خلفيات ومآلات بيان الجنرالات الأتراك المتقاعدين

محمد داود سليمان

 

ملخّص

في 4 نيسان 2021 نُشر بيان وقّع عليه 104 من الجنرالات المتقاعدين من البحرية التركية، أعربوا عن قلقهم من طرح موضوع إلغاء اتفاقية مونترو، وهي الاتفاقية التي أصبحت تركيا بموجبها المسؤولة عن إدارة مضائق البسفور ودردنيل، وتحدد الاتفاقية عدد وحجم السفن التي يمكنها الدخول إلى البحر الأسود، لذا فإن قيام الجنرالات بنشر هذا البيان بالتزامن مع التوتر بين الناتو وروسيا في أوكرانيا وأهمية الاتفاقية لحماية البحر الأسود من السفن الحربية الخارجية، يجعلنا نتساءل عن علاقة هذا البيان بالتطورات الإقليمية، وأثر جماعات الضغط الروسية أو الأميركية على الأجنحة السياسية داخل تركيا، خاصة أن خلفية أغلب الجنرالات الموقّعين هي من جناح “اليسار الأتاتوركي” أو “الأوراسي”، وهو جناح له وجود في الدولة التركية منذ الدولة العثمانية، يرى أن مصلحة تركيا في عقد الشراكات والتحالفات مع روسيا والشرق، وليس مع الدول الأوروبية والغرب.

يهدف البحث إلى دراسة الأسباب الدافعة إلى إصدار الجنرالات الأتراك المتقاعدين البيان الذي صدر حول اتفاقية مونترو وقناة إسطنبول، وعلاقة صدور البيان بالتطورات الإقليمية في المنطقة، وبالأخص التوتر بين دول حلف الناتو وروسيا في منطقة أوكرانيا، وذلك من خلال التركيز على تاريخ الانقلابات والتدخلات العسكرية في السياسة التركية وعلاقتها بالسياسة الدولية، وكذلك من خلال دراسة خلفية الضباط الموقعين على البيان، لفهم دوافع وخلفيات إصدار البيان، وسبب ردة الفعل الحكومة التركية العنيفة على البيان.

تمهيد 

في 4 نيسان 2021 نُشر بيان وقّع عليه 104 من الجنرالات المتقاعدين من البحرية التركية، أعربوا عن قلقهم من طرح موضوع إلغاء اتفاقية مونترو للنقاش، وجاء في البيان النقاط التالية:

– إن المضائق التركية من أهم الممرات البحرية العالمية وقد أديرت على مر التاريخ باتفاقيات مشتركة مع دول أخرى، وكنتيجة لهذه الاتفاقية فقد تم التوقيع على اتفاقية مونترو التي لا يقتصر أثرها على حماية الحقوق التركية في المضائق فحسب، بل تمنح تركيا السيادة الكاملة على بحار إسطنبول وجناق قلعه وبحر مرمرة، وهي انتصار دبلوماسي كبير مكمّل لاتفاقية لوزان.

– إن اتفاقية مونترو هي وثيقة لتأمين دول حوض البحر الأسود، وبفضلها فإن البحر الأسود الآن هو بحر السلام، وهذه الاتفاقية تحمي تركيا من أن تصبح طرفاً في حرب يمكن أن تنشب بين الأطراف المختلفة.

– بفضل اتفاقية مونترو تمكنت تركيا من الحفاظ على موقف الحياد في الحرب العالمية الثانية، ولهذا الأمر فإننا نرى انه ينبغي الابتعاد عن أي نقاش أو حوار قد يؤدي إلى مناقشة اتفاقية مونترو أو طرحه على الطاولة.[1]

ومما لا شك فيه، فإن هذه النقاط المذكورة في البيان تفصح عن بعض الأسباب الدافعة لكتابته والدفاع عنه، خصوصاً أن البيان لم يتحدث عن الأخطاء السياسية للحكومة كما كان يصدر في البيانات العسكرية في التاريخ التركي، بل تركّز على جزئية البحر الأسود ومنع السفن الأجنبية من دخول البحر الأسود، خصوصاً أن اتفاقية مونترو تحدد عدد وحمولة السفن التي يمكن أن تمر عبر البحر الأسود، إذ لا تسمح للسفن الحربية الأجنبية من مرور المضيق إن كان وزنها يتجاوز الخمسة عشر طناً.[2]

وبعد نشر البيان ثارت ضجة سياسة وإعلامية في الأوساط التركية، إذ اعتبرت الحكومة التركية أن هذا البيان فيه إشارات إلى البيانات الانقلابية العسكرية السابقة، ويشير إلى عقلية العسكرية الانقلابية التي ترى نفسها وصيّة على الحكومة والسياسة، إذ ردّ رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية فخر الدين الطون في تغريدة على حسابه على تويتر قائلاً:

“من أنتم؟ وبأي حقٌ تقومون بتوجيه أصابعكم تجاه ممثلي الإرادة الشعبية الشرعيين؟ إن تركيا هي دولة قانون، لا تنسوا هذا أبداً، لن يستطيع أصحاب عقلية الوصاية أن يضروا بديموقراطيتنا بعد الآن أبداً، ولن يستطيع الذين يعملون بيادق بيد القوى الخارجية أن يقطعوا الطريق أمام تركيا التي تكبر وتزداد قوة”[3]

ولم يقتصر الرد الحكومي على هذا الأمر، بل قام جميع الوزراء وجميع الولاة بإصدار بيانات تؤكد وقوفهم مع الحكومة ومع الديموقراطية، وتشجب هذا البيان الذي خرج في منتصف الليل، على عادة البيانات الانقلابية في تاريخ تركيا.

أما عن الأحزاب التركية الأخرى، فقد طالب رئيس حزب الحركة القومية في كلمته أمام كتلته البرلمانية بخلع رتب وامتيازات هؤلاء الضباط، وقطع رواتبهم التقاعدية ليكونوا عبرة للآخرين، قائلاً إن “البيان دعوة صريحة لانقلاب عسكري”.[4]

فيما انقسم موقف أحزاب المعارضة داخلياً وخارجياً، فقد اعتبر رئيس حزب الشعب الجمهوري، المشهور بعلمانيته، أن هذه القضية يستغلها حزب العدالة والتنمية للتغطية على المواضيع المهمة وهي الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب التركي[5]، ولكن إلى جانب هذا، فقد كان عدد من الجنرالات المتقاعدين الموقّعين على البيان هم أعضاء في حزب الشعب الجمهوري.[6]

وإلى جانب موقف حزب الشعب الجمهوري المتناقض داخلياً، فقد قالت رئيسة الحزب الجيد “مرال أكشنار” إن الحزب الجيد يقف ضد أي شكل من أشكال الوصاية، وإن نشر مثل هذا البيان يجلب للأذهان البيانات التي نشرت سابقاً وأدت إلى انقطاعات في الديموقراطية التركية، مبينة أن هذا البيان هو عبارة عن “سفسطة” من قبل الجنرالات.

ويبدو واضحاً تضارب مواقف الأحزاب والتيارات السياسية داخل تركيا حول البيان، وهذا التضارب يبدو فوق مستوى التحالفات السياسية الحالية، إذ أن واحداً من هؤلاء الجنرالات المتقاعدين[7] كان واحداً من أشرس المدافعين عن نظرية “الوطن الأزرق”، وهي النظرية التي تنطلق منها تركيا لحماية حقوقها في البحر، ودافع بشراسة عن وجهة نظر الحكومة التركية في شرق المتوسط وبحر إيجه.

وإذا نظرنا إلى أن بعض مؤيدي الحكومة التركية في السياسة الخارجية وقفوا ضدها في هذا البيان، فإن الحزب الجيد الذي يعتبر معارضاً شرسا للعدالة والتنمية وقف ضد هذا البيان، الأمر الذي يدعونا إلى رؤية أن هذا البيان بما يحمله من بنود يحمل أطراً وخلفيات أكبر من أطر التحالفات السياسية التركية الحالية، ونحن في هذه الورقة سنحاول معرفة دوافع وخلفيات البيان، للوصول إلى فهم أدق لسبب صدور البيان في هذا التوقيت.

ما هي اتفاقية مونترو؟

على إثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتوقيع تركيا لاتفاقية سيفر مع دول الحلفاء، كانت السيادة التركية معدومة بشكل شبه كامل على المضائق التركية، إذ تم تشكيل لجنة لإدارة المضيق، بدون عضوية تركيا، كما كانت الاتفاقية تجبر تركيا على فتح المضائق بشكل تام أمام جميع الدول، حتى في حالات الحروب.[8]

وعلى إثر هذه الشروط المجحفة، رفضت الحكومة التركية الجمهورية في أنقرة هذه الاتفاقية، وأعلنت أنها لا تعترف بهذه الشروط المجحفة، واستطاعت تركيا التوصل إلى اتفاقية لوزان التي لغت اتفاقية سيفر بشروطها، وحسّنت وضع تركيا في جميع البنود، بما فيها البنود المتعلقة بالمضائق، إذ سمحت اتفاقية لوزان لتركيا بترأس اللجنة التي تدير المضائق، كما سمحت لتركيا بمنع السفن الحربية من المرور إن كانت في حالة حرب معها، كما سمحت بتواجد بعض القطع العسكرية في بعض المناطق في المضائق.[9]

ورغم أن اتفاقية لوزان كانت تعتبر انتصاراً دبلوماسياً قياساً بشروط اتفاقية سيفر، إلا أن شروطها كانت تمنع السيادة التركية على المضائق، ولا تسمح لتركيا بتواجد عسكري حقيقي في المضائق، ومع تغير الوضع السياسي العالمي في عام 1936، طالبت تركيا بتغيير شروط اتفاقية لوزان للمضائق، وطالبت بتعديل بعض الشروط عليه[10]، وبالفعل نجحت تركيا في توقيع اتفاقية مونترو، التي نقلت صلاحيات إدارة المضائق من لجنة مشتركة إلى الحكومة التركية مباشرة، كما سمحت للجيش التركي بالتواجد على المضائق، ولكن بقيت بعض بنود لوزان مثل عدم أخذ تركيا لأية أجور من السفن المارة، كما لا يحق لها منع السفن التجارية والعسكرية من المرور، ضمن شروط محددة.

وإضافة إلى هذا، فقد حددت اتفاقية مونترو أحجام وعدد السفن الحربية الداخلة إلى البحر الأسود من خارج دول الأعضاء[11]، كما فرضت على الدول أن تبلغ تركيا قبل مرور السفن الحربية من المضيق بوقت كاف.[12]

قناة إسطنبول واتفاقية مونترو

مع إعلان الرئيس التركي أردوغان عن مشروع “قناة إسطنبول” في عام 2011[13]، والذي سيربط البحر الأسود ببحر مرمرة، ويكون ممراً للسفن الكبيرة وناقلات النفط والغاز، فقد واجه معارضة عنيفة من المعارضة التركية، التي اعتبرت أن القناة ستقام على مساحات زراعية، وستؤثر على مدينة إسطنبول من نواحي عديدة.

ولقد كان إنشاء مشروع قناة إسطنبول أمراً بدوافع اقتصادية حين أعلن عن ذلك أردوغان في 2011، فتركيا لا يمكنها الاستفادة اقتصادياً من السفن التي تمر من المضائق التركية، كما أن عدد السفن الكبيرة وازديادها مع مرور السنوات يؤثر على حركة سفن المواصلات في مدينة إسطنبول.

ولكن وفي اللحظة الراهنة، نرى أن موضوع قناة إسطنبول تحوّل إلى نقطة جدلية سياسية مفصلية بين حزب العدالة والتنمية وبين أحزاب المعارضة، فقد رفع رئيس بلدية إسطنبول “أكرم إمام أوغلو” شعار (إما القناة، وإما إسطنبول) كشعار لحركة معارضة لإنشاء القناة قائلاً إن إنشاء هذه القناة سيؤثر بالسلب على مدينة إسطنبول ويقلل مواردها المائية، متهماً الحكومة التركية بالعمل من أجل إنشاء القناة في سبيل تحقيق المكاسب الاقتصادية.

ولكن وفي بيان الضباط العسكريين الأخير، يبدو واضحاً أن معارضة إنشاء قناة إسطنبول والتشديد على الالتزام باتفاقية مونترو له دواعي استراتيجية وعسكرية، إذا نظرنا إلى أن المعارضة أتت من قبل عسكريين وليس من قبل سياسيين.

وكي نفهم الأمر بدقة أكبر، علينا معرفة وفهم الأجنحة الموجودة في الدولة التركية، وتوجهاتها وطرق تفكيرها، كي نقيّم وضع هذا البيان وسبب إصداره من قبل ضباط متقاعدين، وليس من قبل عسكريين على رأس عملهم، وكذلك من أجل فهم التوقيت الدقيق لهذا البيان، والذي جاء قبل أيام فقط من اتصال الرئيس الروسي بوتين بأردوغان وتشديده على أهمية الالتزام باتفاقية مونترو.[14]

ولا يخفى أن قناة إسطنبول مرتبطة بشكل وثيق مع مضائق إسطنبول، وبالتالي مع اتفاقية مونترو، إذ أن الهدف من إنشاء قناة إسطنبول هو جعل السفن التجارية تمر من القناة وليس من المضيق، الأمر الذي يعني إمكانية تحرر تركيا من قيود اتفاقية مونترو في قناة إسطنبول، من خلال تحقيق مكاسب مالية من مرور السفن، وكذلك من خلال وضع قيود على حركة السفن الحربية أو رفع  القيود التي تضعها اتفاقية مونترو على السفن الأجنبية، ولذا فمن المفهوم جداً ربط قناة إسطنبول باتفاقية مونترو في البيان الذي أصدره الجنرالات المتقاعدون مؤخراً.

تيار “أوراسيا”

على مر السياسة التركية، منذ عهد الاتحاد والترقي، وحتى يومنا هذا، كانت هناك ثلاث توجهات أساسية دائماً في السياسة الخارجية التركية، أصحاب التوجّه الأول كانوا يرون أن مصلحة تركيا في إنشاء التحالفات مع دول المحور الغربي، والتي كانت تتمثل في بريطانيا وفرنسا في آخر الدولة العثمانية، ومن ثم أصبحت متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويطلق على أصحاب هذا التيار في تركيا الحديثة “تيار الناتو”، أو اليمين الأتاتوركي، وهم موزعون بين الكماليين والقوميين في تركيا

بينما كان أصحاب التوجه الثاني يرون أن مصلحة تركيا في بناء علاقات جيدة مع دول الجوار، وتحييد نفسها عن الخوض في صراع مع روسيا، ومن ثم أصبح هذا التيار فيما بعد مدافعاً عن الشيوعية وقائداً لتوجهها في تركيا، وصار يحرص على التقارب مع الصين وروسيا في آن واحد، ويطلق على هذا التيار في تركيا الحديثة “تيار أوراسيا” أو الأتاتوركي الكمالي، وأغلب هذا التيار كان متواجداً داخل صفوف حزب الشعب الجمهوري، أو بشكل مستقل عن الأحزاب السياسة.

أما التيار الثالث والأخير، فهو التيار المركزي، الذي كان يرى أن السياسة الخارجية التركية ينبغي أن تبنى وفق مركزية الدولة التركية، وأن تكون علاقاتها مع الشرق والغرب متزنة بحيث لا تحسب على أحد المعسكرين بشكل تام، وأصحاب هذا التيار موزعين بين المحافظين الإسلاميين، وبين القوميين.

وحين ننظر إلى بيان الضباط المتقاعدين، نرى أن جميع هؤلاء الموقّعين هم من تيار “أوراسيا”، أي التيار الذي يرى أن مصلحة تركيا هو إنشاء تحالفات وعلاقات مع روسيا والصين، وليس مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وبنظرة سريعة على أسماء بعض الضباط، نرى أن الأميرال المتقاعد “جم غوردنز”[15] أحد أبرز الموقّعين وأشهرهم، كان كاتباً في صحيفة “ايدنلك” اليسارية الأتاتوركية، التي اشتهرت في الفترة الأخيرة بدفاعها عن الصين ومهاجمتها للمسلمين الإيجور.[16]

وفي الفترة الأخيرة، كان تيار اليسار الأتاتوركي قد زاد من قوته داخل الدولة التركية، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية في تركيا، والتي قام بها تنظيم فتح الله غولن “تيار مقرب من أمريكا”، وفي الأصل، فإن النزاع بين تيار غولن وبين تيار اليسار الأتاتوركي يمكن أن نعتبره شخصياً، إذ قام تيار غولن عام 2009 بحملة ضخمة ضد تيار اليسار الأتاتوركي في الجيش، مدعياً أن هناك محاولة انقلاب، وعلى إثر هذه العمليات، جرت عمليات تطهير واسعة  لتيار اليسار الأتاتوركي من الجيش، إذ طرد مئات الجنرالات والضباط من مهامهم، واتهموا بالإعداد لمحاولة انقلابية، وسميت هذه القضية بقضية “ارغن اوكون”. ويومها، كان رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان قد قال في مقابلة تلفزيونية، إن عملية ارغن أكون مدبّرة من أجل القضاء على الجنرالات الأتراك المعارضين لأمريكا![17]

وبعد أن حاول تنظيم غولن القيام بمحاولة الانقلاب مستخدماً القضاء في عام 2013[18]، قلّل الرئيس التركي أردوغان من اعتماده على جماعة غولن، وبعد المحاولة الانقلابية في 15 تموز 2016، بدأت الدولة التركية في شن عملية واسعة ضد تنظيم فتح الله غولن، وتم طرد آلاف الضباط ومئات الجنرالات من الجيش، وأغلب هؤلاء الضباط والجنود كانوا من التيار الداعي لعقد شراكة مع أمريكا، ويرون أن مصلحة تركيا في الوقوف مع أمريكا، بالإضافة إلى موقفهم كجماعة من أمريكا، التي تستضيف رئيسهم فتح الله غولن.

وهذا الأمر ساعد في فتح المجال أمام تيار اليسار الأتاتوركي، الذي رأى الفرصة سانحة لتعويض خسارته في السنوات السابقة، كما زاد اعتماد الرئيس التركي أردوغان على هذا التيار، من أجل مواجهة تنظيم فتح الله جولن، الأمر الذي زاد من قوة هذا التيار بشكل كبير في الجيش والخارجية ومؤسسات الدولة الأخرى خلال السنوات الماضية.

ولا يخفى على أحد في تركيا تأثير هذا الجناح على القرار التركي في العلاقات الروسية، ويمكن في هذا الإطار فهم تفضيل تركيا لمنظومة اس-400 ودخولها في أزمة عميقة مع الولايات المتحدة.

الدوافع الرئيسية لكتابة البيان:

لا يمكن لأي باحث في الشأن التركي أن يقيّم التطورات الداخلية في السياسة التركية بعيداً عن التطورات العالمية في السياسة الخارجية، فقد نفذ الانقلابيون عام 1960 انقلاباً على عدنان مندريس الذي كان يحاول العمل بسياسة مركزية أكثر، وكان بيان الانقلابيين الأول يطمئن دول الناتو على أن تركيا مستمرة بكافة التزاماتها داخل الحلف.[19]

أما عن انقلاب 1980، فقد كان دافعه الأساسي ازدياد الاشتباكات الميدانية بين القوى اليسارية واليمينية في الشارع التركي، وزيادة قوة اليسار التركي حتى في الحكومة، وذلك في ظل الحرب الباردة العالمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

أما الانقلاب الذي تم عام 1997 على نجم الدين أربكان، فقد كانت له دوافع كثيرة، أبرزها ما أطلقوا عليه (الفعاليات الرجعية التي تقوم بها الحكومة)، ويقصد بها التحركات الإسلامية التي قام بها أربكان، وعلى رأس هذه الأعمال تأسيسه لمجموعة الدول الإسلامية الثمانية، حيث كان يرى أن العالم الإسلامي ينبغي أن تكون له وحدة اقتصادية تليها وحدة سياسية، كي لا تقف في صف اليسار أو اليمين.

كما أن محاولة انقلاب تنظيم فتح الله غولن الأولى في 2013 تزامنت مع ثورات الربيع العربي، والثانية في 2016، في ظل الأزمة السورية ومحاولة الولايات المتحدة تأسيس دولة كردية في الشمال السوري، ولهذا الأمر لم يتأخر التدخل التركي العسكري في شمال سوريا، وبدأت عملية درع الفرات[20] بعد شهرين فقط من محاولة الانقلاب الفاشلة.

وإذا نظرنا في هذا الإطار، فإنه ينبغي النظر في التطورات المتعلقة بالسياسة الخارجية التركية خلال العام الأخير، لفهم الأسباب الدافعة لصدور البيان، خصوصاً أن البيان يركّز على مواضيع ونقاط تتعلق بالسياسة الخارجية التركية، وليست انتقادات للحكومة أو حديثاً عن حماية أتاتورك كما كانت البيانات العسكرية السابقة:

1-في مجلس الشورى العسكري في تموز/ يوليو 2020[21]، قامت وزارة الدفاع التركية بإحالة عدد كبير من الضباط الأتراك المحسوبين على التيار الأوراسي إلى التقاعد، على حساب ضباط اليمين الكمالي، أو المحافظين، في خطوة تهدف إلى إعادة التوازن للجيش بعد تطهير جماعة فتح الله غولن، وهذا الأمر سبب استياءًا كبيراً داخل هذا التيار.

2-التصريحات التي يتبناها الرئيس التركي أردوغان والعدالة والتنمية حول أهداف تركيا في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي[22]، وهذا أمر يرى فيه هذا التيار خطراً على تركيا وتحالفاتها التي يرى أنها يجب أن تكون مع المعسكر الشرقي وليس مع الغرب.

3-الجدل الذي أشعله رئيس البرلمان التركي مصطفى شينتوب، حين سُئل عن إمكانية انسحاب تركيا من اتفاقية مونترو، حيث قال إن هذا الأمر ممكن؛ وفي حقيقة الأمر، فإنه وفي ظل التوتر الحالي الموجود في البحر الأسود ورغبة الناتو بالتواجد فيه، فإن اتفاقية مونترو تحمي روسيا وأعمالها العدائية بشكل كبير، وتمنع الناتو من التواجد بشكل قوي وفعّال في البحر الأسود، بسبب تحديدها لحجم السفن ومدة بقائها في البحر.

4-تصريحات الرئيس التركي أردوغان الأخيرة التي قالها حول فتح قناة إسطنبول، حيث قال أن الحكومة أنهت استعداداتها لمشروع القناة وأنها ستبدأ به في وقت قريب،[23] وهو أمر غير مبشّر لروسيا التي تعتمد بشكل كبير على المضائق في تجارتها، إذ من المتوقع أن تنسحب تركيا من اتفاقية مونترو بعد إنشاء القناة، الأمر الذي يعني تحكّم تركيا شبه الكامل بتجارة روسيا إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، وتحكّمها بتدفق الأسلحة والسفن الحربية إلى سوريا وليبيا.

ولم تتأخر تصريحات المسؤولين الروس حول اتفاقية مونترو، فقد أكّد الرئيس الروسي بوتين في اتصاله الهاتفي[24] مع الرئيس التركي أردوغان على أهمية الحفاظ على اتفاقية مونترو ومحدداتها في البحر الأسود، بعد إعلان الولايات المتحدة نيتها إرسال سفينتين إلى البحر الأسود، فيما بيّنت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاهروفا أنه لا بديل عن اتفاقية مونترو، معربة عن أملها في التزام جميع دول حوض البحر الأسود بالاتفاقية. [25]

ومما سبق، يظهر أن البيان الذي أصدره الجنرالات المتقاعدون يهدف إلى بيان اعتراضهم على السياسات الحكومية الأخيرة التي تميل إلى الغرب أكثر من الشرق، كما يهدف إلى التأكيد على أن موقف تركيا يجب أن يكون حيادياً في أي حرب باردة أو ساخنة في حوض البحر الأسود.

نتائج إصدار البيان وتأثيره على مستقبل السياسة التركية

بعد صدور البيان، فتحت النيابة العامة التركية تحقيقاً حول البيان ومن كتبه، والأشخاص الذين لهم علاقة أو ارتباط فيه، كما أمرت النيابة بتوقيف 10 من الجنرالات المتقاعدين على ذمة التحقيق. ويبدو أن الرئيس التركي أردوغان والحكومة التركية لن تتغاضى عن كتابة هذا البيان وأسلوب كتابته؛ والبيان وإن لم يؤثر بشكل كبير، فإنه سيحمل تأثيراً مهماً في السياسة الداخلية التركية، يمكن أن نلخصها فيما يلي:

1-البيان إيذان بانتهاء العلاقات الوديّة بين الحكومة التركية وبين التيار الكمالي اليساري أو الأوراسي، إذ أن صدور البيان بشكل علني من التيار لأول مرة منذ سنوات دليل على أن العلاقات ليست على ما يرام، كما أن ردة الفعل الحكومية على البيان دليل أيضاً على أن الحادثة ليست فردية بل تُمثل تياراً، ولا ترغب الحكومة التركية بتحمّل الإزعاج من هذا النوع خلال المرحلة المقبلة.

2-لن يتأثر من البيان الضباط المتقاعدون الذين كتبوا البيان فقط، بل إن التأثير الأكبر سيطال أفراد وعناصر التيار الموجودين في دوائر صنع القرار العسكرية والدبلوماسية خلال المرحلة القادمة، ويمكن أن تشهد تركيا تغييرات كبيرة في مجلس الشورى العسكري القادم في آب 2021، وهذا الأمر سيؤثر على موقف تركيا في سياستها الخارجية، إذ يمكن أن نرى سياسة أكثر اتساقاً مع الدول الغربية، على حساب العلاقات مع روسيا، ولا يعني هذا تغيّرا جذرياً في السياسة الخارجية التركية، بل سيسرّع من التوجه التركي الحالي القائم على حل المشاكل مع الغرب واستخدام لغة اكثر دبلوماسية.

الخاتمة

إن بيان الجنرالات المتقاعدين الأخير، لا يحمل بداخله تهديدات أو مخاوف بانقلاب حقيقي يمكن أن يحدث في تركيا، وذلك لسببين: أولهما، صعوبة القيام بانقلاب عسكري في تركيا بعد التغييرات القانونية والبنيوية التي قام بها الرئيس التركي أردوغان داخل مؤسسة الجيش التركي بعد المحاولة الانقلابية في 15 تموز، وثانيهما، أن جناح التيار اليساري في تركيا ليس قوياً بما فيه الكفاية ليقوم بمحاولة انقلابية، والهدف الأساسي من البيان كان رسالة من التيار لأصدقائه في الداخل والخارج، أنه غير راض عن سياسة الحكومة في السياسة الخارجية، ولا عن فتح موضوع اتفاقية مونترو للمناقشة.


الهامش

[1] ترجمة المؤلف من نص البيان المنشور في وسائل الإعلام التركية

[2] http://sam.baskent.edu.tr/belge/Montro_TR.pdf نص اتفاقية مونترو الرابط:

[3] https://twitter.com/fahrettinaltun/status/1378459484218085382

[4] https://www.aa.com.tr/tr/politika/mhp-genel-baskani-bahceli-bildiride-imzasi-bulunan-amirallerin-rutbeleri-sokulmeli/2197695

[5] https://twitter.com/kilicdarogluk/status/1378712923955195907

[6]  الرابط

[7] الأميرال المتقاعد جم غوردنيز: عمل قائداً لمبادئ التخطيط الاستراتيجي في القوات البحرية التركية، كما ألّف كتباً عدّة حول نظرية الوطن الأزرق وأهميته لتركيا، كما انه يكتب مقالات في صحيفة ايدنلك ذات التوجه الأوراسي (الصيني-الروسي)، انظر في مقالات الأميرال المتقاعد في صحيفة ايدنلك: https://www.aydinlik.com.tr/yazarlar/cem-gurdeniz

[8] الرابط

[9] LOZAN ANTLAŞMASI PERSPEKTİFİNDEN TÜRK BOĞAZLARI MESELESİNE BAKIŞ- Şarika GEDİKLİ BERBER, link: OSMANLI DEVLETİNDE YENİLİK ÇABALARI VE (dergipark.org.tr) p. 626

[10] Pazarcı, Hüseyin, Uluslararası Hukuk, Turhan Kitabevi, 11.Bası, (2012), s.99

[11] Gürbüz, Emir, MÖNTRÖ BOĞAZLAR SÖZLEŞMESİ IŞIĞINDA KANAL İSTANBUL, s.2 Link Montro_Bogazlar_Sozlesmesi_isiginda_Kanal_istanbul.pdf (d1wqtxts1xzle7.cloudfront.net)

[12] Montrö Boğazlar Sözleşmesi Maddeleri ve Önemi (antlasmalar.com)

[13] https://www.hurriyet.com.tr/gundem/iste-erdoganin-cilgin-projesi-kanal-istanbul-17648284

[14] الرابط

[15] https://www.aydinlik.com.tr/yazarlar/cem-gurdeniz

[16] https://www.aydinlik.com.tr/10-maddede-uygur-yalanlari-ve-gercekler-dunya-mart-2019-2

[17] https://www.youtube.com/watch?v=wTSlqQ2eB7U

[18] https://www.aa.com.tr/tr/turkiye/17-25-aralik-fetonun-yargisal-darbe-girisimi/2079941

[19] https://tr.wikisource.org/wiki/27_May%C4%B1s_Darbe_Bildirisi

[20] الرابط

[21] https://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2020/07/20200724-29.pdf

[22] الرابط

[23] https://www.ntv.com.tr/turkiye/cumhurbaskani-erdogankanal-istanbulu-inadina-yapacagiz,–v_EU2oIU2hUnK1nLxw1w

[24] https://www.bbc.com/turkce/haberler-dunya-56695439

[25] https://www.birgun.net/haber/rusya-dan-montro-aciklamasi-alternatifi-yok-340695

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%ae%d9%84%d9%81%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%88%d9%85%d8%a2%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a8%d9%8a%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d8%b1%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d9%83-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%82%d8%a7%d8%b9%d8%af%d9%8a%d9%86/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M