في أجواء التصعيد المتبادل بين الغرب وروسيا على محور الأزمة الأوكرانية، صرَّح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (Nato)، ينس ستولتنبرغ، في السابع من فبراير/شباط 2022، بأن “الحلف يسعى إلى تثبيت وجود عسكري طويل المدى في أوروبا الشرقية لتعزيز قوته الردعية”. هذا التصريح ليس مجرد إعلان نوايا أو جملة عابرة في حرب كلامية، بل هو استراتيجية فعلية يمارسها الغرب تجاه روسيا التي لم يتوقف يومًا عن اعتبارها عدوه الأول، رغم تغير الظروف والسياقات التي نشأ فيها حلف شمال الأطلسي: تفكَّك الاتحاد السوفيتي، وانهار نظام القطبية الثنائية، وانتهت الحرب الباردة، وتوحَّدت ألمانيا، وتشكَّل الاتحاد الأوروبي، وصعدت الصين، وتغيرت البيئة الدولية التي نشأ فيها الناتو تغيرًا جذريًّا، وظلَّت روسيا تمثل عدو الغرب الأول، وظل الحلف يتمدد شرقًا دون توقف.
لم تكن الأحلاف العسكرية والتهديدات المتبادلة عنوانًا بارزًا باستمرار من عناوين العلاقات الدولية مثلما هي عليه الحال خلال الأزمة الأوكرانية التي غدت ساحة لاشتباك محتمل بين الغرب والروس. فقد اختلفت العناوين في مراحل مختلفة من تاريخ العلاقات بين الأمم، وطغت في بعض تلك المراحل، عناوين السلام العالمي والعولمة والتعاون الدولي والعمل المشترك، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمة الأمم المتحدة بهيئاتها المختلفة الهادفة لرعاية السلم والأمن الدوليين. ربما لم يتعرض السلم والأمن الدوليان إلى تهديد جدي بمستوى خطورة ما وصلت إليه الأزمة الأوكرانية؛ حيث تقف أكبر قوتين عسكريتين في العالم وجهًا لوجه وهما في أعلى درجات التوتر والاستعداد للحرب. هذا الموقف لا يقارن إلا بأزمة الصواريخ الكوبية قبل ستين عامًا (1962)، حين نصب الاتحاد السوفيتي صواريخه الحاملة لرؤوس نووية قبالة السواحل الأميركية (أقل من 100 ميل) ودفع بالتوتر بين القوتين إلى أقصاه. ما يجري من تسليح غربي مكثف لأوكرانيا الواقعة على الحدود الروسية، رغم أنها لم تصبح بعد عضوًا في الناتو، يشبه كثيرًا أزمة الصواريخ الكوبية، ولكن بصورة معكوسة.
وسواء أتطورت الأزمة الأوكرانية إلى غزو روسي وصراع مسلح لا يمكن التنبؤ بمداه وأطرافه ونتائجه، أم نجحت جهود الوساطة الحثيثة في خفض التوتر وحل الأزمة دبلوماسيًّا عن طريق التفاوض، فإن الحقيقة التي أكد عليها هذا التطور هي استمرار محورية حلف شمال الأطلسي في الصراعات الدولية عمومًا وفي العلاقة بين الغرب وروسيا خصوصًا. فكيف استطاعت هذه المنظمة الدولية المحافظة على بقائها وجدواها لأكثر من سبعة عقود، رغم التغير العميق في بنية النظام الدولي وفي موازين العلاقات الدولية؟ وما دلالة هذا البقاء وهذا التكيف المستمر مع البيئات الاستراتيجية المتغيرة في علاقات الغرب بالشرق؟
الناتو: وليد الحرب الباردة وأحد أبرز محركاتها
عندما اجتمع، في الرابع من أبريل/نيسان 1949، ممثلو اثنتي عشرة دولة لتوقيع معاهدة حلف شمال الأطلسي، كان العالم يسير حثيثًا نحو الانقسام إلى كتلتين فيما عُرف على امتداد حقبة الحرب الباردة بالمعسكرين: الشرقي والغربي. وهو وضع نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها أوروبا منهكة، خاصة على الصعيد الاقتصادي؛ ما دفع الكثير من دولها إلى تقليص الإنفاق على التسلح وخفض عديد قواتها العسكرية. على عكس بلدان غرب القارة، خرج الاتحاد السوفيتي من الحرب قوة عسكرية ضاربة، ساعدها الصعود السريع للأحزاب الشيوعية في عدد من دول أوروبا الشرقية وغيرها، على بسط هيمنتها وتشكيل كتلة سياسية عسكرية تحت مظلة ما سُمي آنذاك بـ”الستار الحديدي”. وبينما كانت مكونات الكتلة الشرقية تتقارب ويتعزز التحالف بينها على خلفية الرابط الأيديولوجي، كانت علاقاتها مع الغرب تتأزم لتتخذ شكل حرب باردة بين الطرفين دامت لعقود. وقد شهد العام 1955 تحولًا مفصليًّا على الجبهتين؛ حيث انضمت ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسي، وتشكلت في شرق أوروبا ووسطها منظمة التعاون والصداقة والمساعدة المتبادلة بواجهتها العسكرية “حلف وارسو”. وتحولت برلين، التي كانت تحت إدارة مشتركة بين الحلفاء المنتصرين في سياق تقاسمهم لألمانيا المهزومة، إلى رمز للانقسام بينهم، استمر إلى حين تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين وانحلال حلف وارسو.
وعلى امتداد حقبة الحرب الباردة، كان حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو مظلتين عسكريتين لانقسام العالم إلى معسكرين متقابلين يمثلان نموذجين مختلفين في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا: غرب رأسمالي ليبرالي بقيادة الولايات المتحدة وشرق اشتراكي شيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي. ولئن ظل الصراع بين الحلفين خلال الحرب الباردة تحت السيطرة ولم يصل إلى حدِّ الصدام المباشر، إلا أن تلك الحقبة شهدت عددًا من الحروب بالوكالة عن الحلفين لعب فيها الحلفان أدوارًا متفاوتة. من بين تلك الحروب التي جرت في أنحاء كثيرة من العالم، الذي تحول في أغلبه إلى مناطق نفوذ تابعة لهذا الحلف أو ذاك: الحرب الكورية (1950-1953) وحرب فيتنام (1953-1975) في آسيا؛ وحرب اليمن (1962-1970) وحرب الرمال المغربية-الجزائرية (1963) في الشرق الأوسط؛ وحرب الدومينيكان (1965) والحرب البوليفية (1966-1967) في أميركا اللاتينية؛ والحرب الكونغولية (1960-1965) وحرب تشاد الأهلية (1965-1979) في إفريقيا. وخلال تلك الحروب، انقسمت دول إلى قسمين يتبع كل منهما إلى معسكر، وفقدت دول أخرى أجزاء من أراضيها أو مكوناتها السكانية أو الاثنين معًا.
ثبات في بيئة استراتيجية متغيرة
استمر حلف شمال الأطلسي منذ نشأته في أواخر أربعينات القرن الماضي في التمدد جغرافيًّا، وضمَّ المزيد من الدول الأعضاء، كما استمر في تطوير استراتيجياته العسكرية وشراكاته من خارج الدول الأعضاء ومن خارج الفضاء الأورو-أطلسي. يستمر كل ذلك رغم التغير العميق في البيئة الاستراتيجية، وفي توازنات القوة العالمية، وفي شكل النظام الدولي الذي نشأ فيه الحلف.
فالحرب الباردة، التي تشكَّل الحلف على وقعها ودفعت بأعضائه إلى التكتل لمجابهة تحدياتها الأمنية والاستراتيجية، انتهت وأصبحت من الماضي. وحلف وارسو، الذي وُلد في نفس البيئة الدولية لتحقيق التوازن مع شمال الأطلسي، تفكَّك مع بداية تسعينات القرن الماضي بسبب تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية لمكوناته وتوالي انسحاباتهم من عضويته. وتراجعت حدة سباق التسلح الذي بلغ أوجه مع إعلان الرئيس رونالد ريغان في العام 1983 مبادرته للدفاع الاستراتيجي (SDI) التي فتحت الباب لما عُرف حينها بحرب النجوم، وحلَّت محل سباق التسلح اتفاقيات التهدئة مثل اتفاقية “ستارت” (START) التي وُقِّعت في العام 1991 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لخفض الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، وكانت قد سبقتها، في سياق مختلف، في العام 1968، معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT). وتقلَّصت الحروب الأهلية والإقليمية بالوكالة عن الحلفين بعد انهيار الإطار الدولي الذي كان يغطيها أو يغذِّيها ويقدم لها الدعم العسكري والمالي والسياسي. وتفكك الاتحاد السوفيتي، عمود خيمة المعسكر الشرقي وقطب رحى حلف وارسو وأحد النموذجين اللذين انقسم حولهما سياسيًّا واقتصاديًّا وأيديولوجيًّا لعقود.
باختصار، لقد انهار النظام الدولي ثنائي القطب الذي أعطى حلف شمال الأطلسي معناه، فلعب على مدى عقود أدوارًا متقدمة في الدفاع عن أمن أعضائه والمحافظة على توازن استراتيجي دقيق مع الكتلة الشرقية. انهار ذلك النظام وتفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم بصفتها القوة العظمى الوحيدة المتبقية من صراعات الماضي، لاسيما بعد فشل محاولات التكتل لتشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. ولم تتمكن الصين، الصاعدة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، والتي ما فتئت تتمدد خارج مجال نفوذها التقليدي بربط أكثر من سبعين بلدًا في قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا باقتصادها عبر طريق الحرير الجديدة، من ملء الفراغ الذي تركه انهيار الكتلة الشرقية. ولم تتمكن روسيا العائدة إلى الساحة الدولية كقوة عسكرية ضخمة متنامية التأثير، سواء بمفردها أم في إطار معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، التي تجمعها في حلف دفاعي مع خمس من الجمهوريات السوفيتية السابقة، من استئناف الدور الذي كان يلعبه في الماضي سلفها الاتحاد السوفيتي.
تحديات من الداخل
صحيح أن حلف شمال الأطلسي ثبت رغم كل المتغيرات التي عرضنا أمثلة منها، ولكنه تعرض خلال مسيرته الممتدة على أكثر من سبعين عامًا إلى تحديات داخلية وصلت في بعض الأحيان إلى التشكيك في جدواه وتفكير بعض أعضائه في الاستغناء عنه ببدائل أخرى.
كان الانسحاب الفرنسي من القيادة العسكرية الموحدة للحلف، في العام 1966، أول وأكبر رجَّة يشهدها الناتو بنيةً وقيادةً منذ تأسيسه. وقد جاء انسحاب فرنسا وما تلاه من ترحيل لقوات الناتو وقواعده وتجهيزاته العسكرية من الأراضي الفرنسية نتيجة خلافات بين باريس وواشنطن على عدة مسائل ليست كلها متعلقة بشؤون الحلف. فحقبة الخمسينات والستينات شهدت نهاية الاستعمار في الكثير من دول العالم؛ وبينما كانت فرنسا إحدى أبرز القوى الاستعمارية، كانت الولايات المتحدة تدعم حق تقرير المصير، ليس انسجامًا مع مبادئ ويلسون وحسب، بل أيضًا خشية تعاطف الشعوب المستعمرة مع الاتحاد السوفيتي والتحاقها بالمعسكر الشيوعي بعد استقلالها. وكانت إفريقيا وآسيا بالتحديد، ساحتين تجلَّى فيهما الخلاف الفرنسي-الأميركي في أكثر من مناسبة. وقد تواصل انسحاب فرنسا من حلف الناتو لأكثر من أربعة عقود، ولم تستعد باريس موقعها في بنيته القيادية إلا في العام 2009.
قبل قرار انسحاب فرنسا من قيادة الناتو، كانت مجموعة من الدول الأوروبية قد بلورت فكرة ما سمي بـ”جماعة الدفاع الأوروبية”. صحيح أن المصادقة على معاهدة إنشاء هذه القوة، التي عُرفت أيضا بـ”معاهدة باريس”، والتي كانت تضم دول البينيلوكس الثلاث إضافة إلى فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية، لم تتم، ولكن فكرة إنشاء قوة أوروبية مشتركة ظلت تتردد في الأوساط الأوربية وتحظى بأهمية متزايدة كلما بدأ التشكيك في جدوى الناتو أو تصاعدت الخلافات على جانبي الأطلسي. وإذا كان تأسيس “الوكالة الأوروبية للدفاع” في العام 2004 لتنسيق الجهود الدفاعية لأعضاء الاتحاد الأوروبي، باستثناء الدنمارك، أمرًا طبيعيًّا في منظومة أوروبية مصالحها متشابكة ومؤسساتها مندمجة إلى حدٍّ بعيد، فإن التفكير المتكرر في بعث قوة أوروبية دفاعية مشتركة بديلًا من الناتو يعبِّر عن قلق أوروبي إزاء سياسة الاعتماد الكامل والمستمر على قوة الحلف. وقد لخصت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون درلاين، في خطابها إلى البرلمان الأوروبي، في سبتمبر/أيلول 2021، عن حالة الاتحاد، هذا القلق بتأكيدها على ضرورة “تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية لمواجهة التحديات الأمنية والأزمات العالمية”. جاء خطاب فون درلاين بعد الفوضى التي أحدثها انسحاب أميركا المنفرد من أفغانستان والذي فاجأ حلفاءها الأوروبيين في غياب تنسيق مسبق سواء في إطار الناتو أو غيره.
وقد تعززت حاجة الأوروبيين إلى قوة عسكرية مشتركة خاصة بهم بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والشكوك التي ألقتها سياسات ترامب الأوروبية حول مدى استمرار التزام الولايات المتحدة بشراكتها الأورو-أطلسية في إطار حلف شمال الأطلسي. فقد وصلت تلك السياسة، التي مارسها ترامب تحت شعار “أميركا أولًا”، إلى حدِّ تهديده بالانسحاب من الحلف بعد ضغوط متوالية على شركائه لزيادة إنفاقهم. وستبقى حاجة الأوروبيين إلى تعزيز دفاعهم المشترك من خارج الناتو قائمة ما بقيت شكوكهم في شريكهم الأميركي، في ظل تغير إداراته وسياساته وأولوياته. وهي شكوك أكدتها بعض الخيارات والسياسات والتحالفات الأميركية؛ حيث بدا أن الرابط الأنغلو-ساكسوني يغلب على الرابط الأورو-أطلسي، وأحيانًا يكون على حسابه.
تمدد مستمر في ظل مخاوف أمنية متبادلة
لم يؤثر تغير البيئة الاستراتيجية والدولية التي نشأ فيها حلف شمال الأطلسي على مسيرته التوسعية المطردة، ولم تُفقده الشكوك المتبادلة بين أطرافه جدواه أو شروط بقائه. وقد جددت الأزمة الأوكرانية النقاش حول الناتو وأعادته عنوانًا رئيسيًّا في العلاقات بين الشرق والغرب. فبين الزمن الذي تشكَّل فيه الحلف في أواخر أربعينات القرن الماضي، والزمن الذي تُعسكر فيه قواته على حدود روسيا في العام 2022، توسعت عضوية هذه المنظمة العسكرية وامتدت رقعة انتشارها الجغرافي والعملياتي بشكل دراماتيكي.
حين تشكَّلت النواة الأولى لحلف شمال الأطلسي كان الموقِّعون على وثيقة إنشائه اثنتي عشرة دولة فقط، هي: الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا والبرتغال وبلجيكا وهولندا والنرويج والدنمارك ولوكسمبورغ وأيسلندا. وعلى امتداد السنوات السبعين الماضية اتسعت عضويته تدريجيًّا لتصل في العام 2020 إلى ثلاثين دولة، سبع وعشرون منها أوروبية، والبقية هي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وخلال هذه المسيرة التوسعية يمكن أن نقف على ثلاث محطات رئيسية:
– 1955: مثَّل انضمام ألمانيا لحلف شمال الأطلسي تحولًا مهمًّا في موازين القوى بين الشرق والغرب، وقد دفعت هذه الخطوة الاتحاد السوفيتي والدول التي كانت تدور في فلكه إلى تشكيل حلف وارسو. فألمانيا التي تقاسمها الغرب مع روسيا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وعلى امتداد الحرب الباردة، مال شطرها الغربي إلى حلف الناتو في منتصف الخمسينات، ثم مالت كليًّا في ذات الاتجاه بعد توحدها في العام 1990.
– 1999: مثَّل انضمام بولندا، التي كان مولد حلف وارسو على أرضها، تحولًا رمزيًّا مهمًّا بعد أن كان الحلف قد انحل فعليًّا قبل هذا التاريخ بثماني سنوات. وتعتبر بولندا، منذ انضمامها للناتو، قاعدة متقدمة للغرب في شرق أوروبا. وقد تجلت أهميتها، على سبيل المثال، في الدور الذي لعبته خلال أزمة اللاجئين التي فجَّرتها بيلاروسيا على حدود الاتحاد الأوروبي، في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2021، وفي تسهيلها لعمليات التسليح التي يقوم بها حلف الناتو لأوكرانيا في أزمتها الأخيرة مع روسيا.
– 2004: مثل انضمام دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا)، على صغر حجمها، إضافة إلى أربع دول أخرى من أوروبا الشرقية، تحولًا استراتيجيًّا مهمًّا في موازين القوى. فقد وضعت هذه الخطوة حلف الناتو مباشرة على حدود روسيا الشرقية. وإذا قبل الحلف مطلبي انضمام أوكرانيا وجورجيا إليه، تكون الذراع العسكرية للغرب قد طوقت روسيا بالكامل من شرقها وجنوبها. من هنا نفهم خطورة انضمام هاتين الدولتين لحلف الناتو على أمن روسيا المباشر، ونفهم بالتالي، إصرار موسكو على ضمانات أمنية غربية تأخذ مخاوفها بعين الاعتبار.
خاتمة
أيًّا كانت خطط الناتو القادمة والحدود التي يمكن أن يقف عندها في المستقبل، فإن الأزمة الأوكرانية قد أعادته إلى الواجهة، وجدَّدت حاجة الغرب لاستمراره، ووحَّدت صفَّ الحلفاء على الضفتين، رغم التردد الذي يبديه بعض أعضائه، مثل ألمانيا التي باتت تربطها بروسيا مصالح كبيرة أبرزها استثماراتها الضخمة في خط غاز نوردستريم. الحقيقة التي كشفت عنها هذه العودة هي أن الناتو، بدل أن يفقد جدواه مع نهاية الحرب الباردة وتفكك منافسه، حلف وارسو، ازداد قوة وظلت الدول الغربية قادرة على تجديد شرعيته وتأكيد الحاجة المستمرة إليه. إلى جانب ذلك، لم يعد حلف الناتو، في مجال الأحلاف العسكرية الدولية، لاعبًا وحيدًا دون منافس وحسب، بل إن طبيعته قد تغيرت نسبيًّا من الدفاع إلى الهجوم، ومن الردع إلى التدخل. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تدخل عسكريًّا في أكثر من ساحة وانخرط في أكثر من أزمة، مثل تدخله في حرب البوسنة (1992-1995)، وتدخله في حرب كوسوفا (1999)، وتدخله في أفغانستان (2001)، وتدخله في ليبيا (2011).
وبرغم هذا التوسع المستمر، وهذا التفرد على الساحة الدولية، تبقى روسيا هي العدو الأول للناتو، خاصة بعد عودتها لاعبًا قويًّا، ليس فقط في مجالها الجيوسياسي القريب، بل أيضًا في ميادين أبعد مثل سوريا وليبيا وبعض الساحات الإفريقية جنوب الصحراء. وقد أثبتت المناورات الروسية-البيلاروسية الأخيرة أن الخطر العسكري الروسي والقوة التدميرية لأسلحته الاستراتيجية الهجومية والنووية لا يزال يمثل رادعًا قويًّا للغرب ينبغي أن يأخذه بعين الاعتبار في أي ترتيبات تخص أمن أوروبا والعالم. وفي ظل هذه المعادلة، يبقى الاقتصاد هو خاصرة روسيا الرخوة، لذلك اختار الغرب أن يركز في خطابه الإعلامي والسياسي والدبلوماسي إزاء احتمالات الغزو الروسي لأوكرانيا على تسليط عقوبات اقتصادية بالغة الشدة وليس على الرد العسكري.
.
رابط المصدر: