليج، وسمحت الاتفاقيات الابراهيمية مع دول البحرين والإمارات في دفع إسرائيل نحو هذا الطموح.

في وثيقة نشرها الكنيست الإسرائيلي في 2014 بعد تصديقه على مشاريع بناء موانئ جديدة لرفع عددها في إسرائيل من أربعة إلى ستة، ذكرت الوثيقة أن موقع ميناء الخليج الجديد في حيفا وميناء الجنوب الجديد في أشدود الاستراتيجيين، أن تستكمل إسرائيل بناء خطوط سكة حديد تربط موانئ إسرائيل بالضفة الغربية (السلطة الفلسطينية) والموانئ البرية في الأردن وبعدها مع السعودية وبقية دول الخليج (كما هو موضح في الصورة المنسوبة للاستراتيجية الشاملة لتطوير الموانئ الإسرائيلية عام 2009)، وهو ما يتقاطع مع الطموح الإسرائيلي بتنفيذ مشروع “السكك الحديدية من أجل السلام” الذي يربط إسرائيل بدول الخليج، وترغب إسرائيل في الترويج له وأن يصبح جزءًا من مبادرة الصين طريق الحرير، وهو ما يجري تحقيقه بشكل تدريجي منعكسًا في زيادة طلب الشركات الصينية الانخراط في مناقصات بناء الموانئ والسكك الحديدية.

أول محددات الجيوسياسة في الشرق الأوسط هو الممرات الملاحية وأمنها في المنطقة، وتحظى الطاقة الأحفورية وتجارة السلع بحضور مكثف في تلك الممرات التي تذهب وتجيء إلى السوق الأوروبية، إحدى أهم الأسواق الحاضرة في التجارة العالمية.

وتوضح الصورة ثلاثة مسارات نقل: الخط الأزرق هو ممر النقل البحري، والخط الأخضر هو ممر السكك الحديدية، والخط الأحمر هو ممر الطرق البرية. وتوضّح الصورة أن السكك الحديدية تمر من إسرائيل مرورًا بالأردن والعراق، ثم مسار آخر إلى السعودية انتهاء إلى الخليج العربي.

وعليه، يمكن القول إن الاعتبارات المساهمة في عملية ناجحة لدمج إسرائيل في المنطقة عبر محددات المعادلة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وهي الممرات الملاحية، لن يمكن لها التحقق بدون:

(1) تطوير ملائم ومنسق على أعلى مستوى بين موانئ إسرائيل المطلة على البحر المتوسط والبحر الأحمر.

(2) استكمال بناء الموانئ الجديدة وبالتحديد ميناء الجنوب في أشدود، كونه أكثر المواقع تميزًا استراتيجيًا في إسرائيل.

(3) ربط الموانئ الإسرائيلية بخطوط سكك حديدية متطورة مع دول الجوار الإقليمي.

(4) زيادة سعة حمولة السكك الحديدية الناقلة للبضائع لتحقيق جدوى اقتصادية عالية.

وتحتاج جميع هذه الاعتبارات:

(1) تنسيقًا سياسيًا مع دول الإقليم.

(2) وتنسيقًا في اللوائح الداخلية المنظمة لعمل الموانئ الإسرائيلية ومنع الاحتكار.

(3) ضخ استثمارات أجنبية هائلة تتناسب مع الإرادة السياسية الإسرائيلية والأمريكية معًا.

أزمة الاستثمارات في البنية التحتية الإسرائيلية

تواجه إسرائيل أزمة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إذ سبق الحديث عن أن إسرائيل فقدت ما يزيد على 50% من قيمة الاستثمارات بعد انسحاب المستثمرين الصينيين من المناقصات الحكومية في إسرائيل جراء الضغط الأمريكي. فعلى سبيل المثال، توقفت عملية البناء في ميناء الجنوب في أشدود بعد الانسحاب التدريجي لشركة تشاينا هاربو، وكذلك انسحاب الشركات الصينية من مشاريع تكنولوجيا الاتصالات مثل هواوي الصينية الشهر الماضي.

ولكن رغم ذلك تُثبت الدراسات والتقارير الرسمية الإسرائيلية أنه يُرجح فوز الشركات الصينية بالمناقصات الحكومية بسبب كونها الشركات الوحيدة تقريبًا التي تقدمت للمنافسة، وأن الشركات الخاسرة تفتقر للخبرة، بما فيها الشركات الإسرائيلية ذاتها، في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية مقارنة بالصينيين، ويقصد بالبنية التحتية هو البناء في مجالات الموانئ البحرية والبرية والسكك الحديدية.

وتُهيمن الشركات الصينية على عطاءات مشاريع بناء السكك الحديدية الخفيفة في إسرائيل، ونجحت في دمج الذكاء الاصطناعي في تشغيل الكثير من المشاريع، سواء السكك الحديدية أو الموانئ (ميناء الخليج في حيفا)، وهو ما تحتاجه إسرائيل بالضبط لربط الموانئ بالسكك الحديدية، ولولا الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة على إسرائيل والذي انعكس في تشكيل لجنة مراقبة الاستثمارات (الموجهة ضد الصين بالتحديد) لكانت سيطرت الصين على مشاريع السكك الحديدية الكبيرة، وهو ما يبعد إسرائيل عن تحقيق هدفها الاستراتيجي على مستوى الإقليم.

هناك محاولة متواضعة بعيدًا عن الهيمنة الصينية على مشاريع البنية التحتية الإسرائيلية وهي شراء مجموعة أداني الهندية، وشركة جادوت للكيماويات واللوجستيات المحلية، ميناء حيفا الحكومي (مقابل 4.1 مليار شيكل 1.18 مليار دولار). وتجدر الإشارة إلى أن مجموعة أداني الهندية هي شركة خاصة قريبة من حكومة ناريندرا مودي الهندية، ووصفت الشركة عملية الشراء بالخطوة المهمة على طريق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وخطوة لمنافسة الوجود الصيني في شرق المتوسط.

ويحرك الهند دافع استراتيجي هو وصول البضائع الهندية إلى السوق الأوروبية وسوق آسيا الوسطى من خلال موانئ الإمارات مرورًا بالخليج وانتهاء بالموانئ الإسرائيلية، إذ يمكن أن يكون الممر الخليجي-الإسرائيلي بديلًا عن الممر الإيراني الذي يمكن أن يكون سببًا في توتر العلاقات الهندية الخليجية، والعلاقات الهندية الإسرائيلية.

وتتحدد الجدوى السياسية لدمج إسرائيل في الإقليم من خلال هذه المحاولة الهندية الإسرائيلية الأخيرة في حيفا باعتبار حيوي وهو ربط الموانئ الإسرائيلية بشبكة سكك حديدية متقدمة إقليمية، إذا رغبت إسرائيل في أن تكون مركزًا إقليميًا للتجارة الخارجية.

ختامًا، يمكن القول إن إسرائيل لا تزال ستواجه أزمة في ضبط علاقاتها بين الولايات المتحدة من ناحية والصين من ناحية أخرى، خاصة وأن العلاقات الأمريكية الصينية ذاهبة إلى مربع غير إيجابي. ويُفسر ترتيب الزيارة الأمريكية إلى إسرائيل أولًا ثم إلى السعودية لحضور القمة الخليجية، مسعى أمريكي بامتياز لدمج إسرائيل في المنطقة، ولكن تبعه إرادة سياسية عربية بعدم قبول إسرائيل بدون تسوية للقضية الفلسطينية.

لذلك، يظل الدافع السياسي والاقتصادي من إعلان القدس معطلًا إذا لم تبحث الولايات المتحدة وسيلة لضخ استثمارات أجنبية في مشاريع البنية التحتية لتكون بديلًا عن الصين. مع العلم أن الشركات الإسرائيلية تفتقر للخبرة التنظيمية والفنية في مجال البنية التحتية.

ولكن في أكثر التقديرات تفاؤلًا فإن الولايات المتحدة نجحت في تعطيل الشراكة الصينية-الإسرائيلية في مجال حيوي هو المجال التكنولوجي في الذكاءين الاصطناعي والكمي على المستويين الأمني والعسكري فقط.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20330/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M