حسين عبد الغني
مقدمة:
أصل هذا المقال هو مناقشة أُسرية كان كاتبه يجتهد فيها كأب بأن يفسِّر لنفسه ولأولاده ـ الذين انخرطوا مثل الملايين من شباب مصر في أتون الثورة ـ لماذا وكيف تغيَّر شعورهم الجماعي الغامر يوم ٣٠ يونيو من الإحساس الكامل بالثقة والتفاؤل بأن إطاحة نظام الإخوان ـ الذي سرق الثورة وقتل الحسيني وجيكا والجندي وكريستي ـ سيكون بداية استعادة هذه الثورة ووضعها على مسار الثأر للشهداء وتحقيق العدالة الاجتماعية لأغلبية المصريين، وبداية طريق الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة… إلى إحساسٍ آخر مزعج بعدم اليقين والحيرة والشكّ. ولماذا أصبح التململ وعدم الارتياح والقلق هو المسيطر على المزاج المصري العام؛ وحتّى التكشيرة الكئيبة التي كانت صبغت وجه المصريين خلال فترة حكم الإخوان واختفت لنحو شهر بعد رحيلهم عادت ثانية لتصبح صفة بارزة على وجوههم مجدداً.
أستطيع هنا أنْ أعدّد بعضاً من الظواهر الصادمة، التي بدأت منذ تعيين شخصيات في مؤسسات رفيعة لم تكن جزءاً من الثورة، بل ـ في الحقيقة ـ كانت معادية لها، وحتّى للنظام الجمهوري نفسه، مروراً باختيار حكومة لا تتجاوز علاقتها بالثورة أربعة وزراء (من أصل ٣٥)، في حين يسيطر الاتجاه المحافظ غير الثوري ليس على رئاستها فقط، بل على أهم الوزارات المتعلّقة بجدول أعمال الثورة ومعيشة المصريين. وهي على أي حال لم تقصّر أبداً في تأكيد طبيعتها البعيدة ـ ككل الحكومات التي تلت ٢٥ يناير ـ من الثورة والثوار بأداء راوح بين البطء والمراوغة بسكب ماء بارد على حرارة الفرحة الشعبية بانتصار ٣٠ يونيو وبين إعادتها تقريباً إلى نقطة الصفر الإخواني.
المشهد الإعلامي مثل مشهد الحكومة والسلطة، وربما أكثر، كان باعثاً على تقليص حصة التفاؤل والثقة وزيادة حصة التململ والانزعاج. لا يتحدث المرء هنا فقط عن سيطرة شبه مُحكمة لإعلاميين ارتبطوا بالنظام القديم وعودة بعض منهم بعد ٣٠ يونيو بعد أنْ كانوا ولّوا فراراً ورعباً من الغضب الثوري عقب ٢٥ يناير، في مقابل شحوب واختفاء وجوه إعلامية مرتبطة بالثورة؛ ولكن يتحدث أيضاً عن الهجوم الظالم على ثورة يناير وشبابها وثوارها واستهدافهم؛ مع أنّهم، بما قدّموه من شهداء من صفوفهم مع جماهير شعبنا، هم من أسقط مبارك وأنهى الحكم الفاشل للمجلس العسكري وأسقط مرسي. وجاء اتهام ثورة يناير بأنها نكسة أو وكسة، وأن ٣٠ يونيو ثورة منفصلة عن ثورة يناير وليست موجة ثالثة منها، وأنها الثورة الحقيقية (الوطنية) لأن يناير «كانت صناعة أمريكية»؛ بل إن يونيو هي ثورة تصحيح على يناير؛ ليؤكّد المخاوف ويضع ألف خطّ تحت ما تريد الرأسمالية المصرية الكبيرة، التي تمتلك هذا النفوذ الحكومي والإداري والمالي والإعلامي، أنْ تفعله بهذه الثورة بل بهذا البلد. ويبدو أن غرام الرأسمالية المصرية الكبيرة بمصطلح ثورة التصحيح، غرام لا شفاء منه منذ استخدمه الرئيس الأسبق أنور السادات ـ معبود هذه الطبقة وربّ نعمتها ـ عام 1971 في بداية انقضاض نظامه على حقوق جماهير الشعب المنتجة لمصلحة حفنة من الأغنياء.
لقد لاحظ الناس كيف تمكنت وسائل إعلام هذه الطبقة، المتحالفة مع شريحة الفساد في جهاز الدولة البيروقراطي وعبر كوادر مدرّبة شديدة الولاء، وعبر حملات أوركسترالية شديدة التناغم والتماثل، من قناة إلى أخرى ومن برنامج إلى آخر ومن ضيف إلى آخر، من تغيير جدول أعمال وطني أُعدّ لاستكمال الثورة إلى هدف تحقيق الاستقرار (لاحظْ أنّها النغمة الفاشلة عينها التي استخدمها مرسي ورئيس وزرائه قنديل في دعوة الثوار إلى الاستقرار وترك الميادين. لكن تجاهل الثوار لهذه الدعوة وتحديهم لها، وتقديمهم تضحيات لم تدفع فيها هذه الطبقة شهيداً واحداً، هو الذي أدّى إلى سقوط نظام الفاشية الدينية الإقصائي).
لقد تحوّل جدول الأعمال الوطني لإعلام الطبقة المهيمنة اقتصادياً ـ بقدرة قادر ـ إلى مجرد إعادة الاستقرار والأمن ومعدل النمو لاقتصاد متراجع (بسبب الثورة)؛ أي العودة بالضبط إلى استقرار مبارك (المزمن) الذي استمر ٣٠ سنة وكانت نتيجته خروج مصر من التاريخ وتخلفها عن العالم مئة سنة على الأقل مع جرعة تزوير للانتخابات، وتعذيب للمصريين في سجون وأقسام النظام وظلم طبقيّ فاق ظلم النظام الملكي (فقراء الريف في نهاية عهد مبارك زادوا على فقرائه في عهد فاروق).
بعبارة أخرى، لقد جعل كتّاب ومثقفون في أقل من ٣ أشهر استعادة استقرار مبارك ودولته الأمنية أقصى أمانينا؛ بل إنَّ البعض طالب برد الاعتبار لرموز حكمه كونهم حققوا طفرات كبرى ورصيداً استراتيجياً لم تعرفه مصر من قبل (ولا يعرف أحد حتّى الآن لماذا قامت ثورة على هذا النظام إذا كان أحمد عزّ هو الاقتصادي والصناعي الكبير، ويوسف بطرس غالي هو أهم وزير مالية، ونظيف هو الذي قاد مصر إلى الحداثة!). والأخطر أن تتم دعوة النظام الجديد بعد ٣٠ يونيو إلى استشارتهم والاستعانة بهم!
أول خطوة في تفسير الانتقال الجمعي من التفاؤل إلى القلق على حالنا الراهن هو الإقرار بأن الصراع السياسي الدائر في مصر الآن لم يعد فقط الصراع الرئيسي بين الدولة الوطنية والقوى المدنية (تحالف٣٠ يونيو) من ناحية وبين تيار الفاشية الدينية من ناحية أخرى؛ ولكنْ أصبح هناك بموازاته صراع جديد داخل تحالف يونيو نفسه نشأ بأسرع مما كان أكثر الناس تشاؤماً يتوقعون. وبما أن الصراع الرئيسي الأوّل معروف ومتفق على أسباب حدوثه، فإن هذا المقال يركز على الصراع الجديد.
أما الخطوة الثانية فهي إعادة الاعتبار للتفسيرات الموضوعية والمنهجية، وبالتحديد ـ مع الاعتراف بوجود عناصر أخرى للتفسير ـ للصراع الاجتماعي أو الطبقي كمحرك للصراع الجديد وحتّى لسرعة حدوثه.
إن أهم ملمح في هذا الصراع السياسي يرتبط ارتباطاً بنيوياً لا فكاك منه بطبيعة التحالف السياسي ـ الاجتماعي لـ٣٠ يونيو الذي تمكّن من إطاحة تنظيم الإخوان وسلطته. فهو أوّلاً، تحالف مدني ـ عسكري احتاجت فيه الملايين غير المسبوقة من جماهير الشعب السلمية التي نزلت إلى الشارع لإزاحة مرسي، إلى حماية ودعم القوات المسلّحة في مواجهة تحالف تيار الإسلام السياسي الذي يحمل جزءاً منه على الأقل السلاح الوفير والمتقدم وله تاريخ وسمعة سيئان في استعماله وإجازة العنف (منذ أربعينيات القرن الماضي) والذي تعهد أكثر من قائد من قادته (عاصم عبد الماجد وصفوت حجازي وغيرهما) استخدامه قبل بدء اعتصامَي رابعة وبعده والنهضة لسحق أي تمرد على «الشرعية».
وهو ثانياً، تحالف اجتماعي ـ سياسي واسع ضمّ لأول مرة قوى لم تنزل إلى الشارع في الثورة إلا في ٢٥ يناير، بل وبعضها كان ـ بوضوح ـ ضدها؛ وضم قوى ثورية تريد استعادة الثورة ممن سرقوها (الإخوان) بهدف استكمالها وإعادة الحقوق الاجتماعية المنهوبة لأغلبية الشعب وإعادة توزيع الثروة الوطنية؛ كما ضمّ قوى نزلت فقط كراهية للإخوان ولكنها لا تريد استكمال الثورة كما تفهمها القوى الأولى، بمعنى التغيير الجذري سواءٌ في مجال العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة داخلياً أو في مجال الاستقلال الوطني الحقيقي عن التبعية لأمريكا خارجياً. بل وبوضوح كامل تريد أنْ تمنع وصول الثورة إلى هذا المدى.
كان المؤشر الواضح على الاتساع والتناقض هو تكوين جبهة الإنقاذ الوطني (سياسياً) التي بدأت تجمع العمل الوطني المناهض لهيمنة الإخوان على مصر بين أحزاب يمينية، مثل المؤتمر والوفد والجبهة والمصريين الأحرار، وأحزاب من الوسط (يمين أو يسار الوسط)، مثل الدستور والمصري الديمقراطي الاجتماعي، وأحزاب وقوى يسارية مثل التيار الشعبي المصري والتحالف الشعبي الاشتراكي والأحزاب الناصرية والجمعية الوطنية للتغيير وحزب التجمع والحزب الاشتراكي ومجموعات شباب الثورة. وهو مؤشر تأكد لاحقاً (اجتماعياً) وبشكل أعمق في «حملة تمرّد» التي رفضت أي تصنيف سياسي أو طبقي أو حتى تصنيف المشاركة في الثورة الأولى كشرط لقيام عشرات الألوف من النشطاء بحماسة لتلقف مبادرة مؤسسيها بسحب الثقة من مرسي شعبياً عبر رفض مؤسسيها الاستجابة لمطلب شَرطي طرحته بعض قوى الثورة بمنع أي مواطن من الانضمام إلى الحملة وتوقيع استمارتها إذا كان من أنصار النظام القديم.
إن طبيعة تحالف الموجة الثورية لـ٣٠ يونيو كان أمراً واقعياً، ليس فقط لتاريخ الخصم في العنف وإعلان استعداده لاستخدامه لمنع الحركة الشعبية، ولكن أيضاً لتطابقه مع حالة الجبهات الوطنية الواسعة التي تتفق على هدف وطني جامع وتختلف في ما عداه.
أولاً: استعجال قطف الثمار
إن المعضلة التي تواجه مصر وثورة يناير وموجتها الكبيرة في يونيو هي أن هذا الصراع داخل الجبهة الوطنية الواسعة عادة ما ينتظر اندلاعه عقب انتهاء الصراع الرئيسي مع الخصم المشترك الذي تجمعت الجبهة لمواجهته. لكن حالة اخطفْ واجرِ (Cut and Run) التي تميز الرأسمالية الكبيرة عندنا والتي يمثلها الجناح اليميني في التحالف المنتصر على الإخوان، أدت إلى استعجال أطراف في التحالف السياسي (جبهة الإنقاذ) للحصول على غنائم النصر حتى قبل أنْ يكتمل.
هل الخروج المباغت من جبهة سياسية واسعة وعليها بشكل يخلّ بالمصلحة الوطنية جديد على سلوك الرأسمالية المصرية الكبيرة؟ الجواب هو لا. والحقيقة، ما أشبه الليلة بالبارحة؛ إذ سبق لهذه الطبقة تفكيك التحالف الوطني الواسع الذي خاض حرب تشرين الأول/أكتوبر 19٧٣ فور انتهائها، وقبل أنْ تجني أي ثمار للنصر وحيث دماء الشهداء الزكية لقواتنا المسلّحة لم تبرد بعد، وانقضّت على القطاع العام الذي تحمّل عبء الحرب وعلى العمال والفلاحين والطبقة الوسطى وأبنائهم من المقاتلين المؤهلين صنّاع النصر العسكري؛ وسرقت النصر كاملاً. أما من كانوا في الخنادق فخرجوا صفر اليدين!
وها هو التاريخ يعيد نفسه. هذه المرة يبدو أن أحد أهم أسباب التعجيل والتعجّل هو التقدير السياسي الخاطئ الذي يعتقد أن المعركة مع التنظيم الإخواني، سياسياً، ومع حالة الإرهاب في سيناء والوادي، أمنياً، قد انتهت أو كادت. وأنّه آن أوان قطف ثمار النصر أو الحكم (طبعاً في إطار المسارات التي رسمتها خريطة طريق ٣٠ يونيو).
يفسر هذا تعامل بعض أعضاء الجبهة على أنّها أدّت مهمتها كتجمع سياسي وأنها في حكم المنتهية، بما يعني أن التزاماتهم تجاهها وتجاه شركائهم فيها قد انتهى معها. وينصرف هذا التملّص الراهن من الالتزامات إلى التزامين أساسيين ـ كانا في وقتها ـ ضروريين، من ناحية لردم الاختلاف في المواقف السياسية والطبقية لأعضاء الجبهة، ومن ناحية أخرى لرص صفوفها بإسمنت صريح في مواجهة حلف موحّد عقائدياً ومصلحياً كانوا يواجهونه وهو تيار الإسلام السياسي.
فقد قررت الجبهة (وكاتب هذا المقال كان شاهد عيان ومؤسساً من مؤسسيها) ـ للإفادة من الخبرة المريرة واللوم الشعبي لإخفاقها في التوحد سواءٌ في الانتخابات البرلمانية (٢٠١١) أو في الانتخابات الرئاسية (٢٠١٢)، وهو ما سمح بفوز التيار الإسلامي بأغلبيةٍ في البرلمان وبرئاسة الدولة ـ الاتفاق على مبدأين أو التزامين:
١ ـ دخول أول انتخابات برلمانية بقائمة واحدة أو بقائمتين منسق بينهما؛ وتشكلت لذلك لجنة رأسها عبد الجليل مصطفى وجعلت محمود العلايلي متحدثاً باسمها.
٢ ـ دخول أول انتخابات رئاسية بمرشح مدني واحد من أعضاء الجبهة وترك الاتفاق على شخصه (مع ترجيح ضمني) إلى حين استحقاقها.
ويظهر التملص المتعجل في تحرّكات ومواقف بدت منفردة ومفاجئة من مثل إعلان أحزاب في الجبهة أنّها ستخوض انتخابات البرلمان بقائمة منفردة، أو إعلان أحزاب أخرى أنّها ستخوضها بقائمة مع أحزاب معيَّنة في الجبهة وليس مع كلّ أحزابها كما كان متفقاً عليه.
وظهر هذا كذلك في الانقسام حول مرشح الرئاسة، إذ إن البعض بات يفضله عسكرياً في حين يتمسك البعض بالاتفاق الأوّل على مرشح مدني، وآخر يسكت ويتحفظ، والبعض يعارض… إلخ. بل إن بعض أحزاب «جبهة الإنقاذ» الصغيرة، التي كانت أوشكت على الانتهاء (لانشقاقات أو انسداد في الأفق السياسي) قبل قيام الجبهة وأعطتها الجبهة بضمّها إليها قبلة الحياة، بدأت في تفكيك الجبهة جهاراً نهاراً وعدم انتظار حتّى سقوطها التدريجي عبر حالة التملص من الالتزامين. فشرعت في شنّ هجوم إعلامي على بعض أطرافها استوجب ردهم عليها، الأمر الذي أدى إلى تهلهلها حتى أمام وسائل الإعلام وفقدانها صدقيتها أمام الجمهور المصري الذي كان قد أسعده كثيراً ـ ولو على مستوى الرمز المعنوي ـ تحقيق أحد آماله المزمنة بوجود مظلة واسعة للقوى المدنية تنافس الوحش التنظيمي لجماعات الإسلام السياسي، وبخاصة الإخوان.
وفي الجبهة الأوسع اجتماعياً وشعبياً والأكثر شباباً، وهي تمرد، لم يكن الأمر أفضل كثيراً بعد أسابيع قليلة من الانتصار، إذ بدأ البعض يعترض على قرارات أو مواقف لقيادتها، وبخاصة للقيادي الألمع فيها محمود بدر الناطق الرسمي، ثم انسحب البعض من موقعها ومن الحملة نفسها، علناً أو بهدوء، بحيث لا يمكن الحديث الآن باطمئنان عن تمرد واحدة وإنما عن أكثر من حركة قد تتنازع الاسم أو قد تتخذ أسماء أخرى جديدة.
رابط المصدر: