أنس بن فيصل الحجي
الشائع بين الناس أن القوى الإقليمية المختلفة التي تتصارع في ليبيا تحاول السيطرة على منابع النفط لأن الكل يريد النفط الليبي، وأنه الجائزة التي سيفوز بها المنتصر بعد نهاية الصراع. كما أن التدخل التركي سببه الطمع في ثروات ليبيا النفطية، وحقول الغاز بالبحر المتوسط.
الغريب في الأمر أن من يروج لهذه الأفكار يجهل أو يتجاهل أن الإيمان بهذه الأفكار يقتضي بالضرورة أن روسيا موجودة في ليبيا بهدف منعها من تطوير حقول النفط والغاز في البحر المتوسط، إذا تم فعلاً اكتشاف الغاز هناك، حتى لا ينافس الغاز الروسي في أوروبا. والفكرة نفسها تنطبق على سوريا.
بعبارة أخرى، مَن يروج لفكرة مؤامرة “غاز” في كل من سوريا وليبيا تقودها تركيا ودول الخليج ومصر، يؤكد دون أن يدري أن المؤامرة “روسية” بامتياز.
لقد غيرت ليبيا من توازن القوى النفطية في الستينيات عندما أعطت امتيازات لشركات صغيرة مستقلة كسرت احتكار كبار شركات النفط العالمية، أو ما يعرف بالأخوات السبع لإنتاج النفط. الأمر الذي شجع دولاً أخرى على محاكاة ذلك. كما غيّرت من توازن القوى عندما تم تأميم صناعة النفط عام 1970.
كان النفط الليبي، ولا يزال، مرغوباً في الأسواق الأوروبية بسبب نوعيته حيث إن أغلبه من الخفيف الحلو والخفيف جداً، ماعدا بعض الحقول مثل “الجرف”، فهو من النوع المتوسط الحامض. ونظراً لتركز سوقه، فلا غرابة أن فَقده أو عودته يؤثر في أسواق النفط العالمية، وهذا ما حدث آنفاً بسبب فرض حظر اقتصادي ونفطي لارتباط النظام الليبي وقتها بالإرهاب الدولي. أيضاً عندما تم وقف ضخ النفط الليبي عقب ثورة الشعب ضد نظام معمر القذافي. وأخيراً منذ شهور بسبب توقف إنتاجه بالكامل نتيجة الصراع الواقع بالبلاد. والآن تتحسب أوبك والتجار والمتخصصون من احتمالية عودة النفط الليبي في الشهور المقبلة.
وكقاعدة عامة، فإن هناك ارتباطاً وثيقاً بين النفط والسياسة، وكلاهما يؤثر في الآخر. ولعل أهم الدروس التي تعلمناها تاريخياً هي أن أسهل هدف لأي مجموعة تريد أن تفرض شروطها على المجموعات الأخرى في أي صراع؛ هو أنابيب النفط والمنشآت النفطية؛ لهذا نرى تكرر الهجوم على هذه المنشآت حول العالم. وما نراه في ليبيا يتوافق تماماً مع هذه الحقيقة التاريخية.
وأكبر صور هذا الارتباط وأكثره تأثيراً في أسواق النفط العالمية عندما تصبح منابع النفط هدفاً في أي صراع محلي أو إقليمي أو دولي. وهدف السيطرة على منابع النفط يختلف كلياً عن قيام البعض بتفجير أنابيب أو الهجوم على منشأة نفطية، فالهدف الاستراتيجي أكبر وأهم، وتتداخل فيه عدة أطراف دولية، وهذا ما نراه في ليبيا اليوم، ورأيناه بالعراق سابقاً.
فالولايات المتحدة لم تغز العراق وتحتله لإرواء عطشها من النفط، وإنما ركزت على النفط لسببين؛ الأول أن إيراداته هي مصدر قوة الخصم. فإذا أردت أن تصيبه في مقتل، تأخذ مصدر القوة منه وهو النفط.
من هنا نجد التركيز الشديد من مسؤولي إدارة جورج بوش على تأمين المنشآت النفطية وحماية وزارة النفط ووثائقها، بينما سمحت بنهب المتحف الوطني الذي فيه إرث البشرية من آلاف السنين. ويمكن فهم ما قام به جورج بوش الابن استراتيجياً على أنه ردة فعل على عدم فهم جورج بوش الأب لهذه الفكرة، إذ ظن أن إضعاف نظام صدام حسين وفرض عقوبات أممية على العراق، والسيطرة على إيرادات بيع النفط سيغيّر الحكم في العراق، ولكن أثبت الواقع أن السيطرة على منابع النفط هي التي تحقق هذا الهدف، وليس السيطرة على إيراداته من المبيعات الرسمية.
أما الهدف الثاني فهو استخدام إيرادات النفط لدعم حكومة يريدها الأميركيون. إذاً لم يكن هدف السيطرة على منابع النفط هو الحصول عليه لإرواء عطش الأميركيين من النفط، والأدلة على ذلك كثيرة؛ أهمها أن أغلب العقود النفطية لم تذهب إليهم، وأغلب النفط العراقي يُصدَّر إلى آسيا، وليس إلى الولايات المتحدة. والواقع يقول إن زيادة اعتماد الأخيرة عليه يتناقض مع مبادئ سياسات الطاقة الأميركية التي تؤكد أهمية تنويع مصادر واردات النفط.
الأمر نفسه ينطبق على ليبيا، فالهدف من السيطرة على نفطها استراتيجي، وليس إشباعاً لعطش أي دولة للنفط. فمن يتحكم بالنفط الليبي يستطيع أن يرسم مستقبلها.
الجنرال حفتر وداعموه الدوليون يعرفون تماماً أن مصدر قوة خصومهم هو إيرادات النفط، ويبدو أنهم تعلّموا الدرس الذي تعلّمه جورج بوش الابن؛ لا بد من السيطرة على منابع النفط لضرب الخصم في مقتل، كما أن السيطرة على منابع النفط تعني استخدام إيراداته في المستقبل لدعم الحكومة التي يريدها الداعمون الدوليون، وبالتالي فإن تمويل الحكومة الجديدة لن يكون على حساب الدول الأخرى أو دافعي الضرائب فيها.
النفط متوافر في أي مكان، وبأسعار منخفضة، ولا حاجة لأي دولة بإنفاق مليارات الدولارات في حروب مباشرة أو غير مباشرة، فقط للحصول على هذا النفط. وتستطيع الدول التي تتعامل مع إيران وفنزويلا الحصول على النفط بأرخص الأثمان. نعم، شهدت صناعة النفط العالمية في بدايتها صراعاً دولياً للسيطرة على منابعه للحصول عليه، ولكن هذا الزمن قد ولى. فأوروبا لديها حقول بحر الشمال، والولايات المتحدة أكبر منتج للنفط حالياً. وإذا نظرنا إلى نفط أميركا الشمالية، فإن إنتاجها يمثل أكثر من 23 في المئة من إجمالي الاستهلاك العالمي. وسيطرة الأتراك على النفط الليبي لن تفيدهم إلا استراتيجياً، وتكاليف الحرب لأي دولة أكبر بكثير من أي عوائد للنفط، ولنا في العراق عبرة. ورأينا ترمب يطالب العراق عدة مرات بدفع تكاليف تحريره.
إلا أنه لا يمكن إنكار مصلحة أخرى للدول التي تحاول السيطرة على النفط الليبي؛ عقود إعادة بناء ليبيا، ثم السوق الليبية نفسها، رغم قلة عدد السكان في ليبيا مقارنة بدول أخرى. ولكن يبقى هذا الهدف هامشياً، وليس أساسياً.
غاز البحر المتوسط وليبيا
أدعي أن الغاز في حوض المتوسط هو غطاء سياسي لأمور أكبر من الغاز، والحديث عن الغاز والتنقيب عنه لذر الرماد في العيون. باختصار، الموضوع أكبر من الغاز. الأمور المؤكدة حالياً ما يلي:
1- اعتماد تركيا على الغاز الروسي والإيراني حجّم من طموحات الحكومة التركية العالمية، وبالتالي فإن إيجاد موارد غاز محلية له أهمية استراتيجية بالنسبة لتركيا، بغض النظر عما إذا كانت هذه الموارد اقتصادية أم لا. ومن الملاحظ في الشهور الأخيرة زيادة اعتماد الحكومة التركية على الغاز المسال الأميركي، الذي فسره البعض على أنه إرضاء لترمب. قد يكون الأمر كذلك، ولكن حتى لو ربح جو بايدن الانتخابات، فإن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، لأن تركيا تحاول التقليل من الضغوط الروسية والإيرانية عليها. من هذا المنطلق، فإن تركيا تنظر إلى البحر المتوسط على أنه فرصتها الذهبية لإنقاذها من الضغوط الروسية والإيرانية. تركيا لا يهمها الغاز في المياه الليبية لأن ما تريده هو “غاز محلي”.
2- تكاليف إنتاج الغاز في المياه العميقة للبحر المتوسط عالية، وبالتالي يجب أن تكون الاحتياطيات المكتشفة كبيرة، مثل حقل “ظهر” المصري مثلاً أو أكبر. وهنا لابد من ذكر حقيقة وهي أن تكلفة الغاز الذي تنتجه إسرائيل مرتفعة بكل المقاييس، وهذا أحد أسباب تأخر وتعثر هذه المشروعات، وسبب التدخل الحكومي حتى في العقود، رغم أن الشركات خاصة. أسعار الغاز العالمية منخفضة جداً حالياً، وطالما أن الغاز الصخري موجود فإن أسعار الغاز ستبقى منخفضة نسبياً، الأمر الذي يجعل مشروعات شرق البحر الأبيض المتوسط غير مجدية، إلا إذا كانت الاكتشافات كبيرة كما ذكر سابقاً. وكما أسلفت، الأمر بالنسبة لتركيا لا علاقة له بالتكاليف لأن الهدف استراتيجي وليس اقتصادياً، ولكن لكل شيء ثمن، وبالتالي فإن تركيا لا ترغب في دفع ثمن باهظ للقرار الاستراتيجي، ولكن ربما تكون راغبة في دفع سعر ما.
3- البيانات حتى الآن تشير إلى عدم وجود نفط بكميات تجارية في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، ولكن تشير إلى وجود احتياطيات للغاز الطبيعي. كما ترصد عدم وجود الغاز في الشمال، ولكنه يكثر كلما اتجهنا جنوباً باتجاه مصر. هذا يعني أن احتمال اكتشاف الغاز في المياه التركية ضعيف، بينما احتمال وجوده في نظيرتها الليبية أكبر.
خلاصة الأمر، إن اكتشاف الغاز في المياه الليبية لن يحقق لتركيا ما تريد، وهو تعزيز أمن الطاقة فيها لتخليصها من ربقة إيران وتركيا، وحتى لو تم اكتشاف حقول غاز في المياه الليبية فإن التكلفة عالية، ولن تستطيع تركيا تقنياً استخراجه بنفسها، بل تحتاج إلى مشاركة الشركات العالمية.
المثير في الأمر أن الشركات التي لها باع طويل في الموضوع تتبع الدول المعارضة للحكومة التركية: فرنسا وإيطاليا. ونظراً لهذه الصعوبات، أقول إن موضوع الغاز هو مجرد غطاء سياسي أكبر من الغاز.
رابط المصدر: