محمود قاسم
دخلت الحرب الروسية الأوكرانية نهاية سبتمبر الماضي مرحلة موازية من التصعيد لا تقل خطورتها عن المعارك الدائرة بين الطرفين في عدد من جبهات القتال، وذلك على خلفية تفجيرات خطي نورد ستريم 1 و2 اللذين ينقلان الغاز الطبيعي الروسي تحت بحر البلطيق إلى ألمانيا، وعلى الرغم من أن الفاعل لا يزال مجهولا وسط استمرار التحقيقات والاتهامات المتبادلة بين روسيا والغرب، إلا أن تلك التفجيرات قد أضفت بعدًا جديدًا للتطورات التي تشهدها الحرب الأوكرانية، وذلك في ضوء الاعتبارات المتعلقة بوضع الطاقة كأحد الأدوات التي يمكن أن تضاعف من حجم الضغوط على الغرب في ظل الاعتماد المفرط على الغاز الطبيعي الروسي لتلبية احتياجات أغلب دول القارة الأوروبية.
روايات متعددة
تُجمع كافة التقديرات الأمنية والفنية علي أن خطوط الأنابيب كانت قد تعرضت لانفجارات قوية ومدبرة بشكل جيد وتمت بفعل فاعل، وهو ما أشارت إليه كل من السويد، والدنمارك، وبولندا، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية بجانب رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، حيث أكدوا جميعًا ان التسريبات ناجمه عن عمل تخريبي مقصود، إلا أن التعقيدات المرتبطة بمنفذ تلك الهجمات والمسؤول عنها لا تزال موضعًا للجدل، خاصة في ظل المساعي المتواصلة من قبل كافة الأطراف لتحميل المسؤولية للطرف الثاني.
وفي هذا الإطار، وصف الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” التفجيرات بأنها “عمل إرهابي دولي”، معتبرًا أن الهجمات على خطوط الأنابيب تعد سابقة خطيرة، وعليه فقد القى بالمسؤولية على الولايات المتحدة الأمريكية، وأوكرانيا وبولندا واصفًا إياهم بالمستفيدين، الأمر الذي رفضته الدول الغربية معتبرين أن روسيا هي من تقف وراء تلك الأعمال التخريبة بهدف ممارسة مزيد من الضغط على الدول الأوروبية. ولا يمكننا تحديد الفاعل ولكننا نستطيع البحث عن المستفيد. وسنسعي إلي تحديد مكاسب وخسائر كل طرف من الأطراف التي يمكن أن تستفيد من تلك التفجيرات، طالما أن التحقيقات لم تكشف بعد عن الفاعل الحقيقي، كما لا يُرجح حتى في حال تحديده أن تُنهي تلك النتائج الاتهامات بين مختلف الأطراف.
فبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ينظر إليها كأحد الأطراف الرئيسية المستفيدة من تلك التفجيرات، حيث يمكنها أن تُجنى عدد من المكاسب، من بينها أن تزامن تلك التفجيرات مع اقتراب الشتاء يمكن أن يُزيد من مشاعر الغضب والاستياء الأوروبي ضد روسيا، ما قد يُنهي أية محاولات من قبل بعض الدول للتراجع عن فرض العقوبات على روسيا بهدف الحد من تأثيرات نقص إمدادات الطاقة، حيث لا تزال تتخوف واشنطن من أن يتسبب احتياج الدول الأوروبية للغاز الروسي في انقسام الكتلة الغربية وابتعاد بعض الدول عن المسار الأمريكي في التصعيد ضد روسيا. علاوة على أن واشنطن قد تعظم مكاسبها من خلال زيادة صادرتها من الغاز الطبيعي المسال لأوروبا ما يضمن لها مزيد من العوائد المادية، ويحد من قبضة روسيا على أوروبا. ويري الكثيرون أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام من خط نورد ستريم يدعم افتراض ضلوعها في التفجير، حيث صرح الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مطلع فبراير الماضي ” إن نورد ستريم سينتهي أمره إذا غزت روسيا أوكرانيا”.
وفيما يتعلق بإمكانية قيام روسيا بالتفجيرات، تشير التقديرات لأن ذلك يضمن لها جملة من المكاسب من بينها أنها لن تجد نفسها في حاجة لتبرير أسباب قطعها لإمدادات الغاز لأوروبا، حيث يوفر لها التفجير أسبابًا خارجه عن ارادتها، وبالتالي يضمن مواصلة تسليح الطاقة بهدف التأثير على التضامن الجمعي والاصطفاف الأوروبي بجانب أوكرانيا، ويرى أصحاب هذه النظرية أن روسيا يمكنها أن تعوض خسائرها المادية جراء وقف امدادات الغاز من خلال الأسواق البديلة عبر زيادة صادراتها للصين والهند وبعض الدول الآسيوية. ومع ذلك يرى البعض أن ممارسة الضغط على أوروبا لم يكن بحاجة لقيام روسيا بالتفجير، خاصة أن ذلك من شأنه أن يضر بالبنية التحتية لخطي نورد ستريم والذي تكلف بناؤه ما يقرب من 15 مليار يورو. ويسوق البعض حجة أخري وهي أن روسيا أرادت توجيه رسالة مفادها أنها تمتلك عدة وسائل وتكتيكات للتصعيد غير اللجوء إلي النووي، ومنها مثلا تفجير الكابلات البحرية
على ذات المنوال، كانت أوكرانيا ضمن الأطراف التي يمكن أن تحقق استفادة من التفجيرات، إذ أن ذلك من شأنه أن يزيد من حالة الاستنفار الأوروبي ضد روسيا، ومن ثم اندفاع دول الناتو لتوسيع مسارات الدعم العسكري لأوكرانيا، كما أن الإضرار بمورد اقتصادي حيوي بالنسبة لروسيا قد يكون ضمن حسابات أوكرانيا للتأثير على الأداء الاقتصادي لروسيا ومن ثم وضعها في مأزق يرتبط بتوفير مصادر لتمويل جهودها العسكرية في أوكرانيا.
اتصالًا بما سبق، يمكن أن تستفيد تركيا من هذه التفجيرات، بما يعزز موقعها في معادلة الطاقة الأوروبية، فمع تفجير خطي نورد ستريم، وتوقف الإمدادات الروسية عبر خط يامال-أوروبا لن يبقى امام نقل الغاز الروسي لأوروبا سوى خط ترك ستريم، الأمر الذي يزيد من الأهمية الجيوسياسية لأنقرة ويمكنها من تحقيق عدد من المكاسب، ولعل طرح فكرة تحويل تركيا لمركز لإمداد أوروبا بالغاز الروسي في اجتماع “كازاخستان” (13 أكتوبر) قد تصب في الاتجاه الرامي لتأييد مكاسب تركيا من التفجير.
وسط كل هذه الاتهامات لا تبتعد بولندا عن تلك الدائرة، وذلك في ضوء ما نشره وزير الخارجية البولندي السابق “رادوسلاف سيكورسكي” في تغريدة قال فيها “أنا سعيد لأن نورد ستريم، الذي حاربت ضده جميع الحكومات البولندية لـ 20 عاما، مشلول في 3 أرباعه، وذلك أمر جيد لبولندا”، من هنا يمكن أن تُعزز التفجيرات مكاسب بولندا، خاصة أنها تزامنت مع إطلاق خط أنابيب البلطيق (27 سبتمبر) والذي يربط النرويج ببولندا، والتي اعتبرته الأخيرة هدفًا استراتيجيًا خلال السنوات الماضية، ومع ذلك فقد تُضعف الكميات التي سيتم نقلها عبر الخط من تلك الفرضية، وقد يكون التزامن من باب المصادفة، إذ أن الخط سوف ينقل نحو 10 مليار متر مكعب سنويًا من النرويج إلى بولندا، و 3 مليار متر مكعب من بولندا إلى الدنمارك.
مسارات محتملة
نستطيع أن نقيم الجهود الأوروبية لإنهاء الإعتماد علي الغاز الروسي بطريقتين، التركيز علي ما تم وهو تقليل حاد من هذا الاعتماد حيث تراجعت الواردات من الغاز الطبيعي من ٣٦٪ إلي ٩٪ بسرعة فاقت كل التوقعات، أو تفضيل فشل أوروبا في إنهاء الاعتماد علي الغاز الروسي، فما زالت ٩٪ تشكل نسبة هامة ومؤثرة
وأيا كان الأمر، في ظل حالة الشد والجذب بشأن الاعتماد الأوروبي على الغاز الطبيعي الروسي ومساعي موسكو للمساومة بتلك الورقة في حربها مع الغرب، يمكننا الإشارة إلى اتجاهين قد يمثلان محور التفاعلات المستقبلية بين الطرفين سواء مع استمرار الحرب أو في حاله نشوب أية خلافات أخرى بين الطرفين ترتبط بالغاز الطبيعي بشكل خاص والطاقة بشكل عام، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:
اولاً) قيام روسيا بقطع الإمدادات
يفترض هذا المسار، قيام موسكو حال استمرار التصعيد بالاندفاع لقطع إمدادات الغاز عن الدول الأوروبية؛ بهدف ممارسة مزيد من الضغوط، ووضع الغرب في مأزق تلبية الاحتياجات الداخلية، خاصة وأن التوترات الحالية تتزامن مع أزمة طاقة غير مسبوقة لم تعشها أوروبا منذ السبعينات، وذلك بفعل انخفاض المخزون من الغاز الطبيعي وارتفاع الأسعار بشكل كبير.
وعليه فتسليح الغاز قد يُصيب الدول الأوروبية بنوع من الارتباك في ظل الاعتماد الكبير على الغاز الروسي؛ خاصة مع امتداد الحرب لفصل الشتاء، وهو ما يفاقم من صعوبة الأوضاع، في ظل الحاجة لمزيد من مصادر التدفئة، علاوة على البحث عن توليد الكهرباء لخدمة أغراض التصنيع، خاصة في الصناعات التي تعتمد على الغاز الطبيعي بصورة كبيرة، يضاف لذلك حالة التأزم المرتبطة بتوجه بعض الشركات لخفض الانتاج في ظل تصاعد وارتفاع أسعار الغاز الطبيعي.
ومع ذلك فعلى المدى القصير، قد لا تجد الدول الأوروبية نفسها في مأزق رغم التحديات المرتبطة بالغاز الطبيعي، خاصة بعدما تمكنت دول الاتحاد الأوروبي من تخزين نحو 90.65% حتى منتصف أكتوبر الجاري، وبذلك تكون قد حققت الهدف الاستراتيجي لدول الاتحاد، حيث نجحت أغلب الدول الأوروبية في تجاوز الهدف المعلن الذي وضعته المفوضية الأوروبية والتي استهدفت خلاله تخزين ما نسبته 80% من الغاز الطبيعي بحلول نوفمبر القادم.
رغم ذلك يظل الهدف الاستراتيجي لدول الاتحاد الأوروبي والمتمثل في انهاء الاعتماد على الغاز الروسي مرتبطًا بعدد من الاعتبارات، لعل أبرزها ما يمكن أن توفره المسارات البديلة سواء من خلال الغاز الطبيعي المسال (قطر، الولايات المتحدة الأمريكية) أو المناطق الواعدة بالغاز الطبيعي (دول شرق المتوسط المنتجة للغاز) أو عبر خطوط الأنابيب الأخرى (أذربيجان، النرويج). كما أن نجاح الدول الأوروبية في تحقيق الأهداف المناخية المرتكزة على الحد من استخدام الوقود الأحفوري وإيجاد بدائل له قد تصب في ذات الهدف، إلا أن الأمر قد يستغرق وقتًا طويلًا، ما يجعل الدول الأوروبية مرتبطة بالغاز الروسي حتى تتمكن من تحقيق تلك الأهداف.
في هذا الإطار، لعب الغاز الروسي دورًا محوريًا في رخاء أوروبا أوروبا وقد يستمر هذا الدور في المستقبل، خاصة وأن موسكو وفرت نحو 40% من استهلاك أوروبا من الغاز خلال عام 2021، كما أن أكثر من ربع واردات الاتحاد الأوروبي من النفط أتت من روسيا، ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل أن ملامح الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي تتجلى بصورة واضحة لدى عدد من الدول وعلى رأسها المانيا كونها من الدول الصناعية الكبرى، حيث تشير التقديرات إلى أن وارداتها من الغاز الطبيعي الروسي بلغت نحو 49 ٪ خلال عام 2021.
ويؤكد احتياج أوروبا للغاز الروسي إمكانية توظيفه في حال احتدام المواجهة واتساع نطاقها، ويعزز هذا الافتراض الخبرة التاريخية الروسية في هذا الأمر؛ فقد أظهرت أزمتا الغاز بين روسيا وأوكرانيا 2006 و2009 والخلاف على رسوم عبور الغاز عبر أوكرانيا إمكانية إقبال موسكو على حظر الإمدادات ولو جزئيًا، فقد انعكس وقف الإمدادات من قبل روسيا بالسلب على عدد من دول أوروبا الشرقية خاصة التي تعتمد بشكل كامل على روسيا.
ورغم ذلك فقد تم تجاوز تلك الخلافات ولم تستمر لفترات طويلة، كما أن الخلاف كان يدور بالأساس على تباين في الأسعار المرتبطة برسوم العبور، على خلاف التوتر الناشئ بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، ما يعني أن توظيف الغاز قد يكون مؤلمًا إذا ما أرادت روسيا أن تصعد من اجراءات منع الغاز عن أوروبا، وسوف يتحكم في هذا المسار مجريات وتطورات المشهد على الأصعدة السياسية والعسكرية والميدانية، إذ أن مزيد من الخسائر الروسية يمكن أن يدفع “بوتين” لتوظيف كافة أدواته من بينها تسليح الطاقة، والاندفاع نحو قطع الإمدادات بشكل تام، حيث تشير التقديرات لإن حسابات الرئيس الروسي غالبًا ما تخالف التوقعات كلما وجد موقف بلاده في مأزق.
ثانياً) تقليص الإمدادات دون قطعها
يفترض هذا المسار، احتفاظ موسكو بورقة الطاقة ضمن أدواتها المؤثرة في الصراع مع الغرب، ومحاولة توظيفها في ممارسة ضغوط على السوق الأوروبية المتعطشة للغاز الطبيعي. وعليه يمكن أن تلجأ موسكو إلى تقليل صادراتها من الغاز الطبيعي للدول الأوروبية دون منعه بشكل تام.
وذلك لعدد من الاعتبارات، من بينها استمرار روسيا في إرسال الغاز إلى أوروبا بشكل منتظم في كافة الأزمات الكبرى التي خاضها الطرفان، كما هو الحال خلال الحرب الباردة، وفي اعقاب ضم شبه جزيرة القرم. يضاف إلى ذلك ارتباط موسكو بعقود نقل وتوريد الغاز للدول الأوروبية وأهمية قطاع الطاقة في الاقتصاد الروسي
ترتيبًا على ما سبق، لا يُرجح أن تندفع موسكو في السير تجاه قطع إمدادات الطاقة بشكل كامل عن الدول الأوروبية، خاصة في ظل تزايد عائدات النفط والغاز الطبيعي، فخلال عام 2021 بلغت صادرات روسيا نحو 489.8 مليار دولار، من بينها 110.2 مليار دولار للنفط الخام، مقابل 68.7 مليار دولار للمنتجات النفطية، ونحو 54.2 مليار دولار من عائدات تصدير الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب.
من ناحية أخرى، وصلت صادرات الغاز الطبيعي المسال 7.6 مليار دولار سنة ٢٠٢١، وقد ساهم الارتفاع غير المسبوق للأسعار في تحقيق مكاسب وعوائد اقتصادية ضخمة بالنسبة لروسيا، حيث تشير التقديرات لأن وزارة المالية الروسية اثناء الإعداد لميزانية عام 2021 كانت قد توقعت أن يصل سعر برميل النفط 45 دولارًا، إلا أن سعر البرميل وصل لما يقرب من 70 دولارًا للبرميل، ما ساهم في تحقيق طفرة اقتصادية لم تكن متوقعة.
اتصالًا بما سبق، تشير التقديرات لأن ارتفاع الأسعار رغم انخفاض الكميات التي تصدرها روسيا للدول الأوروبية ساهم في الحد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية لروسيا بشكل ما، فخلال الأشهر الخمسة الأولى من الحرب حققت موسكو مكاسب من صادرات النفط والغاز بلغت نحو 95 مليار دولار، وهي نسبة تعادل ثلاثة أضعاف التي كانت تحققه من تصدير الغاز لأوروبا في فصول الشتاء قبل الحرب على أوكرانيا.
ولعل هذه الأسباب كفيله باستبعاد سيناريو قطع الإمدادات بشكل تام، وقد تستمر موسكو في نهج تقليص الإمدادات بهدف الضغط على أوروبا لإيقاف العقوبات الاقتصادية أو الحد منها، خاصة أنها تراهن على عدم قدرة بعض الدول الأوروبية على الصمود لأوقات طويلة في حال استمرار خفض الإمدادات، ما قد يدفع تلك الدول لتبني موقف يدعم رفع العقوبات عنها، وقد عبر عن ذلك بصورة واضحة المتحدث باسم الرئيس الروسي “ديمتري بيسكوف” في سبتمبر 2022حيث أكد على أن الكرملين يريد من الاتحاد الأوروبي التراجع عن عقوباته مقابل استئناف روسيا شحنات الغاز بالكامل إلى القارة.
في الأخير، كانت تفجيرات خطي نورد ستريم مضاعفًا للتحديات التي تفرضها الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أنها فتحت الباب أمام تساؤلات عديدة مرتبطة بحدود التوظيف الممكن من قبل الكرملين لسلاح الطاقة ضد الغرب، حيث تشير التقديرات لأن استمرار الحرب وتصاعد الخسائر العسكرية لروسيا في ظل الصحوة الأوكرانية خلال الأسابيع الماضية قد تزيد من أهمية الطاقة في معادلة الحرب، وقد تلجأ إليها موسكو في إطار اختبار قدرة عدد من الدول الأوروبية على الاستمرار في الصمود.
.
رابط المصدر: