الاختبار بالنَّار: أزمة البحر الأحمر ومستقبل حوكمة الأمن البحري في المنطقة

  • كشف التصعيد الراهن بمنطقة البحر الأحمر وخليج عدن أن آليات الأمن البحري وهياكله المتصلة بهذا الممر المائي الحيوي، لم تكن مُصمَّمة للتعامل مع تهديدات من الصنف الذي تمثله الهجمات الحوثية، التي ترتكز على إمكانات الدول وتستخدمها.
  • الفشل في التصدي لهجمات الحوثيين المستمرة ضد السفن العابرة قبالة اليمن ليس تقنياً مَرَدُّه عدم كفاية هياكل الأمن القائمة، بل يعكس إلى حد كبير فشلاً في إظهار الالتزام الدولي تجاه أمن الملاحة البحرية بشكل عام.
  • ما مِنْ مؤشر حتى الآن على أن مقاربة المجتمع الدولي وترتيباته الأمنية لاحتواء التصعيد في البحر الأحمر وخليج عدن ستنجح في المدى القريب، ولا على أنها قد تتغير في طبيعتها، أو أن الأمور ماضيةٌ باتجاه تشكل رؤية جماعية موحدة إزاء هذا التصعيد. 
  • من المهم إثارة حوار دولي واسع حول أمن الممرات البحرية، وضرورة تجنيبها الاستهداف خلال النزاعات المسلحة، أو تحويلها إلى ورقة مقايضة سياسية، وتقنين ذلك من خلال معاهدة أو اتفاقية دولية تتولى تدبيرها الهياكل المتخصصة التابعة للأمم المتحدة. 

 

شهد البحر الأحمر وخليج عدن في العقدين الماضيين زيادة ملحوظة في الأنشطة الضارة بالأمن البحري، مثل تهريب الأسلحة والقرصنة، لكن التصعيد العسكري الراهن الذي بدأ بشن جماعة “أنصار الله” الحوثية هجمات على السفن التجارية المارة قبالة سواحل اليمن، هو التهديد الأخطر الذي يتعرض له هذا الممر البحري الدولي الحيوي منذ نهاية الحرب الباردة، ويُمثَّل اختباراً مهماً لهياكل الأمن البحري القائمة، وكذلك لالتزام المجتمع الدولي تجاه حرية الملاحة والتدفق الآمن للتجارة العالمية، وما فتئ يُثير التساؤلات حول مستقبل الحوكمة البحرية في المنطقة.

 

هياكل الأمن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن 

عرفت منطقة حوض البحر الأحمر وخليج عدن خلال العقود الماضية إطلاق العديد من المبادرات للتعاون بشأن الأمن البحري، وكان بعضها جريئاً، من قبيل تلك التي تبناها قادة القوات البحرية لدول الخليج والدول المطلة على البحر الأحمر في عام 2009 لإنشاء قوة بحرية عربية تتولى حماية الممر. لكن على الرغم من كثرة المبادرات والمشاريع، فإن دول المنطقة لم تنجح، حتى الآن، في تأسيس آلية إقليمية فاعلة أو مستدامة للتعاون، عدا عن تشكيل هيكل أمني أو آلية عسكرية للردع. إن “مجلس الدول العربية والأفريقية المُطلّة على البحر الأحمر وخليج عدن” الذي أعلن عن تأسيسه مطلع عام 2020، ويضم ثماني دول: مصر والسعودية والأردن وجيبوتي والسودان واليمن والصومال، هو آخر تلك المبادرات. ووفقاً لميثاقه، تشمل أهداف المجلس توثيق التعاون الأمني بين الدول الأعضاء للحد من المخاطر التي يتعرض لها البحر الأحمر وخليج عدن، ومنع كل ما يهدد أمن وسلامة الملاحة الدولية أو يعرضها للخطر، لاسيما جرائم الإرهاب وتمويله والقرصنة والتهريب والجريمة العابرة للحدود والهجرة غير الشرعية. وعلى الرغم من مضي عامين على تأسيسه لم يقطع المجلس شوطاً مهماً باتجاه التحول إلى كيان فاعل أو القيام بتشكيل أي آلية لحماية الملاحة ومنع التهديدات الواقعة عليها.

 

وقد وقفت قائمة طويلة من العوامل خلف الفشل في تأسيس مقاربة إقليمية فاعلة ومستدامة للأمن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن، ولا تزال تُحبِط محاولات التعاون الإقليمي ذات الصلة، وتشمل: المنافسات الجيوسياسية؛ وتباين المصالح والأولويات الوطنية؛ والعداوات وانعدام الثقة؛ وضعف القدرات العسكرية والاقتصادية وتباينها. هذه العوامل، بشكل أساسي، جعلت دول الإقليم تصطف بشكل مختلف حول مسائل الأمن، وعززت وجود تعريفات مختلفة للأمن البحري وتهديداته، وتفضيل معظم الدول اتباع نهج ثنائي على التعاون والمشاركة. إن التناقض بين المستوى العالي للوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، والمستويات المنخفضة نسبياً للتعاون الإقليمي، يشيران إلى الاعتماد المفرط على القوى الخارجية في تأمين ممرات الملاحة الدولية.

 

وفي مقابل غياب نهج أو آلية إقليمية فاعلة للأمن البحري، ظهرت ترتيبات ومبادرات وهياكل أمنية دولية عديدة تعتمد النهج التشاركي المتعدد الأطراف، وتعمل ضمن تفاعل مُعقَّد بين السيادات الوطنية، والقوانين الدولية، والاتفاقيات التعاونية، وتتمحور أهدافها حول تعزيز أمن الملاحة وحريتها، ومكافحة القرصنة، ومراقبة الأنشطة غير المشروعة في منطقة البحر الأحمر والمسطحات المائية المجاورة، وتُنفِّذ مزيجاً من الأنشطة والتدابير والإجراءات تشمل تبادل المعلومات الاستخبارية، وبناء القدرات، والتدريبات البحرية المشتركة. وقد توسعت أدوارها لتشمل تدابير المراقبة والردع لاستباق التهديدات المحتملة، وبرزت الدوريات البحرية المشتركة بوصفها استراتيجية مهمة في هذا السياق. ومن أبرز هذه الترتيبات، الآتي:

 

1. القوة البحرية المشتركة (CMF)، وهي شراكة بحرية متعدد الجنسيات تأسست عام 2002، وتضم اليوم 41 دولة، تهدف إلى دعم النظام الدولي القائم على القواعد (RBIO) من خلال مكافحة الجهات الفاعلة غير المشروعة من غير الدول في أعالي البحار وتعزيز الأمن والاستقرار. وتتكون هذه القوة من خمسة فرق عمل مشتركة: قوة الواجب المختلطة 153 (CTF 153)، وهي فرقة عمل متخصصة بأمن البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، وهي الأحدث إذ أعلن عن تشكيلها في منتصف أبريل 2022، وتضم في عضويتها 15 دولة؛ وقوة الواجب المختلطة 150 (CTF 150)، وهي فرقة عمل مختصة بعمليات الأمن البحري خارج الخليج العربي؛ وقوة الواجب المختلطة 151 (CTF 151) وهي فرقة عمل مختصة بمكافحة القرصنة؛ وقوة الواجب المختلطة 152 (CTF 152) المتخصصة بعمليات الأمن البحري داخل الخليج العربي؛ وقوة الواجب المختلطة 154 (CTF 154) المختصة بتدريب الأمن البحري.

 

2. عملية أتالانتا (ATALANTA)، تتبع القوة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي في الصومال (EUNAVFOR)، انطلقت عام 2008 بهدف المساهمة في الأمن البحري في شمال غرب المحيط الهندي، وتُركِّز على مُكافحة القرصنة والسطو المسلح والتهريب وتعطيل التدفقات البحرية غير المشروعة والردع.

 

3. مهمة الوعي البحري الأوروبية في مضيق هرمز “إيماسوه” (EMASoH)، وهي مبادرة أوروبية تأسست عام 2019 بهدف تعزيز حرية الملاحة، من خلال التركيز على خفض التصعيد، ونزع فتيل التوترات، وتوفير قدرات مراقبة محسّنة في منطقة الخليج، ومضيق هرمز، وخليج عمان، وبحر العرب. تتكون من مسارين، الأول سياسي/دبلوماسي، والثاني عسكري يتمثل في عملية أجينور (AGENOR) التي أطلقت في عام 2020.

 

من جهة أخرى، يُشكِّل التزام المجتمع الدولي عموماً بأمن الملاحة “آلية ضمنية” للأمن البحري إن صح التعبير، وهذا الالتزام القائم على المصالح بطبيعة الحال من المُفترَض أن يؤدي دوراً فاعلاً في مواجهة التهديدات التي تواجه الملاحة الدولية في الممرات المائية الحيوية، بما فيها البحر الأحمر. ويوجد في منطقة حوض البحر الأحمر وخليج عدن أكبر عدد من القواعد العسكرية الخاصة بالقوى الدولية والإقليمية، وحماية مصالح هذه القوى في هذه المنطقة الحساسة على رأس ما دعاها لإنشاء هذه القواعد التي يفترض أن حماية الملاحة البحرية تقع ضمن اهتماماتها.

 

التفاعل الدولي مع التصعيد في البحر الأحمر ونتائجه 

أظهر التصعيد في البحر الأحمر وخليج عدن إخفاقاً مُركَّباً للآليات والهياكل الأمنية المعنية بالأمن البحري في المنطقة، فقد فشلت في التنبؤ بالتهديد الذي يمثله الحوثيون في اليمن، وحلفاؤهم الإيرانيون، على خطوط الملاحة، ومن ثمّ فشلت في اتخاذ خطوات استباقية لمنع هذا التهديد. وعليه، فقد جرى تشكيل هياكل جديدة ومؤقتة للتصدي له، إذ أعلنت الولايات المتحدة وعشرون دولة أخرى في ديسمبر الماضي عن تشكيل تحالف عسكري متعدد الجنسيات لمواجهة هجمات الحوثيين أطلقت عليه “عملية حارس الازدهار” (Operation Prosperity Guardian)، وذلك تحت مظلة القوات البحرية المشتركة وقيادة فرقة المهام المشتركة (CTF-153). من جهته، شكَّل الاتحاد الأوروبي عملية “آسبيدس” (Aspides)، بوصفها مهمة مفتوحة للدول الأوروبية والإقليمية تتركز مهمتها في مُرافقة السفن التجارية، مع امتلاكها تفويضاً دفاعياً. وبدأت هذه المهمة عملها فعلياً في 19 فبراير الجاري. وتصرفت بعض الدول على نحو منفرد وأرسلت قطعاً حربية إلى المنطقة، كما فعلت الهند التي نشرت ما لا يقل عن 12 سفينة حربية قرب جنوب البحر الأحمر، قالت إنها لتوفير الحماية من القراصنة الذين يحاولون استغلال التصعيد في البحر الأحمر، من أجل تكثيف هجماتهم على السفن والناقلات العابرة في خليج عدن وبحر العرب.

 

ومع أن تحالف “حارس الازدهار” بدأ عملياته العسكرية التي تستهدف قدرات جماعة الحوثي الهجومية، في 12 يناير الماضي، لإجبارها على وقف هجماتها في البحر الأحمر وخليج عدن، إلا أنه بعد مضي أربعين يوماً تقريباً لم يُحقق هذا الجهد العسكري نجاحاً في ردعها، إذ لا تزال هجمات الحوثيين مستمرة، بل وأخذت بالتصاعد مؤخراً في شكل ملحوظ. وبطبيعة الحال ما كان يمكن توقع نتيجة مختلفة بالنظر إلى التفويض العملياتي الضيق النطاق، إذ جاءت عمليات التحالف ضمن قواعد “الاشتباك المحدود”، دون استهداف البنية التحتية العملياتية المهمة أو مراكز القيادة والسيطرة، واقتصرت على التصدي للمقذوفات والطائرات الحوثية المسيرة، وإسقاطها، والقيام بعمليات وقائية محدودة. وكررت الولايات المتحدة التأكيد على الطبيعة المحدودة لهذه العمليات، مُشددةً على أنها لا تريد الدخول في حرب أو مواجهة عسكرية أوسع مع الحوثيين. وقد طرح الأوروبيون من جهتهم سقفاً عملياتياً أقل بكثير، إذ أعلنوا اقتصار هدف مهمتهم على مرافقة السفن دون القيام بأي عمليات هجومية. ومن غير المتوقع أن ينجح المسار العسكري في معالجة أزمة البحر الأحمر مع بقاء هذا التفويض المحدود.

 

وإلى جانب المقاربة العسكرية، ثمة اشتغال على مسار سياسي يشمل المساعي الدبلوماسية، وممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على الحوثيين وإيران. ويسعى الأوروبيون، من خلال دبلوماسيتهم النشطة، إلى التوصل إلى آلية لفض الاشتباك بمشاركة دول المنطقة. غير أن هذا المسار لم يحقق أي إنجاز معلن حتى اللحظة. وإذا ظلت المعطيات والمواقف الراهنة على حالها فإن أبعد ما قد تحققه الضغوط العسكرية المسنودة بهذه الجهود السياسية هو فرض قواعد اشتباك تحافظ على التصعيد عند حدوده الدنيا.

 

التناقض بين المستوى العالي للوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، والمستويات المنخفضة نسبياً للتعاون الإقليمي، يُشيران إلى الاعتماد المفرط على القوى الخارجية في تأمين ممرات الملاحة الدولية (AFP)

 

ومما صعَّب جهود إدارة الأزمة، أن المجتمع الدولي عموماً لم يخرج بموقف موحد أو متماسك تجاه التصعيد القائم في البحر الأحمر، وأظهرت المواقف انقساماً مركباً حول ما يقوم به الحوثيون؛ فبينما غضَّت قوى مثل روسيا والصين الطرف عنه، وربطته بالحرب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، على نحوٍ يتوافق مع السردية الحوثية نفسها، بل إنهما بدتا كمَنْ يعمل على استغلال الأزمة للحصول على بعض المكاسب والامتيازات الآنية، من قبيل ضمان المرور الآمن لسفنهما؛ فإن معظم القوى الغربية، في المقابل، شجبت التصعيد الحوثي وتحركت لمواجهة تداعياته، مع ملاحظة أن هناك تفاوتاً واضحاً في طبيعة هذا التحرك وزخمه؛ فبينما أظهرت دول مثل الولايات المتحدة وشركائها في تحالف “حارس الازدهار”، حماساً وكانت أكثر مبادرة للقيام بعمل قوي لوقف هجمات الحوثيين ضد السفن، بدا بعضها الآخر أكثر حذراً وبطيئاً في حركته، ويندرج تحت هذا الاتجاه أغلب دول الاتحاد الأوروبي. وتبايَن الفريقان أيضاً في النهج الذي يفضلانه؛ فبينما يراهن الأول على تقويض القدرات العسكرية للحوثيين، يُفضِّل الثاني التركيز على التخفيف من تداعيات الهجمات الحوثية. والظاهِر أن العديد من الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، تتوخى الحذر بشأن وضع نفسها تحت سيطرة القوات العسكرية الأمريكية، كما أن المواقف المتنوعة داخل الاتحاد الأوروبي (بسبب تنوع الأنظمة السياسية والاستراتيجيات الدبلوماسية لدوله)، تؤكد تعقيدات تشكيل سياسة خارجية غربية متماسكة في الشرق الأوسط.

 

وفي المحصلة، يَعكِس فشل “تحالف الازدهار” في تأمين إجماع دولي حوله، أحد مظاهر الانقسام في المواقف الدولية بشأن أزمة البحر الأحمر، إذ لم تؤيده أو تلتحق به أغلب دول المنطقة التي بدت أقرب، في مواقفها، إلى مجموعة الدول التي فضلت البقاء بعيداً والنأي بنفسها والاكتفاء بإبداء القلق من التصعيد الحاصل.

 

وما من مؤشر حتى الآن على أن مقاربة المجتمع الدولي وترتيباته الأمنية لاحتواء التصعيد الحوثي في البحر الأحمر وخليج عدن قد تنجح في المدى القريب، ولا على أنها قد تتغير في طبيعتها. كما لا يوجد دليل على أن الأمور تمضي باتجاه تشكل رؤية جماعية موحدة حول هذا التصعيد، حتى أن هناك خلافاً بين كل من الاتحاد الأوروبي وواشنطن وحلفائها حول إمكانية تحول العمليات العسكرية في البحر الأحمر من دفاعية إلى هجومية، من أجل تقويض قدرات الحوثيين على مواصلة تصعيدهم. ومع ذلك، لا يُستبعَد أن يتغير هذا الوضع، وأن يذهب المجتمع الدولي إلى تبنّي موقف أكثر تماسكاً ووحدة وصرامة في حال استهدف الحوثيون عدداً أكبر من السفن المملوكة لدول لا علاقة لها بالصراع، أو في حال ألحقت هجماتهم أضراراً أشد خطورة بالملاحة الدولية، كأن تتسبب بإغلاق مضيق باب المندب، أو في حال نتج عن هجماتهم سقوط ضحايا، أو أدت إلى إغراق سفن حربية.

 

دلالات الاستجابة المحدودة 

إن أهمَّ ما يكشفه التصعيد البحري القائم، والفشلُ في عدم توقع هجمات الحوثيين وفي استباقها وردعها، يتمثَّل في أن آليات الأمن البحري وهياكله المتصلة بمنطقة البحر الأحمر وخليج عدن لم تكن مُصمَّمة للتعامل مع تهديدات من الصنف الذي تمثله الهجمات الحوثية التي ترتكز على إمكانات الدول وتستخدمها، وإنما كانت محصورة بالتعامل مع التهديدات الهجينة وغير المتماثلة كالقرصنة والتهريب وأنشطة التنظيمات الإجرامية التقليدية. ويكشف هذا الأمر أن تلك الآليات والهياكل والمبادرات غير متوافقة مع الديناميكيات المتغيرة في المنطقة، وتفتقر إلى خطة فعَّالة للتعامل مع الأزمات الأوسع نطاقاً. كما يشير إلى وجود تناقض بين تصميمها النظري وفعاليتها العملية، وأن هناك فجوة بين أهدافها المعلنة والحقائق التكتيكية على الأرض، وأن الخليط القائم من الاستراتيجيات والديناميكيات التشاركية يَعوزهُ التماسك والتجانس، والقدرة على العمل بشكل موحد أو تكاملي. ومن الواضح، مثلاً، أن تشكيل مبادرات أمنية جديدة في ظل وجود القوة البحرية المشتركة (CMF)  لا يعود فقط إلى أسباب تقنية تتعلق بتواضع ترسانتها البحرية، وبحدود مهمتها التي تركز على مواجهة تهديدات اقل أهمية مثل القرصنة والتهريب، وإنما يعكس وجود خلافات داخل هذا المكون الأمني والعسكري الفضفاض، وعدم رغبة بعض أعضائه في التصعيد.

 

وهذا يعني أن الفشل في التصدي لهجمات الحوثيين ليس تقنياً مَرَدُّه عدم كفاية هياكل الأمن القائمة، بل يعكس إلى حد كبير فشلاً في إظهار الالتزام الدولي تجاه أمن الملاحة البحرية، وهو ما تبدا في غياب ردة فعل موحدة للمجتمع الدولي إزاء مسألة فائقة الحساسية مثل حرية العبور في الممرات المائية وفق المبادئ المنصوص عليها في قانون البحار والتشريعات الدولية ذات الصلة، وهو واقعٌ يشير إلى وجود انفصال بين الأجندات الأمنية لمختلف الدول والإطار العام للأمن الجماعي، كما يعكس نسبية مفهوم الأمن والتوجه نحو موائمته مع الموقف التنافسي للدول، وتحديداً الكبرى منها.

 

ليس هذا كل شيء، فطبيعة التصعيد والمخاطر المحتملة للوقوف في مواجهته لا تزال قادرة على المساهمة في تفسير ما يحدث في البحر الأحمر، إذ إن ارتباط هجمات الحوثيين بتوتر إقليمي ووضع جيوسياسي معقد أثار المخاوف من تحول المواجهة مع الحوثيين إلى صراع إقليمي أوسع نطاقاً، ومن تأثيرها على عملية السلام الهشة في اليمن. كما أن ارتباطها بقضية إقليمية حساسة كالقضية الفلسطينية، بما لها من بُعْد عاطفي لدى مجتمعات المنطقة وشعوبها، والمعارضة الإقليمية الواسعة للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وَضَعَ دول المنطقة وحكوماتها في موقف حساس، ودفعها لتجنُّب التورّط في أزمة البحر الأحمر، والنأي بنفسها عن أي تحالفات دولية آنية تستهدف تأمين الملاحة في هذا الممر، رغم أن بعضها تضرَّر بشدة نتيجة التصعيد القائم (مصر مثلاً). وقد زاد من هذا الحذر اهتزازُ ثقة معظم دول المنطقة بالولايات المتحدة والغرب، وإدراكها محدودية ما يمكن أن تقوم به واشنطن ولندن في إطار المواجهة مع الحوثيين، ومن خلفهم إيران ومحورها الإقليمي. بل إن بعضها رأى في هجمات الحوثيين “غوثاً للفلسطينيين”، وبمثابة رد على التحيز الذي أبدته الدول الغربية إلى جانب إسرائيل.

 

الحاجة إلى مقاربة جديدة للأمن البحري

مع تكشُّف التداعيات المرحلية الضخمة، والمتعددة المستويات، للتصعيد الراهن في البحر الأحمر وخليج عدن وتفاعلاته، بما فيها تبيُّن عجز هياكل الأمن البحري وآلياته في المنطقة وفشل ما هو قائم منها، والاتجاه المتنامي لتسييس قضية الأمن البحري، من قبل ما يسمى “محور المقاومة”، الذي أخذ يربط مواقف القوى المنضوية تحته باتجاهات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وآفاق تسويته المتعثرة، أصبح بالإمكان القول إن البحر الأحمر والممرات المائية المتاخمة في المنطقة باتت مُعرَّضة للخطر أكثر من أي وقتٍ مضى، وأن التهديدات الراهنة للأمن البحري قد تتخذ طابعاً مُستداماً، وربما تُحفِّز تهديدات مماثلة لأسباب أخرى، فمثلاً قد يجد العالم نفسه أمام صراع مفاجئ في القرن الأفريقي، يُلقي بظلاله على أمن الملاحة الدولية، بسبب التوتر الناشئ بين الصومال وإثيوبيا على خلفية الاتفاق البحري الذي وقعته الأخيرة مع أرض الصومال. كما أن ظهور تهديدات جديدة عابرة للحدود الوطنية، مثل تغيُّر المناخ، سيضيف إلى عوامل الاضطراب القائمة؛ وكل هذه أوضاع وقضايا لا تبدو حلولها جاهزة في الوقت الراهن.

 

هكذا، فإن التصعيد في البحر الأحمر، بما يشكله وينتج عنه من تهديدات وتداعيات مختلطة، وبما يكشف عنه من أوجه قصور وفجوات في مقاربات الأمن البحري الإقليمي وهياكلها، يضع معادلة الأمن القائمة في المنطقة على عتبة إعادة التشكُّل. وهناك خياران نظريان يمكن التحرك في أحدهما لمعالجة هذا الوضع؛ إما تطوير الهياكل القائمة وتوسيعها، أو العمل على تشكيل هياكل أمنية جديدة، تلبي احتياجات دول المنطقة الأمنية وتحمي مصالح العالم في التدفق الآمن للتجارة في الوقت نفسه.

 

وفي كل الأحوال، وأياً يكن الخيار الذي قد تلجأ إليه القوى الإقليمية والدولية الفاعلة للتعاطي مع أزمة التصعيد في البحر الأحمر، يتعيَّن أن يتوفر في أي مبادرة أو شراكة مطلوبة وقادرة على تلبية احتياجات الأمن البحري في المنطقة ومواجهة تحدياته بكفاءة واستدامة، مجموعة المقومات الآتية:

 

  • امتلاك مفهوم شامل للأمن بأبعاده المختلفة؛ السياسية، والاقتصادية، والجغرافية، .. إلخ. إلى جانب امتلاك تعريف واضح ومتوافق عليه لمفهوم الخطر والتهديد البحري، والحصول على تفويض صريح باستخدام القوة في الحالات المحددة، وبما يراعي القوانين الدولية.
  • القدرة على مواجهة مختلف أنواع التهديدات، بما في ذلك التهديدات الهجينة وغير المتماثلة المرتبطة بالجهات الفاعلة من غير الدول، والتهديدات المرتبطة بصراعات الدول والصادرة عنها.
  • القدرة على التكيف مع المشهد المتطور للتهديدات البحرية، ومع المستجدات الأمنية في المنطقة والسياسات الدولية المتغيرة.
  • وجود آلية عملية لحل النزاعات وخفض التوترات، وقادرة على التنبؤ بالتهديدات والتعامل معها بشكل استباقي.
  • ضمان مواءمة الالتزامات المالية والأمنية مع المصالح والامتيازات والأوضاع الاقتصادية والتكنولوجية للدول المنخرطة؛ فالافتقار إلى موائمة كهذه يهدد فاعلية أي مبادرة، ويَحِدُّ من نطاقها التشغيلي. كما أن الجمع بين قدرات الدول المتقدمة وممكنات دول الإقليم سيخلق نوعاً من التكامل.
  • أن تكون شمولية في طابعها قدر الإمكان، بحيث تضم كل أو معظم الفاعلين أو أصحاب المصلحة من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي. فطبيعة التهديدات تفرض الحاجة إلى مبادرة متعددة الأطراف، أما بناء نهج تشاركي إقليمي مستقل فإنه ليس فقط غير كاف، ولكنه أيضاً مستبعد بالنظر إلى بقاء نفس العوامل التي أفشلت مبادرات التعاون في الماضي. ومن جهة أخرى، لم يعد الأمن البحري في هذه المنطقة الحساسة عموماً مسألة تخص الدول المشاطئة، ولا دول الإقليم فقط، وإنما العالم بأسره. حتى أن أهمية المنطقة في الاستراتيجيات البحرية للقوى الدولية زادت مؤخراً؛ فأمن أوروبا -مثلاً- أصبح مرتبطاً باستقرار المنطقة بسبب الحرب في أوكرانيا. وعدا ذلك، من الصعب تجاوز القوى الدولية التي يشكل حضورها وأدوارها متغيراً مهماً في حسابات مختلف الفاعلين الإقليميين. لكن الدول المشاطئة ودول الخليج العربية تبقى معنية أكثر من غيرها بالعمل والدفع من أجل التوصل إلى مبادرة أو آلية جديدة للأمن البحري، وسيكون عليها في نفس الوقت تحليل النجاحات والإخفاقات التاريخية للتعاون الأمني الإقليمي، إذ إن ذلك سيوفر لها دروساً قيمة يُمكِن استخدامها في تشكيل استراتيجيات مستقبلية.

 

وإذا أخذنا في الاعتبار التنافسات الجيوسياسية وتَعارُض المصالح المتوقَّع، فإن التوافق على مبادرة دولية كهذه، وتتوافر فيها كل هذه المقومات مُجتمعةً، لن يكون مهمة سهلة، إذ سيتوجب التعامل مع اعتبارات ومصالح متعارضة عديدة، والتوفيق بينها باستمرار. ولعل البدء في إثارة حوار دولي واسع حول أمن الممرات البحرية، وضرورة تجنُّب استهدافها خلال النزاعات المسلحة، أو تحويلها إلى ورقة للمقايضة السياسية، وتقنين ذلك من خلال معاهدة أو اتفاقية دولية تتولى تدبيرها الهياكل المتخصصة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، قد يكون بداية مُشجِّعَة في هذا الاتجاه.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/azmat-albahr-alahmar-wamustaqbal-hawkamat-al-amn-albahri-fi-almintaqa

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M