مارى ماهر
تقع تركيا على خط المواجهة بين روسيا وأوكرانيا نظرًا لاعتبارات الشراكة الاستراتيجية مع البلدين وكونها عضوًا في حلف الناتو بما يضعها تحت ضغط الموازنة بين التزاماتها بموجب الحلف والاعتماد الاستراتيجي المتزايد على روسيا، وهو ما دفعها للتحرك بخطوات حذرة في الأزمة الأخيرة اقتصرت على التنديد بالقرار الروسي بالاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين بإقليم الدونباس شرق أوكرانيا في 21 فبراير الجاري، وعرض قيادة وساطة إقليمية بين طرفي الصراع. ورغم أن الموقف التركي لا ينفصل عن مثيله الغربي، وبالأخص الأوروبي، إلا أن المصالح التركية عرقلت اتخاذ خطوات عقابية ضد روسيا.
دور محدود
تطلعت تركيا من خلال الأزمة الأوكرانية لاستكشاف خيارات جديدة لزيادة وجودها السياسي الإقليمي، فراحت تطلق مرارًا وتكرارًا الدعوات لقيادة وساطة إقليمية واستضافة محادثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، بل وأجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة إلى العاصمة كييف في 3 فبراير لإبداء جدية طرحه الذي كرره خلال لقائه “زيلينسكي” وراح يتحدث عن زيارة مرتقبة لبوتين إلى بلاده عقب العودة من الأولمبياد الشتوية في بكين. كان هذا قبل الاعتراف الروسي الأخير باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، لكن بينما حظيت تلك النداءات بترحيب أوكراني، فإنها لم تجد صداها لدى الكرملين الذي اكتفى بإرسال رسائل تحذيرية لأنقرة من التمادي في التماهي مع الموقف الأوكراني، وشملت اعتقال صحفيين تركيين في موسكو واتهامهما بالتجسس خلال ديسمبر 2021، وتصعيد بوتين لهجة الخطاب السياسي الموجه لنظيره التركي أردوغان.
وقد كان الموقف الروسي مدفوعًا بالانزعاج من إمداد تركيا لأوكرانيا بطائرات دون طيار من طراز “بيرقدار” التي غيرت قواعد اللعبة خلال حرب ناجورنو كره باخ العام الماضي، وساهمت في ترجيح كفة حكومة الوفاق الوطني الليبية السابقة بمواجهة قوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، فضلًا عن نظرتها للدور التركي باعتباره غير نزيه ولا يُمكن فصله عن سياق عضويتها في حلف شمال الأطلسي.
أما تركيا من جهتها، فكانت تدرك محدودية دورها المحتمل، والتطلع فقط إلى العمل كمنصة حوارية ثلاثية للتهدئة من حدة الأزمة، وتقليل احتمالات حدوث مواجهة عسكرية ستؤثر بشكل مباشر على مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة، وذلك على غرار منصة الاستقرار والتعاون القوقازية التي أطلقتها عقب الغزو الروسي لمنطقة أوسيتيا الجنوبية بجورجيا عام 2008 التي أسفرت عن تسوية مؤقتة بين روسيا وجورجيا، دون قيادة مفاوضات شاملة لا تحظى بترحيب موسكو التي تتطلع إلى حوار أشمل مع الناتو –يتجاوز تركيا– لانتزاع ضمانات أمنية طويلة الأمد.
إلا أن السباق الدبلوماسي المحموم الذي سبق الاعتراف الروسي بالجمهوريتين المذكورتين أظهر محدودية هامش المناورة أمام دوائر صناعة القرار الاستراتيجي التركي، ومن ثم العجز عن تلبية طموحات أردوغان بشأن تصوير بلاده باعتبارها قوة إقليمية وحليفًا لا غنى عنه؛ إذ تجاوزت الجهود الدبلوماسية لإيجاد مخرج للأزمة الإشارة لأي دور محتمل لأنقرة، في حين تصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان على خلاف طويل مع أردوغان، التحركات الأوروبية لاحتواء الأزمة، ولعب المستشار الألماني أولاف شولتز دورًا رئيسيًا أيضًا. علاوة على أن عرض زيلينسكي لاجتماع يضم تركيا وألمانيا وأوكرانيا وأعضاء مجلس الأمن الدائمين، في 22 فبراير، لم يلق استجابة دولية حتى الآن، إذ يُبقي القادة الغربيون توقعات منخفضة تجاه الأدوار التركية المحتملة بالنظر لعلاقتها الاستراتيجية مع روسيا ويعتبرونها شريكًا غير موثوق فيه.
وعقب اعتراف الكرملين باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الواقعتين في إقليم الدونباس يوم 21 فبراير، اكتفى المسئولون الأتراك بخطابات الشجب والتنديد، حيث أعربت وزارة الخارجية التركية عن رفضها للخطوة، ودعت موسكو إلى احترام وحدة أراضي أوكرانيا، ودعا أردوغان كييف وموسكو إلى استئناف المفاوضات في أقرب وقت ممكن، وحث الناتو على تحديد موقفه من الأزمة، وذلك خلال تصريحات له أثناء عودته من جولة إفريقية لحضور قمة الحلف الطارئة في 23 فبراير، مستبعدًا فعليًا أي احتمال لانضمام أنقرة إلى العقوبات الغربية على موسكو.
حسابات أنقرة
تبرز جملة من العوامل التي دفعت تركيا لتبني نهج محايد يميل إلى التهدئة تتلخص في التشابكات المصلحية مع طرفي الصراع، والتوازنات الجيوسياسية في البحر الأسود، وهو ما يُمكن تفصيله تاليًا:
• تأمين عمليات نقل التكنولوجيا العسكرية الأوكرانية: تتطلع أنقرة إلى زيادة التعاون العسكري التقني مع أوكرانيا في وقت تتعرض فيه صناعتها الدفاعية للشلل بسبب العقوبات الأمريكية، وكان آخرها خلال يناير الفائت عندما وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن مشروع قانون يسمح للحكومة الأمريكية بتتبع وتقييم تداعيات الأمن القومي لبرنامج الطائرات بدون طيار التركي بهدف محاصرة القطاع العسكري التركي. وعليه، يُمكن لعمليات نقل التكنولوجيا الجارية مع أوكرانيا تعزيز القدرات العسكرية لأنقرة التي تفتقر صناعتها الدفاعية لتكنولوجيا المحركات، ففي أكتوبر 2021 وافقت شركة “موتور سيتش” -إحدى أكبر الشركات المصنعة لمحركات الطائرات والمروحيات في العالم- على تزويد شركة الدفاع التركية “بايكار” بـ30 محركًا توربينيًا لاستخدامها في طائراتها الدرون الهجومية “بيرقيدار آقنجي”، كما وافقت شركة “Zorya Mashproekt” على صفقة توريد توربينات غاز للسفن البحرية التركية.
كذلك، يحمل التعاون الدفاعي بين البلدين بُعدًا آخر يتعلق بالتصنيع العسكري المشترك؛ حيث وقّعت شركة “بايكار” التركية صفقة لبناء مصنع بالقرب من العاصمة الأوكرانية خلال سبتمبر 2021 لإنتاج الطائرات بدون طيار “بيرقدار TB2” باستخدام المحركات المنتجة في أوكرانيا. وفي الأشهر الأخيرة، ناقش البلدان الإنتاج المشترك لسفن كورفيت وطائرات نقل عسكرية من طراز AN-178 ومحركات التوربينات. وتخشى أنقرة أن تشن روسيا هجمات حركية أو سيبرانية تستهدف منشآت الصناعة الدفاعية الأوكرانية والبنية التحتية الاستراتيجية التي بدورها ستؤثر على برامج التعاون الثنائي، حيث تعتبر موسكو تطور العلاقات الدفاعية بين كييف وأنقرة تهديدًا مباشرًا لأمنها.
• إبراز القدرة والمكانة الدولية والإقليمية: تحاول تركيا لعب أدوار نشطة ومستقلة في العديد من مناطق الصراع الجيوسياسي، وتنظر للأزمة الأوكرانية باعتبارها فرصة نادرة لتحسين العلاقات المتوترة مع الحلفاء التقليديين في الولايات المتحدة والناتو، وإعادة الانخراط مع الغرب لتخفيف بعض الضربات التي تلقتها جراء سياستها الخارجية المتهورة وتدهورها الديمقراطي، وفي الوقت ذاته إحراجهم عبر تقديم نفسها باعتبارها فاعلًا دوليًا محايدًا قادرًا على صناعة القرار الإقليمي وقيادة وساطات ناجعة فشلت الحكومات الغربية في إنجازها. ففي تصريحات صحفية أثناء عودته من كييف، اتهم أردوغان نظيره الأمريكي جو بايدن بالفشل في إظهار نهج إيجابي لاحتواء الأزمة الأوكرانية، معتبرًا أن أوروبا تعاني مشاكل خطيرة على مستوى القيادة بعد غياب المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل وضعف القيادة الجديدة في مواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا، والاكتفاء فقط بحماية مشروع “نورد ستريم 2”. كما وصف الإعلام التركي لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في 7 فبراير الجاري بالمحرج، وأنه عاد خالي الوفاض. ولا شك أن نجاح أردوغان في تحقيق خطوات إيجابية على صعيد الأزمة الأوكرانية سينعكس على مكانة بلاده في النظام الدولي وعلى شعبيته الداخلية التي تضررت بشدة نتيجة تردي الوضع الاقتصادي.
• موازنة الوجود الروسي في البحر الأسود: يتنامى القلق التركي بشأن استمرار التمدد الروسي بالقرب من حدودها في البحر الأسود ومناطق جنوب القوقاز بشكل يخل بميزان القوة العسكرية لصالح موسكو، بحيث يتحول البحر الأسود تدريجيًا إلى بحيرة روسية. وقد غير ضم القرم ميزان القوة العسكرية في تلك المنطقة لصالح روسيا، حيث أصبحت روسيا تمتلك منطقة اقتصادية خالصة مساوية تقريبًا للتركية، كما أنها ألغت الاتفاقيات السابقة مع أوكرانيا التي حدت من أسطول البحر الأسود وعززت أسطولها بالسفن السطحية والغواصات المطورة لتمتلك 49 سفينة سطحية مقارنة بـ 26 سفينة قبل عام 2014، محققة تفوقًا على الأسطول التركي المكون من 44 سفينة، وقد تم تجهيز السفن والغواصات بصواريخ كاليبر كروز القادرة على إصابة أهداف على بُعد 2400 كم.
علاوة على تركيب شبكة من المنظومات التسليحية المتطورة في شبه جزيرة القرم كمنظومات “S-400″ و”S-300″ و”Pantsir-S1” المضادة للطائرات ومنظومة “Bastion-P” المضادة للسفن، وغيرها من أنواع الرادارات وأنظمة الحرب الإلكترونية، بحيث أصبح البحر الأسود بأكمله يقع ضمن نطاق هذه الشبكة. وتنظر تركيا للتوسع العسكري الروسي كتهديد لأمنها الجيوسياسي، ولعل ذلك كان الدافع الأكبر لتأييد تركيا تمدد الناتو في أوروبا الشرقية وتوسيع عضويته ليضم أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان ومقدونيا الشمالية لموازنة النشاط الروسي المتزايد في المنطقة.
• الاضطرار إلى الموازنة بين التزاماتها مع الناتو وروسيا: لا تريد تركيا أن تكون مُخيرة بين روسيا وأوكرانيا ومن ورائها الغرب نظرًا لتشابكات مصالحها مع روسيا في مسارح صراع أخرى وشراكتها الدفاعية والاقتصادية مع أوكرانيا. وتاريخيًا، تعاملت أنقرة بحذر تجاه قضية التوسع الروسي في المنطقة، فخلال التدخل الروسي في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بجورجيا عام 2008، رفضت تركيا رفع القيود المفروضة على حجم وعدد السفن الحربية الأمريكية الداخلة إلى البحر الأسود بموجب اتفاقية مونترو، رغم دعمها لبرامج تدريب وتجهيز القوات المسلحة الجورجية التي أطلقها حلف الناتو. وعقب ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 رفضت الانضمام لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا رغم اعتبارها الضم الروسي “غير قانوني”.
وتعتبر اتفاقية مونترو إحدى الأوراق القوية التي تجعل تركيا لاعبًا رئيسيًا في الصراع الروسي الأوكراني، كونها تمنحها سيادة مطلقة على تنظيم حركة الملاحة التجارية والحربية عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وقبل أيام قال السفير الأوكراني لدى تركيا فاسيل بودنار إن بلاده ستطلب من أنقرة إغلاق مضيق البسفور أمام السفن الروسية حال الغزو. ومع ذلك، تخبرنا الخبرات التاريخية أن تركيا لن تشهر تلك الورقة في وجه موسكو، حيث يُشكل هذا الخيار خطًا أحمر بالنسبة للأخيرة، وسيكبد أنقرة ثمنًا باهظًا حال الإقدام عليه، كونه يمثل إخلالًا بتوازن القوى القائم في البحر الأسود واعتداءً على قواعد حرية الملاحة البحرية الدولية المنصوص عليها بموجب الاتفاقية التي تُجيز لتركيا منع مرور السفن والغواصات الحربية للدول التي تكون في حالة حرب مباشرة مع تركيا فقط. ومنذ بدء التوترات اكتفت تركيا بتأكيد التزامها باستقرار التوازن العسكري في البحر الأسود والحفاظ على السلام الإقليمي بموجب اتفاقية مونترو.
• تجنب عرقلة الشراكة الاقتصادية التركية الأوكرانية: بينما يعاني الاقتصاد التركي تدهورًا حادًا تمثل في انخفاض قيمة “الليرة” وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر، تبرز أوكرانيا باعتبارها شريكًا اقتصاديًا لأنقرة لا ترغب في خسارتها، حيث أصبحت تركيا مؤخرًا المستثمر الأجنبي الأول في أوكرانيا بإجمالي استثمارات تركية بلغت 3.6 مليارات دولار عام 2020، ونمت التجارة الثنائية بين البلدين بنسبة 50% تقريبًا خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 لتصل إلى 5 مليارات دولار، ويتطلع الجانبان لرفع حجم التجارة الثنائية السنوية إلى ما يزيد على 10 مليارات دولار في غضون السنوات القليلة المقبلة. وفي هذا الصدد، وقع الطرفان اتفاقية تجارة حرة خلال زيارة أردوغان الأخيرة بموجبها يتم استيراد 95% من البضائع الأوكرانية معفاة من الرسوم الجمركية، ومن شأن الوصول التركي السهل إلى القمح الأوكراني ترسيخ مكانة الأولى كأحد أكبر مصدري منتجات الدقيق في العالم، لذلك تخشى أنقرة أن تعطل الضغوط الاقتصادية الناجمة عن أي حرب محتملة الصفقات التجارية وتضعف الاستثمارات المتبادلة.
توازن دقيق
تتحرك تركيا على حبل مشدود لتحقيق التوازن في علاقاتها مع كييف وموسكو، فرغم تعدد موضوعات الشراكة الاستراتيجية مع أوكرانيا واعتبارها حاجزًا ضد توسع النفوذ الجيوسياسي الروسي في منطقة البحر الأسود، إلا أن الدولة ليست جائزة تستحق إغضاب الشريك الروسي الاستراتيجي، وسيظل نطاق العلاقات بين البلدين محدودًا مقارنةً بموسكو، لذلك يحاول أردوغان إظهار تركيا في موقف محايد، ويرجع ذلك لأسباب عدة منها:
• أولًا: عدم قدرة الاقتصاد التركي المضطرب على تحمل تبعات سيناريو 2015 عندما علقت موسكو السياحة القادمة لتركيا وأوقفت الواردات الزراعية إثر إسقاط الأخيرة طائرة سوخوي روسية على الحدود السورية. وتعتبر روسيا الواجهة الأولى لتدفقات الخضروات والفواكه الطازجة التركية مسجلة مليارًا و13 مليون دولار خلال 2021 ارتفاعًا من 948 مليونًا و817 ألف خلال 2020، كما يشكل السياح الروس والأوكرانيون مكونًا رئيسيًا للمنتجعات السياحية على ساحل بحر إيجه. وعليه سيكون من شأن أي معركة مع موسكو الإضرار بالاقتصاد التركي وبآفاق إعادة انتخاب أردوغان.
علاوة على ذلك، تخشى الحكومة التركية تعطل المشاريع الاقتصادية المشتركة ذات الطابع الاستراتيجي كمشروع بناء محطة الطاقة النووية “أكويو” الذي تنفذه شركة “أكويو نوكليار” التابعة لـ”روساتوم”، أو تقليل إمدادات الغاز الطبيعي الروسي المتدفقة عبر خطي أنابيب “السيل الأزرق” و”تورك ستريم” اللذين يؤمنان النسبة الأكبر من احتياجات البلاد من تلك السلعة الاستراتيجية (من جملة استهلاكها السنوي البالغ 48.1 مليار متر مكعب تشتري تركيا 33.6 مليار متر مكعب من موسكو) بما يشكل ضربة قاصمة لمحاولات إنعاش الاقتصاد التركي. ولعل التبعات السلبية لقرار إيران تعليق ثم تخفيض بنسبة 50% من تدفقات الغاز عبر خط أنابيب “تبريز-أنقرة” بدعوى وجود مشكلات فنية مما أنتج أزمة كهرباء وهدد استقرار القطاع الصناعي، كاشفة لمخاطر قرار كهذا.
• ثانيًا: طوّر الطرفان التركي والروسي نمطًا فريدًا للعلاقات أُطلق عليه “التعاون التنافسي”، فبينما يدعمان أطرافًا متعارضة في النزاعات الليبية والسورية وجنوب القوقاز، إلا أنهما استطاعا الوصول إلى مجموعة من التفاهمات المتبادلة والمستقرة داخل المسارح الإقليمية المختلفة، مظهرين مستوى تنسيقي عاليًا وقدرة على إدارة خلافاتهما واحترامهما لمساحات نفوذ الآخر، وهو النمط الذي تود أنقرة الحفاظ عليه لارتباط مصالحها داخل بعض مسارح العمليات بموافقة موسكو. فعلى سبيل المثال، ستدفع تركيا ثمنًا باهظًا في سوريا حال انقلاب روسيا عليها بسبب موقفها من أوكرانيا، إذ يُمثل الرضاء الروسي ضمانًا لاستمرار السيطرة التركية على المنطقة الآمنة التي أنشأتها القوات التركية بفعل العمليات العسكرية الثلاث المنفذة شمال البلاد، علاوة على أن تنفيذ روسيا بضع طلعات جوية في إدلب كافيًا لإجبار ملايين السوريين على التوجه نحو الحدود التركية، وهو أمر لا تستطيع الأخيرة تحمله نظرًا لاستضافتها أربعة ملايين لاجئ سوري، وتنامي المشاعر المعادية للاجئين بين السكان. ولا يتوقع أن تُبدي روسيا تفهمًا أو تسامحًا مع أي نشاط تركي مزعزع للاستقرار في جوارها المباشر بعكس درجات المرونة الاستراتيجية التي قد تُبديها حيال بعض قضايا الشرق الأوسط، كونها تطلع للأخيرة من منظور استعادة المكانة الدولية وتعزيز القوة الجيوسياسية، بينما تنظر إلى مسائل الجوار المباشر باعتبارها فناء خلفيًا لها وقضية تمس أمنها القومي.
• ثالثًا: مسعى تركيا للحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع موسكو، ولا سيمَّا بعد شعورها بتخلي حلفاء الناتو عنها، واصطفافهم إلى جانب اليونان وقبرص خلال خلافهم الأخير بشأن حقوق التنقيب عن غاز شرق المتوسط. إضافة إلى تجاهل مخاوف أنقرة في سوريا والاكتفاء بمحاولات احتواء أزمة اللاجئين، وضمان منع تمددها إلى الحدود الأوروبية. علاوة على أن تعرض بعض سياسات أردوغان لانتقادات غربية دفعها لتبني أجندة أكثر براجماتية متعددة التوجهات، وتركز على مصالحها ولا تصطف بالضرورة إلى جانب المحور الغربي.
• رابعًا: تجاوز أهداف موسكو الشاملة أوكرانيا إلى مطالبة الناتو بإيقاف التمدد شرقًا، والعودة إلى حدود عام 1997، والامتناع عن نشر أسلحته داخل دول الاتحاد السوفيتي السابق، وهي مواضيع تريد موسكو مناقشتها بشكل مباشر مع واشنطن وحلفائها الغربيين، ولا يتوقع أن تلعب تركيا أدوارًا حقيقية بها. علاوة على أن روسيا راغبة في الحد من محاولات تمدد النفوذ التركي داخل دول الاتحاد السوفيتي السابق التي تعتبرها مجالها الحيوي وساحة نفوذ حصري لها، لا سيمَّا عقب نتائج حرب ناجورنو كاراباخ الثانية، وهو ما عبر عنه كونستانتين زاتولين، النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الدوما لشئون رابطة الدول المستقلة والتكامل الأوروبي الآسيوي والعلاقات مع المواطنين، حيث قال إن “دعوة رئيسي روسيا وأوكرانيا، فلاديمير بوتين وفلاديمير زيلينسكي، لمناقشة الخلافات في تركيا، تمليه رغبة أنقرة في زيادة دورها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، على الرغم من حقيقة أن موقف تركيا قد تم الإعلان عنه في البداية، فهي لا تعترف بعودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا وتواصل تطوير أطروحة “احتلال” شبه جزيرة القرم”.
ختامًا، تتسم التفاعلات التركية مع الأزمة الأوكرانية بالحذر الشديد بالنظر لشراكتها الاستراتيجية مع الطرفين. فمن ناحية لديها ملفات متشابكة مع روسيا في مسارح متعددة، وتريد ضمان مصالحها التجارية والاقتصادية فيما يتعلق بقطاعات الغاز والسياحة والواردات. ومن ناحية أخرى تريد الحفاظ على المصالح الجيوسياسية والعسكرية القائمة مع أوكرانيا. ولا يتوقع أن يتجاوز الدور التركي مستقبلًا حدود وساطة منخفضة الاحتمالات في ظل ترجيح قيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتلك الجهود. أما في حال حدوث غزو روسي للأراضي الأوكرانية فستحرص أنقرة على عدم تجاوز خطوط روسيا الحمراء ولا يتوقع منها تقديم مساعدات عسكرية لكييف تقلب موازين القوى لصالحها، وإنما الاكتفاء بإطلاق التصريحات الداعية إلى التهدئة والبحث عن الحلول الدبلوماسية ووقف إطلاق النار وربما التنديد بسياسة موسكو، وهو أمر اعتادت عليه الأخيرة من أنقرة التي لطالما أنكرت قانونية وشرعية ضم شبه جزيرة القرم بينما تواصل سفنها المحملة بمواد البناء الإبحار في المياه قبالتها، كما تواصل شراء الفحم من مناجم القرم المصدرة إلى روسيا التي بدورها تنقله إلى تركيا.
.
رابط المصدر: