في تطور لافت، أقدمت طوكيو على إطلاق استراتيجية جديدة للأمن القومي، متضمنة استحداث القدرة على تنفيذ “الهجمات المضادة” مما يؤهلها لتبوء مكانة هجومية، مما يعد تغيرًا تاريخيًا لسياسة الدفاع التي تبنتها اليابان منذ الحرب العالمية الثانية، مدفوعة بماضيها في زمن الحرب كمعتدية، والدمار الذي لحق بها بعد هزيمتها، حيث ركزت سياسة اليابان منذ ذلك الوقت على إيلاء الأولوية للاقتصاد على الأمن؛ من خلال الاعتماد على القوات الأمريكية المتمركزة في اليابان بموجب اتفاقية الأمن الثنائية بينهما، في تقسيم الأدوار الذي يمكن تسميته بثنائية “الدرع والخنجر”.
وقد مثلت الخطوة “المعلنة” مخالفة صريحة للدستور الياباني الذي يسمح باستخدام القوة للدفاع عن أراضي اليابان فقط ردًا على هجوم فعلي –ولكن ليس إذا كان هناك احتمالية هجوم أو تهديد به- وفي نفس السياق ينص الدستور الياباني على عدم امتلاك الأسلحة التي تحمل الطابع الهجومي، والتي تشمل الصواريخ الباليستية العابرة للقارات أو القاذفات الاستراتيجية بعيدة المدى أو حاملات الطائرات الهجومية.
وبطبيعة الحال فإن تغيرًا استراتيجيًا بهذا الحجم في سياسات الأمن القومي اليابانية يصب مباشرة في الإنفاق العسكري أو بالأحرى الميزانية الدفاعية؛ إذ تستعد اليابان لإجراء زيادات في الإنفاق الدفاعي لم يسبق لها مثيل في فترة ما بعد الحرب، من خلال مزيج من النمو في الإنفاق الدفاعي الأساسي، والاستثمارات الأخرى “المتعلقة بالأمن القومي”.
ومن المرجح أن تحدد الاستراتيجية الجديدة مسار ميزانية بقيمة 5 تريليونات ين وما يوازي (37 مليار دولار بأسعار الصرف اليوم)، وسيرتفع حجم الإنفاق إلى ما يصل إلى 11 تريليون ين ويوازي (81.5 مليار دولار) بحلول عام 2027. وليس من المعلوم حتى الآن كيف ستقوم الحكومة اليابانية بتغطية هذه النفقات، خصوصًا في ظل أوضاع اقتصادية عالمية متأزمة، مما يرجح أنها قد تقدم على رفع الضرائب على المواطنين أو إقرار رسوم ضريبية جديدة.
أوجه التغير في الاستراتيجية الجديدة
– القدرة على مواجهة الضربات: أكبر تغيير في استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة هو امتلاك “القدرة على الهجوم المضاد”. وتبرر الحكومة اليابانية موقفها بأن استخدام القدرة على الهجوم المضاد أمر دستوري إذا كان ردًا على علامات هجوم وشيك للعدو، لكن الخبراء يقولون إنه من الصعب للغاية تنفيذ مثل هذا الهجوم دون المخاطرة بتحمل اللوم عن توجيه الضربة الأولى.
– امتلاك الصواريخ طويلة المدى: على مدى السنوات الخمس المقبلة، ستنفق اليابان حوالي 5 تريليونات ين (37 مليار دولار) على الصواريخ بعيدة المدى، التي يبدأ نشرها المخطط له في عام 2026. ستشتري اليابان صواريخ “توماهوك” الأمريكية الصنع، وصواريخ المواجهة المشتركة جو-أرض، بينما ستعمل الصناعة الثقيلة المحلية على تحسين وإنتاج صاروخ موجه أرض-بحر من النوع 12. وستطور اليابان أيضًا أنواعًا أخرى من الترسانات، مثل الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والمركبات غير المأهولة ومتعددة الأدوار من أجل التعاون المحتمل مع طائرة مقاتلة من الجيل التالي من طراز F-X تقوم اليابان بتطويرها مع بريطانيا وإيطاليا لنشرها في عام 2035.
تطوير قدرات الأمن السيبراني: حيث يشير الخبراء إلى أن اليابان -التي تفتقر إلى قدر كاف من الأمن السيبراني والاستخبارات- ستضطر إلى الاعتماد بشكل كبير على الولايات المتحدة في تلك المجالات لإطلاق صواريخ كروز بعيدة المدى على الأهداف المقصودة، لأنه بدون الأمن السيبراني من الصعب تحقيق تفوق في قوة طوكيو للدفاع الذاتي، ويعد هذا تطورًا مرحبًا به بالنسبة للولايات المتحدة؛ لأن الأمن السيبراني الضعيف للحكومة اليابانية كان “عقبة حاسمة أمام تعاون أعمق في التحالف بينهما وتوسيع تبادل المعلومات”. ومن المتوقع أن تنفق اليابان خلال السنوات المقبلة حوالي 8 تريليونات ين (58 مليار دولار) على تطوير الأمن السيبراني.
ماذا نفهم من التوقيت
بداية، يبلغ عمر استراتيجية الأمن القومي الأصلية لليابان عشر سنوات تقريبًا، مما نجم عنه تحولات ضخمة في المحيط الجيوسياسي، وقد انعكس ذلك على تغيرت البيئة الأمنية العالمية التي كانت أكثر ملاءمة لطوكيو التي بقيت حذرة على كل الأحوال، ويضاف إلى ما تقدم مجموعة من العوامل المتعلقة بالظرف الحالي:
–القلق المتنامي من نموذج أوكرانيا وتايوان: بالعودة إلى عام 2013، رأت اليابان في روسيا رصيدًا محتملاً للسلام والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ودعت إلى “التعاون مع روسيا في جميع المجالات”، بما في ذلك المشاركة من أجل حل مشكلة الجزر المتنازع عليها في شمال اليابان. لكن اليوم، تعتبر اليابان روسيا مفسدًا خطيرًا؛ لأن حربها في أوكرانيا خرقت بسهولة أساس القواعد التي تشكل النظام الدولي. وبالإضافة إلى كونها أهم تهديد مباشر للأمن في المنطقة الأوروبية، فإن أنشطة روسيا حول اليابان والتنسيق مع الصين يشكلان مصدر قلق للأمن القومي في طوكيو.
وقد شكل الحرب الروسية الأوكرانية وكيفية تعامل الناتو والدول الغربية مع الدفاع عن أوكرانيا عندما أخذت الأمور منحىً خطيرًا عاملًا مشجعًا لليابان لتطوير استراتيجية تؤهلها لأن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها؛ ربما لأنها وعت الدرس، أو أنها تدرك أنه في حالة تهديد أمنها القومي لن يكون الدفاع الغربي عنها بأكثر من إمدادات سلاح أو عقوبات اقتصادية تفرضها على الطرف المعتدي.
وبالنسبة لتايوان، فهي تعد شريكًا مهمًا للغاية وصديقًا ثمينًا لليابان؛ إذ تتشارك معها في القيم الأساسية، بما في ذلك الديمقراطية، ولكن ترجع الكثير من التوترات بين الصين واليابان في تايوان لأكثر من 70 عامًا، حين كان الجانبان يحكمان بشكل منفصل، لكن هذا لم يمنع الحزب الشيوعي الحاكم في الصين من المطالبة بالجزيرة بوصفها ملكًا له على الرغم من أنه لم يسيطر عليها مطلقًا.
وفي هذا الإطار، يشير محللون إلى أن الأمر لم يسبب مصدر قلق قومي لطوكيو قبل أن تقدم الصين على إطلاق تدريبات عسكرية حول تايوان في أغسطس الماضي تضمنت إطلاق صواريخ على المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، مما شكل صيحة استيقاظ لليابانيين. ومن جانب آخر، فإن موقع تايوان يشكل عامل ضغط على الاقتصاد الياباني؛ بوجودها إلى جانب ممر شحن عالمي رئيس، ومن ثم فإن سيطرة الصين عليها يضرب عمق الاقتصادي الياباني.
-الصين وكوريا الشمالية “المهدد الرئيس”: تتواجد اليابان في بيئة أمنية إقليمية تعرف بأنها الأشد والأكثر تعقيدًا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتمثل الصين، مع حشدها السريع للأسلحة، والنشاط العسكري الحازم بشكل متزايد والتنافس مع الولايات المتحدة، “تحديًا استراتيجيًا غير مسبوق” لطوكيو. خصوصًا أنها ترسل سفنا إلى المحيط الهادئ وسط تحركات اليابان الأمنية علاوة على أن المعدل المتزايد والمتسارع لإطلاق الصواريخ في كوريا الشمالية، فضلاً عن تحديث وتنويع ترسانة الصواريخ الصينية، سهّل تبرير الحاجة إلى زيادة الردع والدفاع لليابان. وبالنسبة لكوريا الشمالية على حدة تم تعميق التهديد الذي تشكله لتركيزها على التطوير المتسارع للتكنولوجيا المتعلقة بالصواريخ.
ردود الأفعال
يمكن فهم ردود الأفعال على الاستراتيجية اليابانية الجديدة للأمن القومي استنادًا لمنطلقات بديهية تقسم ردود الأفعال بين المستفيد من الاستراتيجية والمتضرر منها:
-الصين وكوريا الشمالية: ركز رد الفعل الصيني على أن هذه التحركات تعكس العسكرة والابتعاد عن النزعة السلمية لليابان، حيث اتهمت وزارة الخارجية الصينية اليابان بـ “تصعيد التوترات الإقليمية للسعي إلى تحقيق اختراقات عسكرية”، وقالت إن اليابان بحاجة إلى “التفكير بجدية في تاريخها العدواني، واحترام المخاوف الأمنية للجيران الآسيويين، والتصرف بحكمة في مجال الأمن العسكري، والقيام بالمزيد من الأشياء التي تؤدي إلى السلام والاستقرار الإقليميين”.
بينما أشارت كوريا الشمالية إلى الوثائق اليابانية المعلنة باستياء؛ لأن كلًا من بيونج يانج وبكين وجدتا أنهما المستهدفتان من الاستراتيجية اليابانية الجديدة، ولذلك تم وصف الوثائق اليابانية المعلنة بأنها جعلت سياسة السلم التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية مجوفة.
–الولايات المتحدة وأوروبا وكوريا الجنوبية: كان من المتوقع أن يرحب الشركاء في المنطقة وأوروبا بالاستراتيجية اليابانية الجديدة، حتى أن كوريا الجنوبية -التي كانت لليابان علاقات متوترة معها في السنوات الأخيرة- رحبت بقدرات الضربات المضادة بوصفها تسهم في السلام والاستقرار الإقليميين، بينما أصدرت الولايات المتحدة بيانات دعم رسمية للاستراتيجية اليابانية؛ وذلك لأن القدرات الدفاعية التي تخطط اليابان لتأسيسها وزيادتها “ستعزز بطبيعة الحال من قدرات الردع والاستجابة للتحالف الياباني الأمريكي” خصوصًا أن طوكيو عضو في تحالف كواد.
استخلاصًا؛ فإنه على الرغم من كون الاستراتيجية اليابانية الجديدة للأمن القومي تمثل شأنًا داخليًا بالدرجة الأولى، إلا أن الداخل الياباني وخصوصًا الاتجاه الليبرالي تنظر إلى هذه الاستراتيجية وما سيترتب عليها من زيادة الإنفاق الدفاعي بترقب وريبة؛ على خلفية تباطؤ الاقتصاد وما سيمثله هذا الإنفاق الدفاعي من عبئ ثقيل على الموازنة ومن ثم على عاتق اليابانيين أنفسهم الذين قد يرون أن هذه القدرات العسكرية المستجدة لن تسهم في حماية اليابان من أي اعتداءات مثلما لم تنجح من قبل في حماية أوكرانيا، ولذلك يجدر باليابان الالتزام بالدبلوماسية الساعية إلى تخفيف التوترات الإقليمية والحد من التسلح بدلًا من زيادته.
.
رابط المصدر: