خلال الأيام الماضية، كثّفت الجماعات الوكيلة لإيران في الشرق الأوسط –ولا تزال- هجماتها ضد مصالح إسرائيل والولايات المتحدة في عدة مناطق بالإقليم بدءً من الخليج العربي وحتى داخل إسرائيل والأراضي المحتلة مرورًا بمياه البحر الأحمر. يأتي ذلك على الرغم من إعلان مختلف القادة العسكريين والسياسيين في طهران وبشكل صريح منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الماضي عن عدم انخراط إيران عملياتيًا أو ميدانيًا في المعارك داخل قطاع غزة أو الضفة الغربية. أو بشكل أدق، فقد نفوا تقديم طهران دعمًا لوجستيًا لحركة “حماس” في الوقت الراهن أو حتى من أجل شنها عملية السابع من أكتوبر أو ما بعدها.
وجاء خطاب زعيم “حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله”، يوم 3 نوفمبر 2023 ليؤكد من جديد على وجهة النظر الإيرانية من ناحية وعلى عدم ميل الجماعات الوكيلة لطهران في المنطقة للاشتباك الحقيقي مع إسرائيل، أو الدول الحليفة لها بالطبع وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إذًا، تضعنا معادلة استمرار الجماعات الوكيلة لإيران في المنطقة في مهاجمة إسرائيل والمصالح الأمريكية وإعلان إيران جديًا مراتٍ كثيرة عن عدم انخراطها أو نيتها الدخول في المعركة أمام تساؤل جدي يتمحور حول سبب قيام الجماعات الوكيلة الإيرانية باستهداف إسرائيل والمصالح الأمريكية على الرغم من عدم دعم إيران لحماس بشكل عملياتي ميداني في الحرب الجارية.
وفي الواقع، ترمي إيران من وراء الزج بوكلائها لتنفيذ عمليات هنا وهناك ضد إسرائيل وواشنطن في المنطقة إلى تحقيق عدد من الأهداف نتطرق إليهم فيما يلي:
- تشتيت الولايات المتحدة والحلفاء عن الإضرار الجدي بإيران أو مصالحها:
لعل متابعة النهج الإيراني خلال العقدين الماضيين في التعامل مع التطورات الإقليمية يجعلنا نتفهم سياسة إيران الحالية إزاء التعامل مع تشابكات الأزمة الفلسطينية إقليميًا ودوليًا. إذ نستطيع أن ندرك عند النظر إلى استراتيجية طهران في العراق فيما بعد عملية الغزو عام 2003 أن إيران توظف أسلوب “إشغال وتشتيت العدو” بآخرين من أجل إبعاده عن أراضيها.
فقد دعمت إيران عمليات الجماعات العراقية المختلفة المناهضة آنذاك للحضور الأمريكي في العراق وتسببت، حسب العديد من التقارير الأمريكية والغربية، في إلحاق خسائر واسعة بالقوات الأمريكية هناك. وكان الهدف الإيراني الأساسي من وراء ذلك إبعاد أذهان متخذي القرار في واشنطن، خاصة إدارة جورج بوش الابن (2001 – 2009)، عن فكرة مهاجمة إيران وأراضيها بأي شكل من الأشكال، سواء عن طريق هجوم عسكري كاسح أو هجمات مركزة مكثفة تقود إلى انهيار النظام أو إلى القضاء على البرنامج النووي أو الصاروخي.
وعلى هذا النهج، تهدف إيران بشكل أساسي من وراء مهاجمة قواتها الوكيلة في المنطقة في الوقت الراهن للمصالح الأمريكية والإسرائيلية إلى تشتيت أذهان متخذي القرار الأمريكيين والإسرائيليين عن فكرة مهاجمة إيران (بأي شكل من الأشكال) وإرسال رسالة أخرى لهم بأنه في حالة مهاجمة طهران، فإن الرد سيكون قويًا سواء من الجيش أو الحرس الثوري الإيرانيين أو الجماعات الوكيلة في المنطقة. إذًا، لا تهدف هذه العمليات بشكل رئيس إلى الانخراط في الصراع ضد إسرائيل أو حلفاءها في ضوء الصراع الجاري في الأراضي الفلسطينية، وإلا لما كانت محدودة بالأساس، خاصة وأن “حزب الله” يملك ترسانة صواريخ وقربًا جغرافيًا مع إسرائيل يستطيع من خلالهما تغيير معادلة الحرب الجارية في غزة والضفة الغربية.
- إثبات الحضور الإيراني فيما يخص “مقاومة” إسرائيل:
إن تأكيد إيران منذ أكثر من 40 عامًا، حينما نشأ النظام الحالي، على دورها فيما يخص “مقاومة” إسرائيل أو “محور المقاومة” في منطقة الشام ومن ثم العراق، يوجب نظريًا أن تقوم إيران عن طريق وكلائها بدور ملموس في الصراع الجاري داخل الأراضي الفلسطينية حاليًا، وإلا لفقدت مصداقيتها إعلاميًا أمام المنطقة وأمام “خصومها” من الدول وأمام الجماعات المسلحة الأخرى التي تواليها في المنطقة.
يعني هذا أن اشتباكات “الحوثيين” في اليمن و”حزب الله” في لبنان وبعض الجماعات المسلحة الأخرى الموالية لطهران العراق مع إسرائيل والولايات المتحدة يهدف من إحدى زواياه إلى إثبات الحضور الإيراني في مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أمام الفلسطينيين وشعوب المنطقة والإعلام؛ منعًا لتلقي النظام السياسي الإيراني ضربة سياسية “أيديولوجية” قوية فيما يخص دعمه تحديدًا للقضية الفلسطينية، وهو أمر يُعد ركنًا أساسيًا من أركان الخطاب الإعلامي السياسي والإيديولوجي للنظام في طهران منذ 1979.
- تجنب زعزعة ثقة الجماعات الوكيلة الأخرى:
ترتبط “حماس” بلا شك بعلاقات قوية مع إيران تشكلت خلال السنوات الماضية عبر دعمها ماديًا واستخباراتيًا وعسكريًا وإعلاميًا أيضًا. يعني هذا أن “حماس”، وعلى الرغم من طبيعة اختلاف علاقتها بإيران مقارنة بالجماعات الوكيلة الأخرى في الشام والعراق وهو عامل ينبغي ملاحظته، فإنها كذلك تمثل “ورقة رابحة لطهران” إقليميًا ودوليًا وحين الحديث عن طبيعة الصراع الإسرائيلي الإيراني غير المباشر.
وعليه، فإن ترك إيران لـ “حماس” وحدها في الميدان تتصارع مع إسرائيل ذات التجهيز العسكري التكنولوجي العالي، سوف يخلق حالة من عدم الثقة وشكلًا من أشكال عدم الولاء ما بين مختلف الجماعات الوكيلة لطهران في المنطقة، بل وخارجها، وإيران. وإن حالة مثل هذه سوف تشكل سيناريو خطيرًا للغاية لا شك أن إيران تحاول تجنبه؛ وذلك عند النظر إلى دور وأهمية هذه الجماعات الوكيلة في الاستراتيجية والسياسة الخارجية الإيرانية في التعامل مع كافة الدول والمنظمات، بل والجماعات الأخرى التي لا تملك إيران سلطة عليها أو نفوذًا داخلها.
- محاولة دفع القوات الأمريكية خارج منطقة الشرق الأوسط:
توظف إيران في الوقت الراهن حالة الغضب الإقليمية ضد إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص ملف قطاع غزة لهدف آخر يتمثل في هدفها الذي ترمي إلى تحقيقه منذ سنوات وهو إخراج القوات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط، خاصة من منطقة الشام والعراق اللتين تستحوذان على مكانة خاصة في إطار السياسة الخارجية والاستراتيجية العسكرية الإيرانية، بل والأمن القومي الإيراني برمته. لذا، فإننا نجد الجماعات العراقية الموالية لإيران وتلك السورية الأخرى أيضًا تُقْدِم على مهاجمة القواعد والأهداف العسكرية الأمريكية في هذين البلدين، كما نرى “الحوثيين” يهاجمون مصالح أمريكية على النحو المُشار إليه في مختلف مناطق الإقليم.
ولا تخفي إيران هذا الهدف بشكل رئيس، حيث أعلنته منذ أكثر من عقد، وأكدت عليه خطابات القادة العسكريين والسياسيين الإيرانيين بشكل مستمر على وجه الخصوص منذ مقتل قائد “فيلق القدس” السابق، قاسم سليماني، في غارة جوية أمريكية بالقرب من مطار بغداد الدولي في العراق، حيث باتت إيران، حسب تصريحات هؤلاء المسؤولين، تعتبر خروج القوات الأمريكية من المنطقة ثمنًا لاستهداف قاسم سليماني.
انطلاقًا مما سبق، وفي إطار العلاقات الإيرانية مع “حماس”، يمكن القول إن التحركات العسكرية الراهنة للوكلاء الإيرانيين في المنطقة ترمي في إحدى زواياها إلى التخفيف بشكل جزئي عن الضغط الإسرائيلي على “حماس”، ويفتح الباب واسعًا أمام احتمالات أن ينخرط هؤلاء الوكلاء بشكل جدي أو إيران ذاتها في المعركة إذا ما استشعروا قرب تحقيق الأهداف الإسرائيلية المتمثلة في القضاء على حركة حماس، وإن كان ذلك يبقى احتمالًا مستبعدًا.
المصدر :https://marsad.ecss.com.eg/79970/