خريف الدولار

عبد الفتاح الجبالي

 

هل آن أوان خريف الدولار كعملة احتياط دولية؟ هذا هو التساؤل المطروح بشدة على الساحة الدولية بعد ان بدأ العديد من الدول فى البحث عن بدائل للتخلى عنه، فسعت الصين والهند الى الدفع بعملاتهما المحلية الى مكانة دولية عبر استخدامها فى تسوية المعاملات التجارية، وكذلك روسيا إضافة الى البرازيل والأرجنتين، وسعى معظم بلدان أمريكا اللاتينية الى توسيع التبادل فيما بينها بعيدا عن الدولار، ناهيك عن مجموعة البريكس (الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا). ورغم أن وتيرة خسارة الدولار ووضعه كعملة دولية قد بدأت منذ بداية القرن، فإنها ازدادت بشدة عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث انخفض نصيبه من الاحتياطات الدولية بنسبة 11% من نصيبه من السوق العالمية. وذلك بعد العقوبات المالية والاقتصادية، غير المسبوقة التى فرضت على روسيا.

بالإضافة الى رفع أسعار الفائدة الامريكية من نحو صفر الى أكثر من 5%، وهو ما أدى الى تخوف معظم البلدان التى تحتفظ باحتياطى نقدى أجنبى كبير من الدولار، واغلبها من بلدان العالم الثالث، ودفعها للبحث فى التخلى عنه. وهناك شعور عام لدى هذه البلدان بأنها رقصت كثيرا على أنغام موسيقى الاقتصاد الأمريكى، وقد حان الوقت لإيجاد نغماتها الخاصة بها. وعند البحث فى هذه المسالة تجدر الإشارة الى ان أى عملة ترغب فى أداء دور على الصعيد العالمى ينبغى لها ان تؤدى ثلاث وظائف أساسية، وسيط للمعاملات، ووحدة للحساب، ومخزن للقيم.

وهو ما يتطلب توافر مجموعة من العوامل التى تتيح لها تأدية هذه الوظائف بصورة معقولة. وأهم هذه العوامل هو مدى الثقة فى الاستقرار الاقتصادى والسياسى للبلد المصدر لها. ولذلك فإن الوضع المهيمن للعملة الدولية لدولة معينة يمنحها المزيد من القوة والنفوذ، خاصة ان سياستها المالية والنقدية ستؤثر على باقى دول العالم. وهو ما حدث بالفعل حين سيطر الدولار كعملة احتياط دولية، وبمقتضاه تمكنت الولايات المتحدة الامريكية من لعب دور أكبر من وزنها فى إجمالى الناتج العالمى والتجارة، وهو ما كان يثير استياء خصومها وحلفائها على السواء.

وجدير بالذكر ان النظام الاقتصادى الدولى الذى كان سائدا حتى منتصف السبعينيات، من القرن الماضى، الذى اصطلح على تسميته نظام، «بريتون وودز» قد اعتمد على دعامات أساسية على رأسها نظام سعر الصرف الثابت، الذى يرتكز على الدولار كقاعدة، او كعملة أساسية، وذلك عن طريق تحديد سعر صرف كل عملة على أساس محتواها الذهبى مقارنة بمحتوى الدولار الذهبى، وطبقا لهذه القاعدة كانت أسعار الصرف ثابتة عند قيمة معينة بالنسبة للدولار، لا يجوز تغييرها، إلا فى أضيق الحدود، وبعد موافقة صندوق النقد الدولي. وقد سار هذا النظام سيرا حسنا قرابة عشرين عاما، وهى فترة من النمو المتواصل فى الاقتصاد الدولى والتزايد السريع فى التجارة الدولية، وكانت مستويات العمالة فى البلدان الأعضاء مرتفعة، ومعدلات التضخم موحدة نسبيا.

ولكن كان المصدر الرئيسى للسيولة الدولية هو العجز المتتالى فى ميزان مدفوعات الولايات المتحدة، وكانت البلدان ذات الفائض فى مدفوعاتها على استعداد لتجميع الدولارات، لأن الولايات المتحدة من جانبها كانت على استعداد لتحويل حيازات الدولارات إلى ذهب، مقابل ما كان يعد قيمة ثابتة للدولار. ولكن الظروف والتغيرات التى حدثت بعد ذلك أدت إلى فشل هذا النظام، خاصة مع بروز عوامل وتغييرات عالمية كثيرة خلال العقود السابقة فيما يتعلق بتحركات رءوس الأموال الدولية، فضلا عن التطورات السريعة والمتلاحقة للبلدان الرأسمالية الغربية واليابان والصين، مما أفقد الاقتصاد الأمريكى قدرته التنافسية واحتدام الصراع التنافسى بين الأطراف الرئيسية فى النظام الدولي.

وهنا تشير الإحصاءات إلى التراجع المستمر فى الثقل النسبى للولايات المتحدة الأمريكية، إذ هبط نصيبها من الناتج العالمى من 25.4 % عام 2000 إلى 15.6% عام 2022 وتراجعت مساهمتها فى الصادرات العالمية من السلع والخدمات من 14 % إلى 9.7 % خلال نفس الفترة.

بينما ارتفع نصيب الصين من 6 % إلى 18.5 % ووصلت صادراتها إلى 12 % خلال نفس الفترة. كل هذا أدى إلى انهيار النظام الاقتصادى القديم، حيث تركت الحرية للبلدان المختلفة فى تطبيق نظام الصرف الذى ترتئيه، وتم التخلى عن مبدأ التعادل الثابت للعملات، أصبحت البلاد حرة فى الارتباط بأى نظام صرف يلائمها، وبالتالى انتهت الالتزامات التى كانت مقررة فى اتفاقيات «بريتون ووذ». ومنذ ذلك التاريخ دخل العالم فى نظام أسعار صرف معومة. ومنذ ان دخل اليورو فى المعاملات الدولية فى الأول من يناير 1999 أصبح يلعب دورا متزايدا على الصعيد العالمى، وتوسعت بعض البلدان فى استخدامه كبديل عن الدولار فى احتياطاتها الدولية. كما توسع دور المصارف الخاصة فى إيجاد السيولة الدولية التى انفكت أواصرها بنمو التجارة الدولية، بحيث أصبحت الصفقات تتم خارج إطار رقابة البنوك المركزية، ولذلك تغيرت العلاقة بين تدفقات رءوس الأموال وأسعار الصرف وحركة التجارة الدولية وتراخت الصلة بين النظام النقدى من جهة، والنظام التجارى من جهة أخرى. وقد اتسع اختلال التوازن العالمى، الأمر الذى أفقد الاقتصاد الأمريكى قدرته التنافسية والحيوية وزاد من تعقيد وتشابك الأزمة المالية الدولية.

خاصة مع الصراعات الجديدة بين الأقطاب الرئيسية الفاعلة فى النظام (الاتحاد الأوروبى من جهة والصين والهند واليابان من جهة أخرى). وبمعنى آخر فإن الاقتصاد العالمى يشهد خلال المرحلة الحالية التفاعل بين قوى كبيرة متصارعة، وفى هذا السياق تطرقت الأفكار الى انشاء نظام ثلاثى الأقطاب لسعر الصرف يرتكز على الدولار واليورو واليوان، ويمكن فى هذا النظام ربط عملات البلدان الأخرى بإحدى تلك العملات وان تعوم العملات الثلاث الرئيسية كل منها مقابل الأخرى وهو ما يعترف بالمكانة النسبية الجديدة للدول الصاعدة فى إدارة الاقتصاد العالمى وإعادة السيطرة على الأسواق العالمية.

نقلًا عن الأهرام ١٠ مايو 2023

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34037/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M