منذُ إعلان حركة طالبان باكستان، في 28 نوفمبر 2022، عن إلغاء العمل بوقف إطلاق النار مع الحكومة الباكستانية، اتجهت كافة الأنظار إلى باكستان بعد إصدار الحركة أوامرها لمقاتليها بشن هجمات دامية في شتى أنحاء البلاد؛ وهو ما عُدّ مؤشرًا على أن باكستان ستصبح خلال العام 2023 على موعد مع سيناريو التصاعد الملحوظ في أعمال العنف المرتبطة بتنامي نشاط حركة طالبان باكستان، مُستغلة انشغال حكومة إسلام أباد في مجابهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي عصفت بالبلاد خلال العام المُنصرم ولا تزال مستمرة حتى الآن. وقد رُجحت كفّة هذا السيناريو بالفعل مع قيام عناصر الحركة بتكثيف هجماتهم التي استهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة في إقليمي خيبر باختونخوا وبلوشستان والمناطق الحدودية المتاخمة لأفغانستان، وكان من أحدث هذه الهجمات قيام مسلحي الحركة في 17 فبراير الماضي بشن هجوم استهدف مقر شرطة كراتشي الباكستانية مما أسفر عن سقوط 4 أشخاص على الأقل وإصابة آخرين معظمهم من رجال الشرطة.
وقد سبق هذا الهجومَ هجوم انتحاري آخر صُنف كإحدى أكثر الهجمات دموية في باكستان منذ سنوات، واستهدف مسجدًا للشرطة في مدينة بيشاور مما أودى بحياة نحو 100 شخص، وأصيب ما لا يقل عن 170 آخرين، وعلى الفور وُجهت الاتهامات إلى حركة طالبان باكستان بمسئوليتها عن الهجوم. ورغم إعلان سربكاف مهمند أحد قادة الحركة مسئوليتها عن الهجوم، نفى الناطق باسمها محمد خراساني قيامها بالتفجير، موضحًا أن استهداف المساجد والمدارس والأماكن الدينية ليس من سياسات الحركة. وبعيدًا عن صحة أو نفي مسئولية طالبان باكستان عن تنفيذ هذا الهجوم، يتبين من المعطيات الراهنة أن ثمة تهديدات أمنية متصاعدة من شأنها تقويض قدرة حكومة إسلام أباد على إرساء معادلة أمنية مستقرة في باكستان، وذلك في ضوء تنامي هجمات المسلحين على الجغرافيا الباكستانية، فبلغة الأرقام ارتفعت معدلات العنف التي شهدتها باكستان منذ مطلع العام الجاري ارتباطًا بتنامي الجماعات المسلحة في البلاد، وفي مقدمتها حركة طالبان باكستان، فوفقًا للمعهد الباكستاني لدراسات الصراع والأمن ومقرة إسلام أباد نفذ المسلحون نحو 58 هجومًا خلال شهر فبراير 2023 فقط، بزيادة قدرها 32% مقارنة بشهر يناير لنفس العام. وفي السياق ذاته، أفاد المعهد الباكستاني لدراسات السلام بأن عدد الهجمات الإرهابية التي شهدتها باكستان خلال عام 2022 زادت بنسبة 27% مقارنة بالعام 2021.
تصاعد ملحوظ
على إثر انهيار اتفاقات وقف إطلاق النار التي لطالما وُصفت بـ”الهشاشة” بين الحكومة الباكستانية وحركة طالبان باكستان في نوفمبر الفائت، تصاعدت هجمات الأخيرة ضد قوات الأمن الباكستانية؛ فوفقًا لتقرير مركز البحوث والدراسات الأمنية الباكستاني (CRSS) نفذت الحركة أكثر من 20 هجومًا في شهر ديسمبر وحده في إقليمي خيبر بختونخوا وبلوشستان، كان من أبرزها قيام عناصر الحركة في 18 ديسمبر الماضي باحتجاز عدد من رجال الشرطة في مركز تابع لإدارة مكافحة الإرهاب في منطقة بانو شمال غرب البلاد. كما تصاعدت هجمات الحركة خلال شهري يناير وفبراير الفائتين؛ حيثُ أكدت طالبان باكستان في بيان لها تنفيذها لـ 29 عملية مسلحة ضد الجيش وقوات الأمن الباكستانية في مختلف مناطق البلاد خلال فبراير الماضي، مشيرة إلى أن أنها أدت إلى سقوط وإصابة 127 من عناصر الأمن وتدمير خمس من دوريات الجيش، ودورية للشرطة، علاوة على تخريب ثلاثة مبان للشرطة الباكستانية، ونُفذت معظم تلك العمليات في المناطق القبلية ومناطق الشمال الغربي المحاذية لها.
ويتبين من طبيعة المُستهدفين من الهجمات الأخيرة لحركة طالبان باكستان أن قوات الشرطة تحملت العبء الأكبر سواء من الخسائر البشرية التي تكبدتها جراء الهجمات الدامية التي نفذتها الحركة ضدها، أو انخفاض الروح المعنوية بين صفوفها نتيجة التهديدات المستمرة للحركة بمواصلة استهداف كبار ضباط الشرطة إذا لم تتوقف عن التعاون مع قوات الجيش في محاربة الحركة. وهو ما دفع العشرات من ضباط الشرطة في بيشاور إلى الاحتجاج في مطلع فبراير الماضي، مطالبين الحكومة ببذل المزيد لضمان أمنهم، وإمدادهم بالمعدات اللازمة لمحاربة الإرهابيين. وكان من اللافت أيضًا أن الحركة تحاول على المستوى الدعائي الترويج لقدرة عناصرها على توجيه الضربات خارج نطاق نفوذها الحالية وصولًا إلى العاصمة إسلام آباد؛ وهو ما يتبدى جليًا في مقطع فيديو نشرته الحركة عبر منصاتها الإعلامية، يظهر فيه أحد عناصرها من تلال مارجالا على بعد بضعة كيلو مترات من العاصمة إسلام آباد، وباستخدام الكاميرا يقوم الشخص بتسليط الضوء على البرلمان الباكستاني وفي يده ورقة مكتوب عليها (نحن قادمون)، وهو ما يؤشر إلى أن بوصلة نشاط الحركة على المستوى الجغرافي تتجه بقوة تجاه العاصمة، خصوصًا بعد أن عادت طالبان باكستان في ديسمبر الماضي إلى تبني هجمات انتحارية في إسلام أباد مجددًا بعد أن كانت العاصمة بعيدة إلى حد ما منذ سنوات عن سلسلة الهجمات التي تشنها الحركة في المناطق الحدودية مع أفغانستان.
مُحفزات عديدة
ثمة مجموعة من العوامل التي تمثل محفزًا لحركة طالبان باكستان لتصعيد هجماتها على الجغرافيا الباكستانية، يمكن تسليط الضوء على أبرزها فيما يلي:
• تزايد مكامن قوة الحركة: تعكس حالة العنف الشديدة التي تشنها حركة الباكستانية مؤخرًا في باكستان، تزايد عناصر قوتها ماديًا ومعنويًا، وهو ما انعكس أيضًا في إلغاء العمل بوقف إطلاق النار -الأحادي الجانب- من قبل الحركة في نوفمبر الماضي، وإصرارها على مطالبها في المفاوضات مع الحكومة التي باءت نُسخها المتكررة بالفشل، إلى جانب نجاح الحركة في تعزيز الفعالية التكتيكية لعملياتها الحركية، وتوسيع كادرها من المقاتلين المُدربين، والأسلحة، والمعدات التي فاقت قدرات قوات الشرطة في بعض المناطق. ويمكن إيعاز تنامي عناصر قوة الحركة إلى جملة من العوامل:
الأول، قيام الحركة بتعزيز مكونها البشري عبر ضم عدد من المجموعات المتشددة المعارضة للحكومة الباكستانية، بينها ثلاث مجموعات باكستانية تابعة لتنظيم القاعدة، وأربعة فصائل رئيسة كانت قد انفصلت عن طالبان باكستان في عام 2014. وإعمالًا لمبدأ “عدو عدوي صديقي” الرائج بين التنظيمات الإرهابية توطدت العلاقة بين طالبان باكستان، والحزب الإسلامي التركستاني، وحركة تركستان الشرقية الإسلامية؛ إذ قامت الأخيرة بتزويد الأولى بالمعلومات والأجهزة والمتفجرات مقابل تعهد حركة طالبان الباكستانية بتقديم الدعم لها أثناء تسللها إلى باكستان، وذلك بحسب ما ورد في التقرير الحادي والثلاثين الصادر في 13 فبراير الجاري عن فريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات المعني بتنظيمي داعش والقاعدة بمجلس الأمن الدولي.
والثاني، دخول حكومة إسلام أباد في مفاوضات مع الحركة؛ إذ يرى البعض أنها بمثابة “هدنة تكتيكية” مثلت فرصه سانحة لها للملمة قواتها والتقاط أنفاسها للعودة لشن هجماتها بقوة في الداخل الباكستاني. فوفقًا لبعض التقارير أرسلت الحركة خلال وقف إطلاق النار حوالي 1000 مسلح إلى مناطقهم الأصلية، ولكن بدلًا من الانضمام إلى قبائلهم واستقرارهم كما كان يأمل المفاوضون الباكستانيون، سعى هؤلاء إلى إعادة تأكيد سلطتهم في معاقلهم السابقة في خيبر باختونخوا وإعادة تنشيط الخلايا النائمة في أجزاء أخرى من البلاد.
والثالث: انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان أواخر عام 2021، وهو ما مكن الحركة من الإفلات من وطأة الضربات الجوية الأمريكية التي كانت تستهدفها. وكذا حصلت الحركة الباكستانية على المعدات العسكرية المتطورة التي خلفتها القوات الأمريكية المُنسحبة، إلى جانب استعادة الحركة لعناصرها المجندة في أفغانستان، ذلك لأن عدد كبير من مقاتليها الذين شاركوا إلى جانب نظيرتها الأفغانية في القتال ضد الولايات المتحدة وقوات الناتو في السابق يمكن توجيههم الآن لمعركة الحركة ضد الحكومة الباكستانية، بعد انتهاء مهمتهم القتالية ضد القوات الأمريكية وحلفائها.
والرابع، استعادة حركة طالبان الأفغانية لحكمها في أفغانستان، وسماحها بتمركز العديد من التنظيمات الإرهابية على الجغرافيا الأفغانية، وانتقال تهديدها عبر الحدود إلى جارتها الباكستانية؛ إذ تُقدر الأمم المتحدة أن ما يقرب من 5000 من مقاتلي طالبان باكستان وأقاربهم يقيمون على أراضي أفغانستان تحت حماية حركة طالبان التي قامت في أعقاب سيطرتها على الحكم في كابول في منتصف أغسطس 2021 بإطلاق سراح المئات من سجناء طالبان باكستان المحتجزين في سجون كابول من قبل الرئيسين الأفغانيين السابقين أشرف غني وحميد كرزاي، وتظهر مقاطع الفيديو التي تصدرها الحركة الباكستانية – منذ استيلاء طالبان الأفغانية علي السلطة- أن عناصرها وقادتها يتمتعون بحرية حركة في الميدان الأفغاني ولا سيما في المناطق الشرقية المتاخمة للحدود الباكستانية.
• ضعف قدرات قوات الشرطة الباكستانية: أمام تطور قدرات وإمكانيات الحركة وهجماتها الدامية، تواجه قوات الشرطة الباكستانية مشكلات تتعلق بنقص الموارد المادية والبشرية واللوجستية المخصصة لهم للتصدي لتقدم عناصر الحركة وإحباط مخططاتها، وهو ما يجعل تلك القوات أهدافًا سهلة أمام قناصة الحركة وعملياتها الانتحارية، وأسلحتها المتطورة على غرار بنادق M4 أمريكية الصنع، وطائرات الاستطلاع الصغيرة بدون طيار التي تستخدمها الحركة في أعمال المراقبة، وغيرها من مخازن الأسلحة المتطورة التي تركتها القوات الغربية التي خرجت من أفغانستان في عام 2021.
• إلغاء وقف إطلاق النار وفشل المباحثات مع الحكومة: يأتي تصاعد هجمات حركة طالبان باكستان مؤخرًا كترجمة عملية لإلغاء الحركة للعمل باتفاق وقف إطلاق النار مع حكومة إسلام آباد، وتعثر المحادثات بينها وبين الحكومة بوساطة أفغانية في أغسطس 2022، وذلك على خلفية الجمود الذي شاب هذه المفاوضات بشأن رفض الحكومة الباكستانية لمطالب الحركة بفك دمج المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيدرالية (مسقط رأس الحركة، ومعقلها الرئيس قديمًا) من مقاطعة خيبر بختونخوا وفرض سيطرتها على المنطقة القبلية. وكان البرلمان الباكستاني قد قام في عام 2018 بتمرير مشروع قانون دستوري من شأنه توفير آلية لدمج المناطق القبلية المسماة تاريخيًا (منطقة القبائل المدارة فيدراليًا FATA) في الأراضي الباكستانية المستقرة، وعلى إثر ذلك أضحت تلك المناطق جزءًا من إقليم خيبر بختونخوا. وفي الجهة المقابلة رفضت حركة طالبان باكستان مطالب الحكومة بوقف العنف ونزع سلاح الحركة وحلّها تنظيميًا.
• الرد على ضربات قوات الأمن: يمثل تكثيف هجمات حركة طالبان باكستان على الجغرافيا الباكستانية، ترجمة عملية لمساعي الحركة للثأر والانتقام لاستهداف قادتها خلال الأشهر الفائتة على يد المخابرات الباكستانية- بحسب زعمها- إذ تُفيد بعض المصادر بأن أحد الأساليب التي تنتهجها القوات الباكستانية لتوجيه الضربات لطالبان باكستان هي محاولة تفكيك أواصل الثقة والتعاون التي تربط الأخيرة بنظيرتها الأفغانية، عبر استهداف عدد من قادتها في الداخل الأفغاني بما يفتح بابًا للشك قد يفضي إلى توتر العلاقات بين الحركتين. وعليه، تحاول الحركة تكثيف هجماتها لإثبات صمودها وصلابتها الهيكلية بعد فقدان قادتها من ناحية، والحفاظ على معنويات عناصرها وغلق الباب أمام إثارة الشكوك حول خيانة حركة طالبان الأفغانية لهم من ناحية أخرى.
• تعزيز القدرات التمويلية للحركة: يمكن النظر إلى هجمات حركة طالبان باكستان الأخيرة في إطار مسعاها للحصول على قدرات تمويلية تمكنها من مواصلة نشاطها العملياتي؛ إذ تخلق تلك الهجمات حالة من الخوف والهلع في نفوس المواطنين، تستطيع الحركة البناء عليها بعد ذلك في ممارسة عمليات الابتزاز بكافة أشكالها والاختطاف من أجل الحصول على الفدية، والتي تُعد أحد أشهر التكتيكات التي تنتهجها الحركة لتعزيز قدراتها المالية التي يبدو أنها في حاجة ماسة إليها؛ خصوصًا مع وجود بعض التكهنات حول نقص مصادر تمويلها داخل أفغانستان. لذا يتعرض الأثرياء والمشرعون المحليون في العديد من المناطق الباكستانية مؤخرًا للضغط للتبرع ودفع أموال للحركة، ومن يمتنع عن الدفع يتعرض للعقاب سواء من خلال إلقاء قنابل يدوية على أبوابهم أو إطلاق النار عليهم. وإلى جانب استفادتها من هذا النهج في كسب الأموال، يتيح لها أيضًا تقويض ثقة السكان في المؤسسات المحلية.
• توظيف أزمات الحكومة الباكستانية: تأتي هجمات حركة طالبان باكستان في ظل أوضاع سياسية والاقتصادية وأمنية ومناخية مضطربة تعايشها باكستان مؤخرًا. فاقتصاديًا تُواجه البلاد أوضاعًا اقتصادية متردية، تفاقمت حدتها جراء تداعيات فيروس كورونا، والفيضانات المدمرة الناجمة عن التغيرات المناخية والتي أسفرت عن غرق ثلث مساحة باكستان خلال العام الماضي، وأعطبت الكثير من البنية التحتية، وأزهقت أرواح المئات، وكبدت البلاد خسائر تجاوزت الـ 10 مليارات دولار، فضلًا عن انهيار احتياطات النقد الأجنبي، والتضخم المتصاعد، والعديد من التحديات الأخرى. وعلى الصعيد السياسي، تشهد البلاد حالة من عدم الاستقرار السياسي منذ إقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان في تصويت برلماني لسحب الثقة في إبريل الماضي، وما تلاه من احتجاجات ومشاهد فوضوية شهدتها البلاد على مدار الأشهر القليلة الماضية، وتخللها العديد من أعمال العنف. وترتيبًا على الوضع الاقتصادي والسياسي المضطرب، تواجه باكستان كذلك تحديات أمنية كبيرة تتعلق بزيادة معدلات العنف- كما أشرنا سابقًا- والتي اندلع على إثرها احتجاجات في المناطق الشمالية الغربية لمطالبة السلطات بحسم الوضع الأمني، بعد تعرض هذه المناطق لأعمال عنف نفذها مسلحون في الشوارع الرئيسة. وفي سياق كهذا تجد طالبان باكستان فرصة سانحة للاستثمار في تلك الأزمات لممارسة المزيد من الضغط على الحكومة الباكستانية التي باتت خياراتها العسكرية للتعامل مع الحركة محدودة، في ضوء افتقارها إلى الموارد اللازمة لاستمرار شن حملات مكثفة واسعة النطاق بشكل استباقي ضد معاقل الحركة.
• فشل سياسة إعادة الدمج: كان من بين الجهود التي اتخذتها حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان إعادة نحو 5000 عنصر من حركة طالبان الباكستانية الموجودين في أفغانستان إلى باكستان، وإعادة توطينهم في منطقة خيبر بختونخوا، وهو الأمر الذي اتهمته بعض الدوائر الباكستانية بالفشل، والمساعدة في تأجيج النشاط الإرهابي الأخير في البلاد. ويرى أنصار هذا الاتجاه أن هذا الفشل يمكن إيعازه إلى أمرين: أولهما، تعذر العثور على تمويل لإعادة دمج هؤلاء العناصر، ومن ثم تُركوا يتجولون بحرية على الأراضي الباكستانية. وثانيهما، صعوبة إقناع عناصر الحركة بالعدول عن أفكارهم ونزع أسلحتهم والانخراط في المجتمع الباكستاني بالنظر إلى انطلاقهم من أيديولوجية متشددة لا تعترف بالدولة الحديثة وأسسها الدستورية.
• تنامي تهديد تنظيم داعش: مثلما تسعى حركة طالبان باكستان إلى إثبات حضورها وقوتها أمام القوات الباكستانية من خلال تكثيف هجماتها الدامية، فهي تحاول كذلك توظيف تلك الهجمات في إثبات صمودها وتماسكها أمام عناصرها؛ خشية من محاولة سحبهم لتجنيدهم لصالح تنظيم داعش الذي تصاعدت هجماته في باكستان وأفغانستان منذ أواخر عام 2021. إذ قد يستطيع داعش توظيف تفاوض حركة طالبان باكستان ومباحثتها مع الحكومة لخدمة أجندته الجهادية على مستويات عديدة، ومنها محاولة جذب أعضاء الحركة الذين يشعرون بخيبة أمل من تفاوضها مع الحكومة، من خلال طرح نفسه كبديل جهادي لها، على غرار ما فعل التنظيم في السابق مع طالبان الأفغانية التي استغل سخط بعض مقاتليها من تفاوضها مع الولايات المتحدة في تكثيف جهوده الدعائية لجذبهم لصفوفه.
تداعيات محتملة
يحمل تصاعد نشاط حركة طالبان باكستان في ظل بيئة أمنية وسياسية مضطربة العديد من التداعيات ذات الطابع المحلي والخارجي، وهو ما يُمكن توضحيه تاليًا:
• تزايد الغضب الشعبي ضد الحكومة: تُزيد موجات العنف المُرتبطة بهجمات حركة طالبان باكستان من حالة الغضب الشعبي ضد الحكومة الباكستانية، خصوصًا في إقليم خيبر بختونخوا الذي كان مركزًا تاريخيًا لهجمات الحركة؛ إذ يعاني سكان هذه المنطقة من غياب الأمن وتدفق مقاتلي الحركة وسيطرتهم على نقاط التفتيش الأمنية في الليل وممارستهم لعمليات الخطف والابتزاز، فضلًا عن فقدان سكان المنطقة للكثير من أقاربهم خلال السنوات الماضية سواء في العمليات العسكرية التي تشنها القوات الحكومية ضد معاقل الإرهابيين، أو في الهجمات الإرهابية التي أسفرت عن نزوح أعداد كبيرة من المدنيين وتدمير مدن بأكملها، وهو ما أدى مؤخرًا إلى اندلاع احتجاجات في المناطق الشمالية الغربية لمطالبة السلطات يحسم الوضع الأمني في البلاد.
• مُفاقمة الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة: ربما يؤدي الوضع الأمني المضطرب إلى تفاقم التوترات السياسية في باكستان وزيادة خطوط الصدع بين الحكومة الحالية بقيادة شهباز شريف وأنصار رئيس الوزراء السابق عمران خان بشأن موعد إجراء الانتخابات الوطنية. وأيضًا من شأن حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني المتزايدة أن تفاقم من الوضع المأزوم الذي يعيشه الاقتصاد الباكستاني في الوقت الراهن؛ ذلك لأن العمليات الإرهابية زادت من الأعباء الاقتصادية بتكلفة تخطت 123 مليار دولار، وأثرت بصورة مباشرة على قطاعي الاستثمار والسياحة، فضلًا عن التكلفة الباهظة التي تتكبدها ميزانية الدفاع الباكستانية للإنفاق على تأمين الحدود مع أفغانستان، والعمليات العسكرية والاستخباراتية الرامية إلى تطويق النشاط الإرهابي.
• تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي: تُزيد هجمات حركة طالبان باكستان من خطر التهديدات الإرهابية في المنطقة، وهي التهديدات التي تصاعدت المخاوف حولها منذ عودة حركة طالبان الأفغانية للحكم في أفغانستان، وتزايد المساحة المخصصة كملاذات آمنة للكثير من التنظيمات الإرهابية على الأراضي الأفغانية في كنف ورعاية طالبان. كما أن تصاعد هجمات طالبان الباكستانية ربما يدفع حكومة إسلام أباد إلى الدخول في مفاوضات جديدة مع الحركة، وهو ما قد تحقق من خلاله الأخيرة بعض الامتيازات على المدى الطويل كخفض عدد القوات الحكومية في مناطق تواجدها، الأمر الذي قد يستغله تنظيم داعش في تعزيز صفوفه شمال غرب باكستان واتخاذها كمنصة لبقية مناطق البلاد، لا سيما أن الخبرات التاريخية المختلفة أثبتت أن التنظيمات الإرهابية بشكل عام وداعش على وجه الخصوص استغلت انخفاض أعداد القوات الأمنية وتراجع جهود مكافحة الإرهاب في العديد من المسارح لشن المزيد من الهجمات، وهو ما يمكن تكراره في باكستان.
• توتر العلاقات بين باكستان وأفغانستان: قد تؤدي زيادة وتيرة هجمات حركة طالبان الباكستانية إلى زيادة الفجوة والتوتر في العلاقات بين حكومة باكستان وحكومة كابول؛ ففي أعقاب الهجمات التي تشنها الحركة الباكستانية تقوم حكومة إسلام أباد على الفور بتوجيه الاتهام إلى حركة طالبان الأفغانية بتوفير الدعم لطالبان باكستان، وفي المقابل ترفض حكومة كابول تلك الاتهامات، وتطالب الجانب الباكستاني بحل مشكلاته الداخلية قبل توجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين.
وفي الختام، من المرجح أن تستمر وتيرة العنف المرتبطة بتنامي نشاط حركة طالبان باكستان خلال العام الجاري، في ظل وجود جملة من المحفزات في مقدمتها انشغال حكومة إسلام أباد في مجابهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعصف بالبلاد، وتزايد عناصر القوة التي تمتلكها الحركة مقابل العقبات التي تحد من قدرات قوات الشرطة في التصدي لهجماتها الدامية. كما يرجح أن يتوقف مستقبل الصراع بين الحركة والحكومة على فعالية المقاربة التي ستنتهجها القوات الباكستانية في مواجهة نشاط الحركة، لا سيما أن بعض التحليلات ترى أن هزيمة الحركة عسكريًا عبر عملية عسكرية شاملة قد لا يكون مُجديًا بدرجة كبيرة، بالنظر إلى أن عناصر الحركة في الوقت الراهن لا يتمركزون في منطقة بعينها، وينتشرون بصورة مشتتة، وهو ما يصعب من عملية استهداف عناصرها. وثمة عامل آخر سيحدد مستقبل هذا الصراع، وهو درجة التوتر في العلاقات القائمة بين حكومة إسلام أباد وحركة طالبان أفغانستان في ضوء الارتباطات الكبيرة بين الأخيرة ونظيرتها الباكستانية، وقدرتها على توجيه دفة المفاوضات بين طالبان باكستان والحكومة بما يخدم مصالحها.
.
رابط المصدر: