توظيف متكرر: دور المقاتلين الأجانب في الصراعات

تقى النجار

 

أدى لجوء أوكرانيا وروسيا لتوظيف المقاتلين الأجانب في صراعهما الحالي إلى تصاعد الجدل حول تعدد الصراعات المختلفة التي تم توظيف هذه الظاهرة فيها، ولا سيما مع تنامي التهديدات والمخاطر والتحديات طويلة المدى التي تنطوي عليها، الأمر الذي يستدعي استعراض النماذج المختلفة لتوظيفها في محاولة لتفكيك مشهدها شديد التشابك والتعقيد.

نماذج متعددة

ثمة نماذج مختلفة لتوظيف المقاتلين الأجانب في الصراعات، يمكن الإشارة لبعضها على النحو التالي:

1.الصراع السوري: أدى تفشي الصراع في سوريا إلى تنامي حالة من الفوضى اجتذبت العديد من المقاتلين الأجانب من مختلف التوجهات والدوافع، فمع تصاعد الأحداث في سوريا، شرع تنظيم “القاعدة” في حث أنصاره “لدعم الجهاد في سوريا ونصرة المسلمين هناك” مما ساهم في انضمام العديد من المقاتلين الأجانب من أصحاب الأيديولوجيات المتطرفة إلى بعض الحركات الإرهابية النشطة على الأراضي السورية، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، ساهم تعدد الفواعل في المشهد السوري في تعويل أطراف إقليمية ودولية على المقاتلين الأجانب، سواء بهدف الاستثمار في استمرار الصراع، أو بهدف الحفاظ على مصالحهم. وبالتالي، تحولت الساحة السورية إلى حاضنة ضمت العديد من المقاتلين الأجانب الذين يتم توظيفهم في الصراعات المختلفة ولا سيما الصراع الليبي، حيث مثلوا حلقة ربط بين الصراعين نتيجة لتصاعد توظيفهم في الساحة الليبية.

2.الصراع الليبي: هيأ اندلاع الأحداث في الساحة الليبية إلى تحولها لملاذ آمن لاستقبال المقاتلين الأجانب، إذ لعب هؤلاء دورًا كبيرًا في تعقيد المشهد الليبي، ولا سيما مع سعي الكثير من الفواعل الإقليمية والدولية إلى تحقيق أجندهم عبر توظيف هؤلاء في الصراع الليبي لدعم أحد الفواعل المنخرطة في القتال على الأرض.

فعلى سبيل المثال؛ تشير العديد من التقديرات إلى قيام شركة “فاجنر” بنشر ما يزيد على 800 مقاتل في ليبيا للمشاركة في مهام قتالية هناك، بغرض حماية المصالح الروسية. كما أفادت تقارير مختلفة عن استقدام تركيا آلاف السوريين إلى ليبيا في أعقاب الاتفاق الأمني الذي عقدته الأولى في نوفمبر 2019 مع حكومة الوفاق الوطني. ناهيك عما أفاد به التقرير الصادر عن فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة المعني بالسودان حول نشاط عناصر سودانية مسلحة في ليبيا، ومشاركتها في العمليات العسكرية مع مختلف أطراف الصراع الليبي.

3.الصراع الأوكراني: مع نشوب الصراع في أوكرانيا، سعى طرفا الأزمة (الروسي والأوكراني) إلى توظيف المقاتلين الأجانب في الصراع، إذ شرعت أوكرانيا في تشكيل “فليق دولي” بهدف ضم المقاتلين الأجانب الراغبين في الدفاع عن لأوكرانيا، حيث أفاد وزير الخارجية الأوكراني “دميترو كوليبا” بوصول حوالي 20 ألف مقاتل إلى البلاد من أجل دعم أوكرانيا.

وفي المقابل، أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أنه سيتم السماح للراغبين بالقتال بالذهاب إلى أوكرانيا، حيث أكد وزير الدفاع الروسي “سيرغي شويغو” وجود حوالي 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط على استعداد للقتال في أوكرانيا بجانب القوات الروسية. وقد تنوعت جنسياتهم ما بين دول أوروبا الشرقية، ودول أوروبا الغربية، فضلًا عن قدوم بعضهم من الولايات المتحدة وكندا، ناهيك عن انتماء البعض الآخر إلى منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن من المبكر استشراف تداعيات وجود المقاتلين الأجانب على المشهد الحالي في أوكرانيا، إلا أن ذلك لا ينفي حجم التحديات المستقبلية المنطوية على تدفقهم إلى أوكرانيا.

ملاحظات أساسية

يُثير المشهد السابق عددًا من الملاحظات والاستنتاجات المهمة التي يمكن استعراضها على النحو التالي:

الملاحظة الأولى: تُشير إلى اتساع النطاق الجغرافي لتوظيف ظاهرة المقاتلين الأجانب، فلم تعد مقتصرة على صراعات الشرق الأوسط وإفريقيا فقط، بل امتدت أيضًا إلى الصراعات في آسيا وأوروبا، حيث تم توظيفها في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورنو، عبر قيام تركيا بإرسال عدد من المقاتلين لدعم الأولى، وكذا في الصراع في أوكرانيا بين روسيا في ضوء استعانة الطرفين بالمقاتلين الأجانب. ومن ثم يمكن القول إن تصاعد الصراعات المختلفة فاقم الاحتياج للمقاتلين الأجانب، مما ساهم في اتساع النطاق الجغرافي للظاهرة ومن ثم تعاظم تهديدها.

الملاحظة الثانية: تنصرف إلى الدور الذي يلعبه المقاتلون الأجانب في إطالة أمد الصراعات، وذلك في ضوء ثلاثة عوامل رئيسية؛ يتعلق أولها بالارتباط الوثيق بينهم وبين فواعل إقليمية ودولية لديها أجندات سياسية تسعى إلى تحقيقها عبر توظيفهم. وينصرف ثانيها إلى كونهم قناة للتعلم التنظيمي عبر نقل خبراتهم التي اكتسبوها إلى الأطراف الفاعلة في المشهد. ويتصل ثالثها بتحويلهم نمط الصراع من صراع مسلح نظامي إلى نمط حروب العصابات، سواء على المستويين العملياتي والتكتيكي. وبالتالي ينعكس هذا المشهد على إطالة أمد الصراعات مع العمل على إفشال المحاولات التي تهدف إلى إنهائها.

الملاحظة الثالثة: تتعلق بالارتباط الوثيق بين ظاهرتي المقاتلين الأجانب والإرهاب، إذ بدأ ظهور هذا المصطلح للإشارة إلى المقاتلين الذين سافروا لأفغانستان للانضمام لتنظيم “القاعدة” مع بداية تشكيله، أما النقطة الفاصلة في هذه الظاهرة فتمثلت في بروز تنظيم “داعش” ونجاحه في اجتذاب حوالي 42 ألف مقاتل أجنبي للانضمام إلى دولة خلافته المزعومة في سوريا والعراق، وذلك وفقًا للتقرير الصادر عن لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (فبراير 2019)، الأمر الذي يؤكد على العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الظاهرتين وحجم التهديدات المرتبطة بها في ضوء توظيف الثانية للأولى.

الملاحظة الرابعة: تدور حول توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في اجتذاب المقاتلين الأجانب، إذ وظفت التنظيمات الإرهابية ولا سيما تنظيم “داعش” الأولى من أجل تجنيد عدد كبير من الشباب من مختلف الجنسيات، حيث تم اجتذابهم عبر بناء تصورات افتراضية لقوة التنظيم على وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك عن نجاح التنظيم في إعدادهم وتسهيل سفرهم عبر الإنترنت هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في حث المقاتلين على الانخراط في القتال أوكرانيا، إذ تم نشر الكثير من الإعلانات التي تروج لهذا الهدف من قبل أصحاب المصلحة في المشهد، ولا سيما الفواعل الإقليمية والدولية.

الملاحظة الخامسة: تُشير إلى التحديات المرتبطة بالمقاتلين الأجانب، فبجانب الإشكاليات القانونية المرتبطة بقانونية نشاطهم والآليات التي ستتم محاسبتهم بها، وذلك في ضوء وجود عروض للحصول على جنسية الدولة التي يقاتلون فيها، وكذا التهديدات الأمنية المحتملة حال عودتهم لبلدانهم الأصلية أو انتقالهم لبلد آخر؛ تظهر تحديات أخرى متعلقة بآليات دمجهم في المجتمع ولا سيما مع تصاعد الجدل حول فاعلية برامج إعادة التأهيل والدمج.

مجمل القول، تمثل ظاهرة المقاتلين الأجانب تحديًا كبيرًا لأمن الدول والمجتمعات، وذلك في ضوء الخبرات التي يكتسبونها بالتزامن مع تعدد الصراعات التي ينخرطون فيها، وبالتالي يحتاج التوظيف المتكرر لتلك الظاهرة إلى إعادة النظر والضبط من قبل المجتمع الدولي. بعبارة أخرى، يمكن القول إن تداعيات الظاهرة لا تقتصر على صراع بعينه، بل تمتد انعكاساتها على الأمن الإقليمي والدولي.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18957/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M