محمد برهومة
تركت الولايات المتحدة الأمريكية فراغاً في الشرق الأوسط استطاعت الدبلوماسية الصينية انتهازه، بكلفة بسيطة، فكان الاتفاق السعودي-الإيراني الأخير، نقطة نجاح دبلوماسي صيني، تَوَّج جهود فرقاء إقليميين توسّطوا بين الرياض وطهران على مدى الفترة الماضية، سواء عُمان أو قطر أو العراق.
الضمانة النسبية التي مثّلتها الصين، كدولة كبرى على علاقة حسنة مع كل من السعودية وإيران، أحدثت الفَرق هذه المرّة. ويُجدّد الاتفاق السعودي-الإيراني بوساطة صينية التساؤلات حول أمن الخليج، وما إذا كان ثمة ديناميات جديدة في مسار تنافس القوى الكبرى، قد تنعكس على البيئة الإقليمية.
وهناك سؤالان أساسيان، قد تنجح الإجابة العميقة والدقيقة عنهما في تقديم فهم أفضل للاتفاق السعودي-الإيراني الذي توسّطت بيجين فيه، وجرى الإعلان عنه في العاشر من مارس الجاري. السؤال الأول متعلّق بالاستفهام عمّا إذا كان هذا المسار تكتيكياً أم استراتيجياً؛ والثاني يتعلق بالمكاسب والخسائر لكل طرف من الأطراف الثلاثة التي أخرجت هذا الاتفاق إلى النور.
التهدئة وخفْض التصعيد
إن عبارة “التهدئة وخفض التصعيد” تكاد تكون الأكثر تردداً على ألسنة صنّاع هذا الاتفاق، وكذلك من جانب مَن تفاعل معه في المنطقة وخارجها. وتكاد تتوجه الأنظار إلى الوسيط أو الضامن الصيني؛ للحصول على إجابة عمّا إذا كان بإمكانه تغيير السلوك الإيراني، الذي وَسَمَ السياسة الخارجية الإيرانية في الإقليم طيلة السنوات الماضية؟
ومع تشديد التوصية بضرورة التفاؤل الحذر، ومنح النفْس مزيداً من الوقت والترقب للحكم على حقيقة ما جرى واختبار تحدياته، فإن النجاح الصيني يمكن أن يكون حجراً آخر، إلى جانب الحرب في أوكرانيا، في بناء الحديث عن صعود تعددية أو ثنائية قطبية في النظام العالمي. وليس عديم الدلالة أن يتزامن الإعلان عن الاتفاق مع نيل الرئيس الصيني، شي جينبينغ، ولاية رئاسية ثالثة تاريخية.
ووفق التصريحات الرسمية العلنية، ما تزال بيجين ترفض فكرة أنها في وارد ملء فراغ تتركه واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، مشددة على أهدافها السياسية والاقتصادية في المنطقة. مع ذلك، فإن التساؤل يظل قائماً ومهمّاً حول متغيرات الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة للصين، وحول ما إذا كان النفوذ الجيو-استراتيجي الأمريكي في الخليج وعموم الشرق الأوسط سيقبل بفتح المجال للصين بـ”مشاركة العبء”؛ في ما يتعلق بحماية خطوط إمداد الطاقة وأمن الممرات المائية في الإقليم، وما يستتبع ذلك من تداعيات والتزامات وخرائط نفوذ مختلفة؟
وثمة من يلفت الأنظار إلى أنه حتى مع تَضرُّر سُمعة الولايات المتحدة بعد الانسحاب “الفوضوي” من أفغانستان وغير هذا، وبأن ذلك يترك تداعياته على المصداقية بالتزامات أمريكا حيال أمن حلفائها، فإن التوقعات من أمريكا ما تزال عالية من جميع حلفائها وشركائها وغيرهم. ومع كل حدث أو اضطراب، يبدو أن السؤال الذي يطرحه الناس على أنفسهم ليس أبداً ماذا ستفعل الصين؟ بل لا يزال دائماً ما الذي ستفعله الولايات المتحدة؟ هذا سوف يستمر وهو ما ستتأثر به، بالطبع، دول الخليج العربية. ومع نجاح الوساطة الصينية فإن ترقّب أي استجابة أمريكية جديدة يبقى محلّ اهتمام من الجميع.
لا يمكن إنكار أنّ هناك “انتظارات” أفرزتها الوساطة الصينية في الاتفاق السعودي-الإيراني، كان لها اتصال باحتمالات انتقال بيجين من لاعب وشريك اقتصادي بارز ومهم لدى دول الشرق الأوسط إلى لاعب وشريك أمني أو عسكري. في السابق، كانت الإجابات عن هذه المسألة تتراوح بين نفي الرغبة أو القدرة الصينية بلعب دور جيو-أمني بارز في الخليج والشرق الأوسط، أو أن هذا التحول المفترض محل اعتراض شديد من جانب الولايات المتحدة، باعتباره يهدد مصالحها في المنطقة ووجودها العسكري ونفوذها الاستراتيجي لدى حلفائها في عموم الشرق الأوسط. والذي حدث، أن نجاح الوساطة الصينية مع الرياض وطهران حرّك التساؤل في ظل ديناميات جديدة، قد تؤشّر إلى منظور جديد لأولويات اللاعبين وتفضيلاتهم واصطفافاتهم.
دعوات إقامة نظام أمن جماعي في عموم الخليج
على مدى سنوات، تكررت الدعوات لإقامة نظام أمن جماعي إقليمي في منطقة الخليج وبحر العرب ومضيقي هرمز وباب المندب، يضم إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي، إيران والعراق، وأيضاً اليمن. لا تزال هذه الدعوات مستمرة، والمبادرات الإقليمية والدولية بشأنها متعددة. ولا شك في أن متطلبات التهدئة والحوار والتعاون اليوم أكثر إلحاحاً؛ فالحلول العسكرية في المنطقة لم تصل إلى نتائج مُرضية، والصراعات المفتوحة زادت كلفة الفاتورة الاقتصادية.
لكنّ خبرة السنوات، بل العقود الماضية، بشأن الدعوات إلى هيكل أمني جماعي في عموم الخليج بضفتيه، أظهرت أن العقبات التي تمنع انبثاق هذا الهيكل الجماعي عديدة، من أبرزها:
1. ضعف الإرادة السياسية للاعبين الإقليميين لتخليق إجراءات بناء ثقة واسعة وشاملة ومُستدامة فيما بينهم، يمكن البناء عليها لتهيئة الطريق للدخول في توافقات عامة على خطوط عريضة حول الملفات والقضايا الشائكة وأوجه الخلاف بين دول المنطقة، وخاصة إيران ودول “مجلس التعاون”.
2. الافتقار إلى نظام مُستدام للردع الاستراتيجي، من شأن توافره أن يُنشِئ توازناً نسبياً في القوى، يحفّز على الانضباط وتراجع العناصر المُوَلِّدَة للحروب والأزمات. وتقع مسؤولية هذا الافتقار على الأطراف الدولية الكبرى، التي ما تزال تتصادم مصالحها وأولوياتها ومقارباتها واستراتيجياتها في منطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط.
3. هناك، في الإقليم، نقص استراتيجي في تعلّم الدروس، والإغراء بمزايا الازدهار والاستقرار والمشاركة، بدلاً من الحروب والنزاعات واستنزاف الموارد، واستمرار تهميش الشعوب وانقسام المجتمعات، وإدارة العلاقات الدولية بمنطق صِفريّ، يقدّم الشعبوي والأيديولوجي على الواقعي.
الاستنتاجات
السعودية وعموم دول الخليج والمنطقة تؤيد التهدئة وتستفيد وتنتعش من الاستقرار والتوافقات السياسية، لكنّ التحدي يبقى اقتناع الطرف الإيراني بأهمية التهدئة والحوار والدبلوماسية، وبأن ثمارها أفضل من التصعيد والتوتر والصراع. هذا تحدٍّ أساسي، وهناك مراهنة أو تفاؤل حذِر بأن بيجين كتبتْ جملة مفيدة ومؤثّرة في هذا المجال، وكذلك في مُمكنات أدوارها العالمية المقبلة.
في المقابل، فإن التصرّف وكأن الاتفاق مؤشر إلى أن الولايات المتحدة فقدت نفوذها في الشرق الأوسط ليس صحيحاً أو واقعياً. لا تزال واشنطن اللاعب الدولي الأكثر نفوذاً وتأثيراً في الشرق الأوسط، والأكثر في عدد الحلفاء والشركاء، والأكثر امتلاكاً لأدوات النفوذ المستدام والعلاقات الاستراتيجية مع الفاعلين الإقليميين.
إنّ تَعزُّزَ إجراءات بناء الثقة بين إيران وجيرانها خطوة مهمّة على طريق التوجّه لبحث حل المشكلات الإقليمية والملفات الشائكة. وفي الفترة المقبلة، قد نشهد مزيداً من الزخم الإيجابي في العلاقات الخليجية-الإيرانية، وقد تكون هذه اللحظة مناسبة لاتخاذ إجراءات جادة، وبناء أسس لبيئة أمنية إقليمية أكثر استدامة وشمولاً؛ لأن البديل في أحسن الأحوال نجاحات تكتيكية في خفض التصعيد، وإدارة للأزمة بدل حلّها.
.
رابط المصدر: