تشهد منطقة البحر الأحمر وخليج عدن توترات متصاعدة وعدم استقرار متزايد جراء هجمات الحوثيين الأخيرة على السفن البحرية، مما أفرز تهديدات أمنية لحركة الملاحة البحرية، والتجارة الدولية، وتعطيل سلاسل الإمداد والتوريد العالمية في هذا الممر البحري الحيوي، والارتدادات الخطرة على مصالح الدول المشاطئة والدول الإقليمية والدولية الأخرى. ضمن هذا السياق، أعلن الاتحاد الأوروبي عن إطلاق مهمة بحرية تُعرف بعملية “أسبيدس- Aspides” أو عملية “الدرع أو الحامي” في إقليم البحر الأحمر وخليج عدن، بمشاركة خمس دول أوروبية (فرنسا، واليونان، وإيطاليا، وألمانيا، وبلجيكا)، وستكون المهمة بقيادة اليونان وتحت إشراف الأدميرال اليوناني “فاسيليوس جريباريس” من مقره في مدينة لاريسا باليونان، من أجل تأمين حركة الشحن البحري، وحماية خطوط الملاحة البحرية وأصولها، وضمان أمن الطاقة الأوروبي، وصدّ هجمات الحوثيين. وتم تحديد 19 فبراير 2024 موعدًا لإطلاق هذه المهمة بميزانية 8 ملايين يورو، ومن المقرر أن تستمر لمدة عام، مع إمكانية تعديل الجدول الزمني إذا لزم الأمر.
أولًا- سياق مضطرب:
يُعتبر البحر الأحمر ساحة استراتيجية للعديد من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية على حد سواء، وهو بمثابة ممر مائي بالغ الأهمية للتجارة العالمية، ويُعدُّ طريق التجارة الرئيسي بين أوروبا وآسيا عبر قناة السويس، ويُمثل حوالي 12% من التجارة العالمية و40% من التجارة بين آسيا وأوروبا، مما جعل تعطيل طرق التجارة في هذه المنطقة تحديات كبيرة بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الأوروبية؛ إذ أثرت هجمات الحوثيين المتمثلة في الضربات الصاروخية والهجمات بطائرات بدون طيار على السفن التجارية في البحر الأحمر على العديد من السفن التي تملكها وتديرها شركات أوروبية مثل شركة “ميرسك” الدنماركية. وقد تسببت هذه الهجمات في تغيير مسار العديد من شركات الشحن التجارية وتجنب هذه المنطقة، لصالح طرق أطول وأكثر تكلفة ولكنها أكثر أمانًا نسبيًا حول القارة الأفريقية، مما زاد الوقت والتكلفة، وتباطؤ حركة التجارة الدولية.
وعلاوةً على ذلك، تداعيات هذه الهجمات على الجانب الغربي من البحر الأحمر وتحديدًا على مصر وجيبوتي والصومال، في ظل العديد من التوترات الإقليمية بعد توقيع الاتفاق المبدئي بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الانفصالي بشأن النفاذ إلى البحر الأحمر، وعودة نشاط القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية، وتفاقم الأوضاع الأمنية الهشّة في الصومال مع تنامي هجمات حركة الشباب الإرهابية. مما ينتج هذا المشهد الأمني المضطرب مساحة وفرصة تستغلها الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة وفي مقدمتها حركة الشباب في الصومال من أجل التمدد والسيطرة لمساحات أوسع على هذا الممر البحري.
كما تؤثر الاضطرابات الأمنية في البحر الأحمر على الاستقرار الإقليمي، في ظل التحالفات الوطيدة بين إيران وجماعة الحوثيين التي تقوم بتنفيذ أهداف طهران من خلال الحروب بالوكالة في المنطقة، مع مخاوف تكرار استخدام طهران ورقة التصعيد في جبهة البحر الأحمر، وتعزيز جماعة الحوثيين لشرعيتها ودورها على الساحة الدولية، وممارستها ضغوط شعبية على الدول العربية.
ثانيًا- مهام عملية “أسبيدس” وحدود التدخل الأوروبي في أزمة البحر الأحمر:
ظلت قضية حرية الملاحة البحرية من أولويات الاتحاد الأوروبي. ومع تزايد التنافس على محاور الممرات البحرية الأساسية، حدد الاتحاد الأوروبي شمال غرب المحيط الهندي باعتبارها منطقة بحرية ذات أهمية استراتيجية في عام 2022، بحيث يغطي محيطًا كبيرًا من مضيق هرمز إلى البحر الأحمر باتجاه المركز من المحيط الهندي، واستدعى ذلك تعزيز التنسيق البحري الأوروبي من خلال آلية “الوجود البحري المنسق” (CMP). وفي أواخر عام 2022، تم تمديد عملية “أتلانتا” التابعة للاتحاد الأوروبي حتى ديسمبر 2024 مع فرض تفويض جديد يعكس الإنجازات والتحديات في هذه العملية التي أُطلقت عام 2008، وتتلخص مهمتها الحالية في مكافحة القرصنة، ومكافحة تهريب المخدرات والأسلحة، وحماية شحنات برنامج الغذاء العالمي وغيرها من عمليات الشحن المعرضة للخطر، ومراقبة أنشطة الصيد في منطقة القرن الأفريقي وغرب المحيط الهندي.
وانطلاقًا من السابق، تتمثل مهام العملية الأوروبية الجديدة “أسبيدس” في الدفاع عن حرية الملاحة البحرية، وتعزيز سُبل الردع الاستراتيجي لهجمات جماعة الحوثيين، وحماية السفن الأوروبية من هذه الهجمات، ومن المقرر نشر سفن حربية وسفن إنذار مُبكر محمولة جوًا لحماية سفن الشحن التجارية في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، وذلك بشكل منفصل عن التحركات الأمريكية والبريطانية في إطار “تحالف حارس الازدهار” الذي يستهدف شن ضربات ضد مواقع الحوثيين في اليمن، مع تباين المواقف الأوروبية بشأن المشاركة في هذا التحالف بعد موقف فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بعدم المشاركة بشكل مباشر.
وفي ظل الاختلاف الكبير في قدرات الحوثيين في اليمن مقارنة بالقراصنة الصوماليين قبالة القرن الأفريقي، ستتميز العملية البحرية الجديدة بقدرات كبيرة في السفن الحربية، والدعم الاستخباراتي واللوجستي، والإنذار الجوي المبكر، والحماية السيبرانية، ودعم الأقمار الصناعية، والاتصالات الاستراتيجية لدعم حرب المعلومات، وفيما يتعلق بطبيعة الإمكانيات من كل دولة مشاركة في هذه العملية، تخطط ألمانيا لإرسال الفرقاطة “هيسن” (F -221)، التي تم تصميمها للدفاع الجوي، وهي مجهزة بأنظمة رادارات يمكنها اكتشاف الأهداف على مسافة تصل إلى 400 كم، وصواريخ متقدمة لإسقاط أهداف مثل الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار على مدى يزيد على 160 كم، ووافقت الحكومة الألمانية أيضًا على مشاركة قوات الجيش الألماني في العملية، وسيتضمن التفويض نشر 700 جندي حتى 28 فبراير 2025. كما وافقت بلجيكا على إرسال الفرقاطة “لويز ماري” (F-931)، ومن المقرر أن تنضم الفرقاطة اليونانية (HS Hydra)، وأكدت الحكومة الإيطالية أنها ستشارك في العملية بمدمرة الصواريخ الموجهة Caio Duilio (D554).
ثالثًا- تحديات مُتداخلة:
قد تُشكل قواعد الاشتباك وسياسة التنسيق صعوبات وتحديات أمام المهمة البحرية الجديدة، حيث ستدعم هذه المهمة سياسة خفض حدة التصعيد، وضمان حرية الملاحة بأدوات دفاعية، والنهج الحذر الذي يتبعه الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن لتخفيض نسبة التكاليف المحتملة، ومراعاة التوازن الدقيق بين تجنب التصعيد واستخدام القوة في حالة استهداف الحوثيين للسفن الحربية التابعة للمهمة الأوروبية الجديدة. كما سيتعين على المشاركين في هذه المهمة التنسيق والاتصال بالمهام البحرية الأوروبية الأخرى مثل عمليتي أتلانتا في القرن الأفريقي، وأجينور في مضيق هرمز، والمبادرات البحرية التي تقودها الولايات المتحدة من أجل تجنب الاصطدام والاشتباك في مهام ونطاق العمليات.
على هذا الأساس، يتم تنظيم عمل القوات البحرية المشتركة القائمة في فرق عمل عملياتية، ثلاث منها تركز على منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، وواحدة تركز على مكافحة القرصنة في القرن الأفريقي، حيث يعمل تحالف “حارس الازدهار” تحت قيادة قوة المهام المشتركة 153، والتي تتداخل رسميًا مع منطقة عمليات قوة المهام المشتركة 150. بالإضافة إلى ذلك، تقود الولايات المتحدة ما يسمى التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية (IMSC) جنبًا إلى جنب مع المملكة المتحدة لتعزيز ردع التهديدات الملاحية في مضيق هرمز، بالإضافة إلى تحديات استمرار تهديد جماعة الحوثيين، ومخاطر الألغام البحرية التي زرعتها والتي تنجرف نحو ممرات الشحن الدولية وتسببت في وقوع حوادث متعددة استهدفت السفن العابرة، في ظل استغلال إيران للحرب على قطاع غزة لتوسيع نطاق نفوذها إقليميًا من خلال تعزيزها محور المقاومة، وتقويض الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وكذلك تقييد مرور السفن التجارية الإسرائيلية، مع استمرار التصعيد الحوثي برغم الضربات الأمريكية والبريطانية.
حاصل ما تقدم، سلطت هجمات الحوثيين الأخيرة الضوء على هشاشة أمن البحر الأحمر، الذي أصبح نقطة ساخنة للمنافسة الجيوسياسية، وتزايد التوترات الإقليمية، مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومخاوف التصعيد الإقليمي، ويتطلب المشهد الحالي قدرًا كبيرًا من العمل لتنسيق المهمة الأوروبية الجديدة مع المبادرات القائمة وتجنب تعارضها، في ظل التمسك بمبدأ حرية الملاحة مع تجنب المزيد من تصعيد التوترات عن طريق ضمان الاستطلاع البحري، ومرافقة وحماية السفن التجارية من الهجمات المحتملة في هذه المنطقة.
المصدر : https://ecss.com.eg/43723/