ذكرى هجوم “آميا” ودلالات تصنيف حزب الله منظمة إرهابية

استطاعت إيران وأذرعها في المنطقة ومنهم حزب الله منذ أواسط الثمانينيات بناء شبكة نفوذ أمنية ومالية قوية في أنحاء مختلفة من العالم وصلت إلى قارة أمريكا اللاتينية، وشكل هذا النفوذ تهديدًا للاستقرار والأمن في الدول والمناطق التي يؤثر بها بسبب ممارسة أنشطة غير مشروعة، والتي بدأت بالظهور أكثر في تفجير السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس عام 1992، وتفجير مبنى الجمعية التعاضدية اليهودية الأرجنتينية “آميا” عام 1994 والذي أودى بحياة عشرات القتلى والجرحى آنذاك.

في حين استمرت إيران بدعم نفوذ حزب الله بشكل رئيسي في الأرجنتين والبرازيل والبارغواي وغيرها من دول أمريكا الجنوبية، وتحولت أنشطة الحزب إلى تحركات عابرة لحدود الدولة اللبنانية، وأصبح يمتلك شبكة علاقات كبيرة وواسعة تؤمن له جانبًا من الدعم المالي واللوجستي عبر تجارة المخدرات وغيرها من المشاريع غير القانونية من جهة، كما تؤمن له عمقًا أمنيًا في مناطق غير مرتبطة جغرافيًا بالشرق الأوسط من جهة أخرى. مستفيدًا من بناء علاقات فعالة مع رجال أعمال لبنانيين وغيرهم كانوا قد هاجروا منذ عقود إلى دول أمريكا اللاتينية بسبب الحرب الأهلية في لبنان.

لكن الأصوات المطالبة بتقويض دور إيران وحزب الله في القارة الأمريكية الجنوبية وخصوصًا في الأرجنتين التي شهدت تفجيرات وعمليات دموية لفتت الأنظار مجددًا إلى طبيعة ذلك الدور في المنطقة وتأثيره على مسار السياسات المستهدفة للملاحقة القضائية على الأقل، للمتورطين بالعمليات المشبوهة داخل الأرجنتين وخارجها، ولذلك أقدمت حكومة بيونس آيرس على اعتبار حزب الله منظمة إرهابية عابرة للحدود، كأول خطوة إجرائية قانونية في أمريكا الجنوبية تستهدف نشاط الحزب المتنامي منذ عشرات السنوات أي بعد 25 سنة وعلى أصعدة مختلفة بدعم من إيران.

لكن النقاش يدور حول جدوى هذا الإجراء وقدرته عمليًا على إضعاف ممارسات إيران وحزب الله على الأراضي الأرجنتينية واللاتينية، خصوصًا وأن هذه الممارسات لا تزال في توسع على الرغم من التصعيد الدبلوماسي والأمني الذي تمارسه الدول المناهضة لسياسات إيران وأذرعها ما يثير الشكوك حول مستقبل وتأثير هذه السياسات سيما التي يطبقها حزب الله في لبنان وخارجه.

تفاصيل تفجير آميا والسفارة الإسرائيلية في بيونس آيرس

وقعت في التسعينيات أعنف عمليتي تفجير شهدتهما البلاد واستهدفتا اليهود الذين يعتبرون جزءًا من المجتمع الأرجنتيني إذ يبلغ تعدادهم ما يقارب 200 ألف شخص، وهي أكبر طائفة يهودية في أمريكا اللاتينية، وتنشط عدة جمعيات يهودية داخل الأراضي الأرجنتينية ما جعلها محط تركيز لسياسات إيران وأنشطتها([1]).

تفجير السفارة الإسرائيلية([2])

في 17 آذار/مارس عام 1992 في وقت متأخر ليلًا، استهدفت شاحنة محملة بالمتفجرات مبنى السفارة الإسرائيلية الذي يقع قرب كنيسة كاثوليكية ومدرسة قريبة، وأحدث الهجوم أضرارًا بالغة أدت لانهيار المبنى المكون من أربعة طوابق، ومقتل 29 شخصًا من بينهم 4 إسرائيليين – اثنتين كانتا زوجتا القنصل والسكرتير الأول في السفارة الإسرائيلية – والباقي مدنيين وجرح ما يقارب 250 شخصًا. وبعد أيام من وقوع التفجير تبنى تنظيمٌ يُدعى “منظمة الجهاد الإسلامي” مسؤوليته عن هذا الحادث كرد على مقتل زعيمها عباس الموسوي، ونجله في هجمة جوية إسرائيلية في شباط/فبراير 1992. وأُثبت فيما بعد انضمام هذا التنظيم لحزب الله وتلقيه دعمًا من إيران للقيام بالتفجير؛ لأن الأرجنتين أوقفت عام 1991 شحن المواد الخام النووية إلى طهران بسبب ظهور مؤشرات على عدم سلمية برنامجها النووي.

تفجير الجمعية اليهودية “آميا”([3])

في صباح يوم 18 تموز/يوليو 1994، وبحسب الخارجية الأمريكية “قاد انتحاري من حزب الله، بدعم من النظام الإيراني، شاحنة تحمل 275 كيلوغرام من المتفجرات إلى مبنى جمعية المعونة المتبادلة اليهودية الأرجنتينية (AMIA). وقد أسفر انفجار تلك الشاحنة عن مصرع 85 شخصًا وجرح 300 آخرين”. وأثبتت تحقيقات السلطات الأرجنتينية تورط حزب الله وإيران في الحادثة وتم إصدار مذكرة اعتقال دولية ضد الرئيس الإيراني الأسبق “أكبر هاشمي رفسنجاني”، وثمانية مسؤولين إيرانيين سابقين لعلاقتهم بالتفجير، بالإضافة إلى قياديين في حزب الله وكان من أبزر تلك الأسماء الضالعة في العملية([4]):

– علي أكبر ولايتي: وزير خارجية وعضو برلماني سابق، صدر أمر باعتقاله في عام 2007 إثر اتهامات بمشاركته في التخطيط للعملية.

– محسن رضا: أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني وقائد الحرس الثوري الأسبق.

– أحمد وحيدي: وزير الدفاع الإيراني السابق، وأحد أبرز القادة بالحرس الثوري الإيراني.

– علي فلاحيان: سياسي إيراني ووزير الاستخبارات الإيرانية السابق، مطلوب من الإنتربول لتورطه في    العملية.

– عماد مغنية: قائد عسكري بحزب الله اللبناني اغتيل في دمشق عام 2008، اتهمته الأرجنتين بالتورط في تفجير بوينس آيرس.

إجراءات الحكومة الأرجنتينية

استدعت حادثة 1992 قيام السلطات بإجراء تحقيقات للكشف عن تفاصيل هذا الهجوم والمتورطين به، لكن مسار هذه التحقيقات لم يواكب حجم التهديد الأمني في البلاد، وحين وقوع هجوم 1994 تم لفت النظر إلى ضرورة التسريع بالخطوات الإجرائية والقانونية للحد من حجم المخاطر الأمنية التي تحدق بالبلاد، لكن مع ذلك شهد هذا المسار عراقيل عدة تمثلت بتدخل أصحاب نفوذ في الدولة يرتبطون بإيران وحزب الله لإعاقة الطريق أمام إدانة المشتبه بهم، حتى أن هذا الأمر طال رئيسة البلاد الأسبق كريستينا فرنانديز كريشنر، عندما قامت النيابة العامة الأرجنتينية عام 2015 بتوجيه الاتهام رسميًا لرئيسة البلاد بالتدخل لمنع محاكمة مسؤولين إيرانيين في قضية تفجير المركز اليهودي آميا. خصوصًا وأن الرئيسة كانت قد أبرمت اتفاقًا مع طهران عام 2013 ينص على إنشاء لجنة لتقصي الحقائق لحل قضية تفجير 1994 ما أغضب إسرائيل وأثار انتقادات من زعماء اليهود في بوينس آيرس والولايات المتحدة([5]).

ولم تقتصر عرقلة التحقيقات على ما سبق، ففي عام 2009، اتهم أحد القضاة، الرئيس السابق كارلوس منعم بعرقلة التحقيق في هجوم آميا بين عامي 1989-1999 معتبرًا أنه لعب دور “المحرض” على جنح مثل “إخفاء المعلومات وتجاوز حد السلطة”([6]).

لكن مع وصول الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري إلى رأس السلطة عام 2015، شهدت التحقيقات في تلك القضايا فاعلية أكبر، خصوصًا وأن ماكري عمل على تعزيز علاقات بلاده مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وقد تم توقيع سلسلة اتفاقات مع الأخيرة في مجالات الضمان الاجتماعي والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر وتهريب المخدرات، إضافة إلى مجالات تبييض الأموال والجريمة الإلكترونية. وهو ما ألزم السلطات الأرجنتينية بتفعيل التحقيقات بشكل مكثف حول استهداف الطائفة اليهودية من قبل إيران وحزب الله، وقد أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 2017 بجهود بيونس آيرس في ملاحقة المتورطين في هجوم آميا([7]).

وأسفرت الجهود السابقة عن إصدار قرار عام 2018 بتجميد أصول 14 فردًا من عائلة بركات، وهي عائلة كبيرة لها صلات وثيقة بحزب الله اللبناني. كما تم مؤخرًا عام 2019 إصدار حكومي “يأمر بتجميد أصول منظمة حزب الله الإرهابية وكيانات محددة في الجناح العسكري تشكل جزءا من هذه المنظمة وقادة المنظمة، وإنشاء سجل رسمي للأشخاص والمنظمات الإرهابية، بموجب مرسوم يقضي بفرض عقوبات عليهم مثل تجميد أصول أو منعهم من الدخول إلى أراضي البلاد”([8]).

مستقبل النفوذ الإيراني وحزب الله في أمريكا الجنوبية

أشارت تفجيرات بيونس آيرس إلى وجود شبكة نفوذ قوية تستثمرها إيران ويقودها حزب الله لتهديد الاستقرار في القارة اللاتينية، وقد نبّه “المدّعي العام الأرجنتيني، ألبيرتو نيسمان، الذي قُتل مؤخّرًا خلال تحقيقه في تفجير آميا -تم اغتياله بعد أربعة أيام من اتهامه رسميًا للرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز، بتغطية دور المسؤولين الإيرانيين الذين اتهموا بالتفجير([9])– عبر تقرير موجّه إلى سلطات تشيلي والبرازيل والأوروغواي والباراغواي وغيانا وترينيداد وتوباغو وسورينام وكولومبيا على ضرورة التيقظ من التسلّل الإيراني للمنطقة”.

من جهة أخرى يعتبر الشريط أو المثلث الحدودي المشترك بين البرازيل والباراغواي والأرجنتين ملاذًا آمنًا للعمليات الإجرامية وغير القانونية، وهي المنطقة التي ينشط فيها حزب الله بشكل كبير ضمن المجتمعات المحلية للجالية الشيعية واللبنانية هناك؛ بهدف جمع مبالغ كبيرة من المال عبر الأعمال غير المشروعة والتهريب خصوصًا في الاتجار بالمخدرات بالتعاون مع عصابات مافيا، وقدرت أرقام حكومية أمريكية أن حزب الله “استطاع غسل أموال تُقدر بـ 200 مليون دولار في الشهر من بيع الكوكايين في أوروبا والشرق الأوسط من خلال عمليات جرت في لبنان وغرب أفريقيا وباناما وكولومبيا عبر استخدام مكاتب صرف العملات وتهريب كميات كبيرة من الأموال النقدية، ما مكنه من زيادة دعمه اللوجستي والتسليحي خصوصًا بعد دخوله إلى سورية ومساندة نظام الحكم فيها، بالإضافة إلى تمويل بقية أنشطته المزعزعة للاستقرار”([10]).

بالتالي هل سيؤدي قرار الأرجنتين باعتبار حزب الله منظمة إرهابية إلى دفع بقية دول أمريكا الجنوبية للاتجاه في هذا المسار؟ وكيف سيتم تقويض هذا النفوذ الواسع الذي يملكه الحزب وإيران من خلفه منذ حوالي 30 سنة بشكل فعال يسمح بمكافحة سلوكهما وأنشطتهما المهددة لأمن القارة اللاتينية؟

([1])  “Argentina marks 1994 bomb attack”. BBC, 18-7-2006. https://bit.ly/2Y2h3bL

([2]) تقرير “أنماط الإرهاب العالمي 1992”. صادر عن الخارجية الأمريكية، https://bit.ly/2JOBobO

“الأرجنتين وإيران.. أبرز 4 اتهامات متبادلة بينهما منذ عام 1992”. ساسة بوست، 19-5-2016. https://bit.ly/2y9n2Mh

([3]) “ذكرى التفجيرات في الأرجنتين تذكرنا بمدى اتساع نطاق إرهاب النظام الإيراني”. موقع Share America التابع للخارجية الأمريكية، 19-7-2019. https://bit.ly/2ydjkRL

([4]) “حاكموا المتآمرين’.. ذكرى تفجير بوينس آيرس”. الحرة، 20-7-2018. https://arbne.ws/2JGXk5r

([5]) “الأرجنتين وإيران تشكلان “لجنة لتقصي الحقائق” بشأن تفجير 1994″. رويترز، 27-1-2013. https://bit.ly/2y9CRTq

([6]) “الأرجنتين : اتهام كارلوس منعم بعرقلة التحقيق في تفجير “أميا”. صحيفة الحياة اللندنية، 3-10-2009. https://bit.ly/2LFbr0q

([7]) “نتانياهو يشيد بجهود الأرجنتين لحل قضية تفجير مركز يهودي العام 1994”. صحيفة الحياة اللندنية، 13-9-2017. https://bit.ly/2JYONwP

([8]) “الأرجنتين تصنف «حزب الله» إرهابيًا وتأمر بتجميد أموال أعضائه”. الشرق الأوسط، 19-7-2019. https://bit.ly/30JQAMV

“الأرجنتين: تجميد أصول حزب الله في ذكرى تفجير الجمعية التعاضدية الإسرائيلية الأرجنتينية”. فرانس 24، 19-7-2019. https://bit.ly/2Y36Yem

([9]) “تقرير جديد : المدعي العام الأرجنتيني السابق “نيسمان” قُتل ولم ينتحر”. الأناضول، 6-11-2017. https://bit.ly/2YnNssE

“القضاء الأرجنتيني يؤكد أن المدعي نيسمان تعرض للاغتيال”. فرانس 24، 2-6-2018. https://bit.ly/32SpK6Y

([10]) “أنشطة إيران و «حزب الله» تبقى كثيفة في أمريكا اللاتينية”. معهد واشنطن للدراسات، 11-8-2016. https://bit.ly/2YvfOya

 

رابط المصدر:

https://barq-rs.com/%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85-%D8%A2%D9%85%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%B5%D9%86%D9%8A%D9%81-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-2/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M