حرب إسرائيل متعددة الساحات

تفيد الرسالة الأهم التي وجّهتها إسرائيل من خلال عملياتها الصاعقة والمفاجئة وغير المسبوقة، ضد “حزب الله”، مؤخّرا، بأنه لا حدّ لحربها، بكل الوسائل، لما تعتبره كدفاع عن وجودها، بما فيه استعدادها لخوض حرب متعددة الساحات، ضد فلسطينيي غزة والضفة، وضد “حزب الله” في لبنان، وضد نفوذ إيران في المنطقة، وحتى في إيران ذاتها، كحرب استنزاف أو كحرب شاملة.

وتستند إسرائيل في حروبها تلك إلى الإجماع المتشكّل فيها، وقوتها العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وتوفّر معطيات دولية وإقليمية تدعمها، خاصة بوقوف الولايات المتحدة معها، في ظل قيادة أيديولوجية تتوخى الهيمنة على فلسطين، من النهر إلى البحر، وتعزيز مكانتها في الشرق الأوسط، بدعوى مواجهة نفوذ إيران في بلدان المشرق العربي. علما أن إسرائيل تستند، في الجهة المقابلة، إلى أطراف لا تملك حدا، ولو نسبيا، من القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، بقدر استنادها إلى عقلية قدرية، وروح شعاراتية وعاطفية، وأوهام عما يسمى “وحدة الساحات”، أو “توازن الرعب” أو “قواعد اشتباك”، ثبت أنها لم تشتغل على أرض الواقع وفي حيّز التجربة. وإن إسرائيل لا تبالي البتّة بها.

اللافت أن ذلك يحصل رغم تملص إيران والنظام السوري من حصتهما في تلك الحرب، إذ إن الخطاب الثاني لحسن نصر الله، الأمين العام لـ”حزب الله” (يوم 6 أغسطس)، بعد اغتيال فؤاد شكر القائد العسكري البارز في حزبه، نأى بإيران، وبالنظام السوري، عن أي مشاركة، في معركة إسناد غزة، مكتفيا بدعمهما للميليشيات في العراق واليمن ولبنان وسوريا، بعكس ما جاء في خطابه الأول (1/ 8/ 2024)، الذي أكد فيه أن إيران سترد بقوة على إسرائيل لاغتيالها إسماعيل هنية (رئيس المكتب السياسي وقتها لـ”حماس” على أراضيها).

وربما يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن رسالة يحيى السنوار (رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”)، إلى زعيم ميليشيا الحوثيين في اليمن (16/ 9/ 2024)، تضمنت، أيضا، الفكرة ذاتها، حيت الإسناد ووحدة المقاومة، في كل من اليمن والعراق ولبنان، مستثنية من ذلك دور النظامين في إيران وسوريا. إذ جاء فيها بالنص: “إن تضافر جهودنا مع المقاومة في اليمن ولبنان والعراق، سيلحق الهزيمة بالعدو ويدحره عن وطننا بإذن الله”.

حرب إسرائيل في سوريا

ما تقدم يؤكد أن إسرائيل، في ظل حكومة بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، حسمت أمرها باتجاه حرب طويلة وقاسية ومؤلمة ومكلفة، وفقا للمعطيات التي ذكرناها، وها هي قامت بضرباتها تلك في لبنان، بعد ضربة قوية وعنيفة، وغير مسبوقة، أيضا، في سوريا (10 سبتمبر)، تمثلت في قيام قوات مختلطة (جوية وبرية) من جيشها بعملية في منطقة مصياف (ريف حماة)، نجم عنها تدمير مركز للتصنيع الحربي، يعمل لصالح “الحرس الثوري” الإيراني، و”حزب الله”.

لنلاحظ أن إسرائيل منذ حربها ضد فلسطينيي غزة، بعيد “طوفان الأقصى” (10/ 7/ 2023)، استهدفت سوريا 106 مرات، 73 منها جوية و33 برية، دمرت خلالها 207 أهداف، كمستودعات سلاح وذخائر ومقرات وآليات، ما تسبب في مقتل 265 من العسكريين، وفقا لإحصاءات “المرصد السوري لحقوق الإنسان” (حتى أواخر أغسطس 2024). وللمقارنة، فقد استهدفت إسرائيل سوريا، في العام الماضي (2023)، 48 مرة، 17 منها منذ الحرب على غزة، قتل وأصيب خلالها أكثر من 200 شخص، 96 منهم عسكريون.

وكانت إسرائيل قد استهدفت سوريا طوال العقد الماضي، لكنها صعدت هجماتها منذ عام 2018، بشن مئات الغارات والضربات الصاروخية التي استهدفت مطارات ومخازن أسلحة وقوافل تسلح وشخصيات قيادية في الميليشيات، وقد تزايد ذلك مع حرب إسرائيل في غزة.

… وحربها ضد إيران

لم تكتف إسرائيل باستهداف الوجود الإيراني العسكري والميليشياوي في سوريا ولبنان، إذ عمدت إلى تنفيذ عمليات كبيرة في إيران ذاتها، وكان آخرها اغتيال إسماعيل هنية، كما قدمنا (1/ 8). وللتذكير، فقد افتتح عام 2020 وخُتم بعمليتي اغتيال كبيرتين، الأولى تمثلت باغتيال قاسم سليماني، قائد “الحرس الثوري” الإيراني (بغداد 3/ 1/ 2020)، مع عدد من قادة الميليشيات العراقية التابعة لإيران، من قبل القوات الأميركية (وهو جزء من استهداف إسرائيلي أيضا). والثانية تمثلت في اغتيال إسرائيل لمحسن فخري زاده (27/ 11/ 2020)، مهندس المشروع النووي الإيراني، علما أن تلك العملية تمت قرب طهران.

وكانت إسرائيل قد اغتالت العميد رضا موسوي مسؤول الإمداد للحرس الثوري الإيراني، جراء ضربة صاروخية على منطقة السيدة زينب (أواخر عام 2023)، وبعده اغتالت حجة الله أميدوار، مسؤول استخبارات “الحرس الثوري” في سوريا، في غارة جوية على مبنى بحي المزة غرب دمشق (أوائل عام 2024)، لكن أبرز عملية اغتيال كانت للعميد محمد رضا زاهدي (قائد “فيلق القدس” ومنسق أنشطة “الحرس الثوري” في سوريا ولبنان)، الذي قضى في غارة على قنصلية إيران في دمشق (1/ 4/ 2024).

 

استهدفت إسرائيل منذ حربها ضد غزة، سوريا 106 مرات، 73 منها جوية و33 برية، دمرت خلالها 207 أهداف

 

 

بيد أن أكبر وأخطر عمليات إسرائيل ضد إيران تمثلت بتهديد برنامجها النووي. وضمن ذلك تأتي العملية التي تمثلت في تسلل قوة خاصة إلى منطقة قرب طهران (يناير 2018)، واستيلائها على أجزاء من الأرشيف النووي الإيراني (من منشأة “تورقوزآباد”). أيضا تمثل ذلك باستهداف مفاعل نطنز النووي، قرب أصفهان (أبريل 2021)، بهجوم إلكتروني تسبب في بعض الانفجارات، وهو الأمر الذي تكرر مؤخرا باستهداف إسرائيل قاعدة عسكرية قرب نطنز مرة ثانية (أبريل 2024)، بطائرات مسيرة، كأن إسرائيل تقول في ذلك إن المفاعلات النووية الإيرانية في دائرة الاستهداف، وتلك العمليات تقارب، أو تشابه، العملية التي نفذتها إسرائيل في تفجيرات أجهزة “البيجر”، ووسائل الاتصال، في منتسبي “حزب الله” في لبنان وسوريا.

استهداف لبنان

أدى انخراط “حزب الله” في ما سماه “حرب إسناد” غزة، إلى قيام إسرائيل باستهدافه، لوضع حد لتهديداته، وبدعوى مواجهة نفوذ إيران، وبهدف إعادة الإسرائيليين إلى بيوتهم وبلداتهم التي هجروها في الشمال، وقد نجم عن ذلك تهجير أكثر من مئة ألف من اللبنانيين من بيوتهم وقراهم وبلداتهم، في ظروف صعبة، لا يمكن مقارنتها بتهجير الإسرائيليين، الذين تؤمن لهم حكومتهم وضعا معاشيا مناسبا، في منتجعات وفنادق.
ما يفترض ملاحظته هنا، أيضا، واقع التزام “حزب الله” بما يسميه “قواعد الاشتباك”، أي عدم القيام بأي ضربة فوق السقف الذي يمكن أن تتحمله إسرائيل، وهو لا زال ملتزما بذلك، تجنّبا لردة فعل قوية، تحتاجها إسرائيل كفرصة لتوجيه ضربة أقسى وأعنف للبنان، في حين أنها هي لا تلتزم بأية قواعد للاشتباك، بل إنها تتعمّد توجيه ضربات قوية للبنان ولـ”حزب الله” كما حدث في تفجيرات أجهزة “البيجر”، ووسائل الاتصال، وفي عمليات الاغتيال التي نفذتها، وضمنها اغتيال صالح العاروري، القائد في “حماس” (يناير 2024)، واغتيال فؤاد شكر، القائد العسكري لـ”حزب الله” (يوليو 2024)، وفي العملية التي قضت فيها على نخبة من قياديي “الحزب” العسكريين أبرزهم إبراهيم عقيل، وأحمد محمود وهبي، في قصف مبنى من عشرة طوابق أدى إلى تدميره بالكامل (20 سبتمبر)، وكلهم قضوا في الضاحية الجنوبية لبيروت.

 

أ ف ب أ ف ب

تصاعد الدخان من موقع غارة إسرائيلية استهدفت قرية الخيام في جنوب لبنان في 22 سبتمبر 

إضافة إلى ما تقدم فإن مشكلة “حزب الله” أنه بنى أسطورته على فكرة أن “إسرائيل أوهن من خيوط العنكبوت”، وأن صواريخه تهددها، وأن “المقاومة والممانعة”، وفق مبدأ “وحدة الساحات” ستضع حدا لاعتداءاتها، وستجعلها “تقف على رجل واحدة”! وكلها أمور تبينت عن خواء قاتل، بقدر الهجمة المفاجئة والصاعقة التي حدثت بتفجير “البيحر” بآلاف من منتسبي “حزب الله”، وبقدر تدمير البناية التي أودت بنخبة من قيادييه.
اللافت أن “الحزب” يتحدث عن عدم منح إسرائيل فرصا لإشعال حرب إقليمية في المنطقة، وأن مشاركته في معركة إسناد غزة هي وقف حرب إسرائيل في غزة، وأن الصراع معها يتطلب الحكمة، وليس بالضربة القاضية، وإنما الكسب بالنقاط، وبالتدريج، وهو محق في ذلك، باستثناء تفصيل صغير وهو أن تلك الحكمة أتت متأخرة، وللاستهلاك والتغطية على التهرب، من كل الشعارات أو الادعاءات السابقة.
ومعلوم أن معركة الإسناد هذه، التي اختارها “حزب الله”، على هذا الشكل، للتغطية على التهرب من شعار “وحدة الساحات”، نجم عنها قتل إسرائيل أكثر من 500 من اللبنانيين (منذ الثامن من أكتوبر 2023) ضمنهم أبرز كوادر “حزب الله”، مقابل 44 إسرائيليا فقط، سقطوا نتيجة قذائف “حزب الله” طوال الأشهر الماضية، بمعنى أن الفجوة هائلة جدا بين الطرفين على الصعد كافة، لكن ضربة إسرائيل الأخيرة، المتمثلة في التفجيرات الجماعية والقصف في مربعه الأمني، كانت الأعنف والأقسى والأخطر والأكثر تأثيرا.
المشكلة الأساسية باختصار لا تتوقف، فقط، على الخلل في موازين القوى، وضمنها العسكري والتكنولوجي والاقتصادي، وهي لصالح إسرائيل، التي هي وضع دولي أفضل، وإنما، أيضا، بخوض الصراع معها وفق إدراكات غيبية وقدرية، لا تفيد ولا تتفوق على إسرائيل في شيء سوى الاستعداد لتقديم الضحايا، بالألوف وعشرات الألوف، مع التباهي بذلك، في حين تحضّر إسرائيل، علنا، لحرب وحشية على لبنان، تشابه وضع حربها على فلسطينيي غزة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M