فينس كابل
من المفهوم تماماً أن يتركّز قلق الجميع في خضم تفشّي جائحة ما، بالدرجة الأولى على عائلاتهم وأصدقائهم. وكانت الطريقة التي احتضن بها الجمهور “عائلة” “خدمة الصحة الوطنية” بمختلف مكوناتها، من بين الأمور التي تُثلج الصدر حقاً، حول الاستجابة البريطانية للأزمة.
وخلافاً لذلك، فإنّ الاستجابة انطوت على النظر إلى الخارج كما لو كان يصلح لأغراض شتى: كمكان يجب الهروب منه؛ ولمعاينة أمثلة توضيحية عن الويلات المقبلة، كما هي الحال مع إيطاليا مثلا؛ وللبحث عن نماذج لممارسات جيدة لاتباعها، ألمانيا وكوريا الجنوبية؛ وللحصول على تطمينات بأن هناك دولاً أقل استعداداً حتى منّا، مثل الولايات المتحدة.
لقد تمخّض تفشّي فيروس كورونا، وعلى نحو لم تبلغه أي أزمة أخرى عاصرتُها طوال حياتي، عن دفع عاطفتين متعارضتين إلى السطح: شعور بأنّنا “جميعاً نواجه الأزمة معاً، في كل مكان”، وهو إحساس بالإنسانية المشتركة، وذلك جنباً إلى جنب مع الحاجة الوقائية كي “نهتم بأنفسنا”.
طرح فيلسوف أخلاقي قبل قرون عدّة هذا السؤال: كيف نقارن اهتمامنا المفترض بخنصر ملتهب في يد صديق أو قريب من جهة، باهتمامنا بالملايين مِمّن يتعرضون للموت جراء كارثة ما على الجانب الآخر من العالم، من جهة ثانية؟ وكان رأيه أنّ الخنصر سيفوز بالغالبية الساحقة، لو عُقدت المقارنة.
لقد أصبحنا أخيراً نشعر بالحساسية حيال حاجات الآخرين، وذلك بفضل التلفزيون والسفر. وتجلّى هذا الشعور من خلال سخاء المساعدات المقدمة عبر جمعيات خيرية معنية بدعم التنمية في دول أخرى، ومن خلال ميزانية حكومية للمساعدات الخارجية جديرة بالتقدير الكبير بالمقارنة مع غيرها. لكن من الممكن رؤية كفّة الاهتمام بالقلق المحلي والتمويل المخصص له ترجح بوضوح، فيما ينتشر فيروس كورونا في دول نامية.
تفشى الفيروس، حتى الآن، في الغرب بشكل أساسي، وأيضاً في دول في شرق آسيا كانت يوماً فقيرة، لكنها باتت منظمة بشكل جيد وثرية، فاليابان وسنغافورة هما حالياً أغنى من المملكة المتحدة؛ وكوريا الجنوبية قريبة جداً منهما، والصين تلحق بهذه الدول بسرعة. مع ذلك، فإن التأثير في البلدان الأشد فقراً في العالم وشعوبها في أفريقيا وجنوب آسيا، وفي بلدان أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، سيكون مدمّراً.
فهذه الدول معرضة جداً لتفشّي العدوى. الكثافات السكانية العالية في المناطق الحضرية وفي مخيمات اللاجئين تمنع تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي، وعدم توفر ماء نظيف جارٍ يجعل إجراءات غسل اليدين المنتظمة لا معنى لها. والهيئات التي تقدم خدمات صحية غارقة الآن في أمراض ذات علاقة بالفقر من نوع جرثومي بشكل أساسي، وهذه الخدمات محدودة في الأرياف. ويتناقص عدد الأطباء لأنّ الأشخاص الموهوبين يغادرون أوطانهم. وكذلك، هناك أعداد كبيرة من الأشخاص يعانون من ضعف في أجهزة المناعة، إذ هناك 10 في المئة من السكان يعيشون مع فيروس الإيدز في تسع دول من أفريقيا الجنوبية. واحتمال أن تضم المستشفيات العامة في البلدان الفقيرة وحدات عناية مركزة مجهزة تجهيزاً مناسباً لاستيعاب مرضى يعانون من أوضاع خطيرة مِمّن سيتدفقون على هذه المستشفيات، يكاد يكون معدوماً.
مع ذلك، فهناك بعض العوامل المخففة في غالبية البلدان النامية، إذ لا يوجد فيها سوى عدد قليل من المتقدمين ي السن إلى حد يجعلهم ضعيفي البنية، وعلى الرغم من وجود استثناءات مأساوية، فإنّ الأطفال محصّنون بما لديهم من مناعة، إلى درجة كبيرة، كما قيل لنا.
وأظهرت بعض الدول التي واجهت، بمساعدة جهات أخرى، أوبئة أشد فتكاً من وباء فيروس كورونا مثل إيبولا، قدرة على الصمود تثير الإعجاب. وجرى احتواء تفشّي أوبئة مثل الكوليرا والتيفوئيد بسرعة. ويشير بعض المعلقين الساخرين في أفريقيا إلى أن ثمة فائدة من انتشار فيروس كورونا في الغرب، لأن زعماءهم ما عادوا يستطيعون السفر جواً إلى أوروبا أو الولايات المتحدة بغرض العلاج. بالتالي، قد يُضطر هؤلاء القادة إلى التعرف مباشرة على الأوضاع المزرية في مستشفياتهم المحلية.
ينبغي على البلدان الأشد فقراً أن تدرس ما إذا كان من المفيد لها أن تتعامل مع الجائحة بالطريقة ذاتها التي واجهت أوروبا أو الولايات المتحدة أو الصين بها تفشّي الفيروس. لعل الفكرة القائلة إنّ من الضروري إغلاق المنشآت والأنشطة الاقتصادية لتخفيف الضغط على مراكز الخدمة الصحية هي مقايضة سيئة حين يكون الاقتصاد أساساً في وضع شديد الهشاشة والمستشفيات غارقة في أمراض مميتة أخرى. ولعل تحذير (الرئيس الأميركي) دونالد ترمب من أن العلاج قد يكون أسوأ من المرض، هو مجرد هراء، الغرض منه خدمة مصالحه الذاتية، لكنه قد يكون في واقع الأمر نصيحة جيدة في أماكن أخرى.
ففيما يتواصل العمل في مواقع بناء عدّة في لندن، هناك صور واردة من الهند لملايين عمال البناء المهاجرين، وآخرين مَمّن لا يحملون إذن عمل رسمي، تُركوا في حالة من الفاقة المزرية نظراً إلى غياب نظام الضمان الاجتماعي. وإذ يهرب هؤلاء العمال إلى القرى، فإنهم يحملون معهم المرض إليها. ولعل وضع لاغوس وكينشاسا أسوأ بكثير من الهند.
في كل الأحوال، لا يمكن فرض حجر على الاقتصاد الريفي. فهو يعتمد على دورات مناخية ثابتة وعليه الاستمرار لمنع حصول مجاعة. ومن المفارقة، أنه بالنسبة إلى بعض البلدان الفقيرة، قد يكون الخيار الأفضل هو اتباع النموذج السويدي المتساهل، وإبقاء الاقتصاد يعمل قدر المستطاع. لكن حتى الآن، لم تخالف أي دولة الطرق التقليدية المتّبعة في مواجهة تفشّي فيروس كورونا.
ستشهد هذه الدول عدداً من الوفيات يتخطّى بكثير ذلك الذي سيُسجل في العالم الغني، وذلك حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً. يجب أن نهتم بهذه الدول الفقيرة لأسباب إنسانية وأيضاً مصلحية. وإذا لم يخضع الفيروس للسيطرة، وإلى أن يصبح تحت السيطرة، من خلال مناعة شاملة للجميع تقريباً، فالمرجح أنه سيتمكن من الانتشار مجدداً. سيُستأنف السفر في نهاية المطاف، حتى ولو بشكل جزئي، ما سيجعل العدوى تظهر ثانية. وقد نجد أنفسنا أيضاً في مواجهة سيل من اللاجئين المستميتين المتجهين إلى البحر المتوسط بأعداد، سيبدو تدفقهم في 2016 بالمقارنة معها شيئاً لا يُذكر.
علينا أن نتذكر أيضاً أن الضائقة المالية الشديدة في البلدان الفقيرة التي ستعقب الجائحة ستكون ناجمة عن إلغاء الدول الأغنى من طرف واحد طلبياتها. فمئات الآلاف من العمال الزراعيين في شرق أفريقيا، وعدد مماثل مِمّن يعملون في صناعة الملابس ببنغلاديش، وملايين العاملين في قطاع السياحة في بلدان كثيرة، سيصبحون عاطلين عن العمل ومن دون أي دخل، وبلا برنامج إعانة بعد التغيّب القسري عن العمل أو ائتمان شامل يمكن الاعتماد عليه.
هناك خمسة إجراءات جوهرية على العالم المتقدم اتّخاذها لمساعدة البلدان النامية وسكانها، هي:
طوّر صندوق النقد الدولي أداءه، لكن هناك حاجة ملحة إلى اتفاق دولي من أصحاب الأسهم الأساسيين في هذه المؤسسة، يقتضي تقديم دعم مالي أكبر مع تعليق الشروط المفروضة عادة. فمع انهيار الصادرات؛ وتقلّص التحويلات النقدية؛ وسحب المستثمرين أموالهم؛ وهبوط قيمة العملات؛ والتخلف المتوقع عن دفع الديون بالدولار؛ أصبح هناك حتى الآن 80 بلداً يبحثون عن تمويل خاص بحالات طوارئ.
ظلت بريطانيا واحدة من أكبر الدول المانحة للمعونات خلال العقدين الأخيرين. وهناك حاجة إلى برنامج المعونة هذا حالياً أكثر من أي وقت مضى، لأن القطاع الخيري أُصيب بالشلل. لذلك، يجب رفع الميزانية المخصصة للمعونات الخارجية مؤقتاً إلى أكثر من 0.7 في المئة من الناتج الإجمالي القومي، إذ إنّ الناتج الإجمالي القومي ذاته سيتقلص.
على الحكومات أن تقرّ بأنه من الأفضل تقديم معونات الطوارئ لدعم برامج الصحة العامة من خلال مؤسسات متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي في حال العمل بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية. وقد يساعد قبول رئيس للبنك يعيّنه ترمب، في تحقيق هذا الهدف.
مع وقوع عددٍ كبيرٍ من الدول في فخ الديون لمؤسسات رسمية أو تجارية، فإنّ إلغاء الديون مطلوب الآن. إذ ليس هناك وقت للتفاوض على “إعادة جدولة” الأعباء التي لم يكن من الممكن النهوض بها في المقام الأول.
إذا لم يتم قلب مكاسب ما بعد الحرب العالمية الثانية في التنمية وتقليص الفاقة من خلال التجارة، فإنه يجب بذل جهود لإنقاذ النظام التجاري من نكوصه الوشيك إلى ما كان عليه خلال ثلاثينيات القرن الماضي، من حروب تجارية وسياسات حمائية.
يبدأ العمل من منطلق الإقرار بأنه ليس هناك سبيل للنجاة لكل بلد على حدة. فالمشاكل المشتركة تتطلّب حلولاً مشتركة، لا من خلال الفوضى غير المنسقة والعمل لتحقيق المصالح الذاتية على حساب الآخرين، وهذا ما يجري حتى الآن بين الدول من ناحية، وفي الدول ذاتها من ناحية أخرى.
فكلما سارع العالم الغربي إلى التغلب على الفيروس من خلال الإجراءات المتأخرة والمؤلمة، لكن الضرورية التي نطبّقها الآن، كلما بات تركيز الاهتمام أسهل على أولئك الذين يحتاجون أكثر من غيرهم إلى المساعدة، لكنّ هذا الاهتمام هو في آخر الأولويات السياسية حالياً.
رابط المصدر: