زيارة “ليز تراس” المرتقبة لتايوان وتأثيرها على العلاقات البريطانية – الصينية

نيرمين سعيد

 

بُنيت السياسة الخارجية للمملكة المتحدة على قاعدة استقر عليها حتى غدت عرفًا لكل الحكومات البريطانية، فالعرف القائم على أنه ليس للندن حلفاء أبديون ولا أعداء دائمون وإنما مصالح أبدية ودائمة، باتت الحاكم الأساسي لتوجهات بريطانيا الخارجية في وقت يتجه فيه المزاج العالمي إلى ترك ما تبقى من مسائل التحالف والعدائية، لصالح تغليب لغة المنفعة بالدرجة الأولى.

وفي هذا السياق المبدئي، يمكن وضع زيارة “ليز تراس” رئيسة الوزراء البريطانية السابقة المرتقبة إلى تايوان، غير مبالية بما يمكن أن يطبعه ذلك من تأثيرات سيئة على علاقاتها مع الصين، وهي الزيارة التي فُسرت من الجانب البريطاني بأنها زيارة دعائية تهدف بها “تراس” إلى إعادة إحياء مسيرتها المهنية المنهارة، بزيارة مثيرة للجدل تلتقي فيها بكبار المسؤولين في تايبيه.

وعلى قدر عدم المبالغة في رصد أهمية الزيارة لأنها تأتي من مسؤول سابق أي أنها غير رسمية إلى دولة لا تقيم معها بريطانيا أيضًا علاقات رسمية، إلا أنها تعطي مؤشرًا عن المنهجية التي تتعامل بها بريطانيا مع الصين والتي انتهى عصرها الذهبي منذ انتهاء عضوية لندن في الاتحاد الأوروبي. والتي تدور في مجملها حول أن الحكومة البريطانية تحاول التعامل مع الامتداد الاقتصادي والسياسي المتزايد للصين، في وقت يضغط نواب محافظون آخرون مؤثرون على رئيس الوزراء وحكومته لاتخاذ موقف أكثر تشددًا.

توقيت الزيارة

تأتي زيارة ليز تراس للجزيرة التايوانية في وقت أجرت فيه بكين تدريبات عسكرية بالقرب من تايوان وتجاوزت مجالها الجوي، حيث أصبح الوضع حول الجزيرة أكثر احتدامًا من أي وقت مضى.

كذلك تأتي زيارة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة لاحقة للزيارة التي قامت بها نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة إلى تايوان، وفي حين ردت الصين باستعراض هائل للقوة في أعقاب زيارة بيلوسي إلا أن رد فعل بكين كان محسوبًا بدقة، وربما هو ما شجع مسؤولين آخرين على زيارة الجزيرة التايوانية ومنهم “تراس” التي تنتظر زيارتها لتايبيه خلال الأسبوع القادم. وهي الزيارة التي يمكن أن تثير ردًا صينيًا أكثر انفعالًا خصوصًا أنه من المتوقع أن تدعم رئيسة الوزراء ووزيرة الخارجية السابقة، عضوية تايوان في الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، إذ لن يؤدي انضمام تايوان فقط إلى تعزيز التجارة بين المملكة المتحدة وتايوان، والتي تبلغ 8.5 مليارات جنيه إسترليني بالفعل، بل سيساعد أيضًا في إنشاء المزيد من الروابط الاقتصادية والمرونة لهذه الديمقراطية المهمة حسب رؤية تراس.

يتوسط توقيت الزيارة أيضًا حالة من احتدام التوتر بين بكين والغرب، خصوصًا أنه من المتوقع أن “تراس” ستحث الغرب على “اتخاذ موقف حقيقي بشأن التعاون العسكري والدفاعي” لتجنب الصراع في بحر الصين الجنوبي، ويرجع ذلك إلى رؤية تراس بأن حكومة ريشي سوناك تتبنى لغة أقل تشددًا، حيث قامت لندن بتحديث المراجعة المتكاملة للمملكة المتحدة بشأن السياسة الخارجية والدفاعية في مارس الماضي، واكتفت بوصف الصين على اعتبار أنها تمثل “تحديًا”.

كيف تقيم بريطانيا علاقتها مع الصين؟

تعتبر العلاقة بين المملكة المتحدة والصين علاقة “معقدة” شملت فترات من التعاون والمواجهة. وفي تلخيص للعلاقة على مدى العقد الماضي، فإن العصر الذهبي للعلاقات كان إبان فترة حكم رئيس الوزراء “كاميرون”، مع التركيز على العلاقات الاقتصادية، لكنها تدهورت في النصف الثاني مع تزايد القلق بشأن التحديات الأمنية.

وازدادت التوترات بشكل أكبر منذ عام 2020 نتيجة قانون الأمن القومي لهونج كونج، وقرار إزالة جميع معدات هواوي من شبكة الجيل الخامس في المملكة المتحدة بحلول نهاية عام 2027، وكذلك حتمية استجابة المملكة المتحدة وحلفائها لانتهاكات حقوق الإنسان، ومزاعم الإبادة الجماعية في مقاطعة شينجيانغ الصينية والتي تضمنت عقوبات على المسؤولين الصينيين.

يضاف إلى ما سبق تحديات أمنية تتمحور في جوهرها حول الأمن البحري في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وما يزيد من احتدام الأمر الترويج لترتيبات دفاع القوى الخمس بين المملكة المتحدة وأستراليا وماليزيا ونيوزيلندا وسنغافورة، والتحالف الاستخباراتي Five Eyes بين أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، الأمور التي تزيد من حدة الاستقطاب في هذه المنطقة.

كذلك تتخوف لندن من مسألة الأمن السيبراني وقدرة الصين على الوصول إلى “المعلومات المهمة والحساسة من خلال التجسس الإلكتروني” والهجمات الإلكترونية. وحسب التقديرات البريطانية فإن احتمال نشوب نزاع على تايوان هو الأمر الأكثر خطورة الذي يواجه المملكة المتحدة، فيما يتعلق بعلاقتها مع الصين. ولكن لندن لا زالت تصر على حماية مصالحها الاقتصادية مع بكين، وفي هذا السياق فإن المملكة المتحدة تهدف إلى لتحقيق التوازن في سعيها لعلاقة تجارية “إيجابية” مع الصين والتعاون في القضايا العالمية، مع الحاجة إلى حماية الأمن القومي للمملكة المتحدة وقيمها.

كيف تقيم الصين علاقتها مع بريطانيا؟

تستخدم جمهورية الصين الشعبية مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة بصمتها العالمية، مع الحفاظ على الغموض بشأن استراتيجيتها ونواياها وحشدها العسكري، حيث تسعى إلى التحكم في القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسة والبنية التحتية الحيوية والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد.

وعلى عكس ما قد يفترض، فقد ظلت المؤسسات الفكرية والأكاديمية الصينية، بشكل عام، متفائلة نسبيًا بشأن مستقبل العلاقات الصينية البريطانية، وذلك بالبناء على أنه كان قدرًا معينًا من الاضطرابات التي أعقبت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مقرونًا بتدخل الولايات المتحدة في علاقات بريطانيا مع الصين، وهو ما كان متوقعًا ولكن في نفس الوقت تعتبر بكين هذه المرحلة مؤقتة.

ولذلك ينظر إلى الموقف البريطاني الحالي “المناهض للصين” عمومًا، على أنه ناتج عن الحاجة إلى بناء تحالفات جديدة مع شركاء متشابهين في التفكير من ناحية تبني المنهجية الليبرالية الحرة، ويمكن إسقاط نفس المنطق على وجهة نظر حاجة بريطانيا إلى الاقتراب أكثر من الولايات المتحدة، على الرغم من أنه في هذه الحالة ينظر إلى واشنطن على أنها تسعى لاستغلال نقاط الضعف البريطانية، ولكن في نفس الوقت هناك حالة من الإجماع تسيطر على مراكز الفكر الصينية وترى في هذا التحالف الأنجلو أمريكي تحالفًا وقتيًا.

وبينما تعمل بريطانيا تدريجيًا على حل خلافاتها مع الاتحاد الأوروبي وتوطد تحالفاتها الأخرى، يتوقع معظم المحللين أن اعتمادها على الولايات المتحدة سيبدأ في الانخفاض، مما يترك مجالًا أكبر للتعاون الصيني البريطاني. علاوة على ذلك، فإن المملكة المتحدة التي تعاني من ضائقة مالية ولا يمكنها ببساطة تحمل خسارة علاقتها مع بكين.

استخلاصًا مما تقدم، فإن زيارة ليز تراس تأتي في إطار إحياء مسيرتها المهنية القصيرة وربما لا يكون لها أية إسقاطات سياسية على مستقبل العلاقات بين بريطانيا والصين ببساطة، لأن بكين أهم من أن تخسرها لندن ولندن أهم من أن تخسرها بكين، مع الأخذ بالحسبان أن كلا البلدين لديه خطوط حمراء عند التعامل مع الآخر. فالصين تعتبر تايوان خطًا أحمر، بالإضافة إلى أن لندن لديها خطوطها الحمراء عندما يتعلق الأمر بحماية القيم التي تؤمن بها.

ولذلك فإن مستقبل العلاقات الصينية البريطانية لا يعتمد فقط على سلوك بريطانيا في المستقبل، وإنما يعتمد كذلك على سلوك الصين. كما تتحكم في طبيعة العلاقات بين البلدين الأحداث الدولية، ومن بينها ضغوط الهيمنة الأمريكية التي تحتل مكانة بارزة. حيث أثبتت المملكة المتحدة حتى الآن على الأقل أنه عندما يتعلق الأمر بالصين فإنها تدعم السياسة الخارجية لواشنطن، ولكن بصرف النظر عن التوترات الدبلوماسية والعسكرية، فإن العلاقة الاقتصادية بين المملكة المتحدة والصين – وهو أكثر ما يهتم به كلا البلدين – تستمر بلا انقطاع، ولا يبدو أن الحكومة البريطانية لديها أي نية في تقليصها على أقصى تقدير.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/77282/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M