في رابع زيارة له إلى الشرق الأوسط في غضون ثلاثة أشهر، تأتي زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اليوم إلى القاهرة بعدما أجرى محادثات متعددة مع زعماء المنطقة، في إطار الجهود الدبلوماسية لمنع اتساع نطاق الحرب في غزة، لقاء بلينكن بالرئيس السيسي حمل رسالة رئيسية عبرت عن حرص الولايات المتحدة في التنسيق مع مصر حول مستجدات الوضع في المنطقة على خلفية الحرب في غزة، التي أدت إلى تنامي التهديدات المرتبطة بالحرب على جبهات عدة، وصولًا إلى تصاعد التهديدات في مدخل البحر الأحمر، فضلًا عما يعتري عملية الوساطة المصرية – القطرية للتهدئة في غزة “من جمود”، في أعقاب اغتيال القيادي بحركة حماس، صالح العاروري بلبنان. وطرح إسرائيل لرؤية بشأن “مستقبل قطاع غزة”.
التقى وزير الخارجية الأمريكي بالرئيس السيسي قبل أن يغادر عائدا الى الولايات المتحدة بعد جولة شملت تسع دول من بينها تركيا والسعودية والإمارات وقطر. وفي كل محطات جولته دعا بلينكن الى العمل على عدم توسع النزاع. ومنع تصاعد الصراع بالمنطقة، حيث تعول الولايات المتحدة الأمريكية على مصر في التوصل لحل الأزمة بمساراتها المختلفة الإنسانية والسياسية والأمنية.
اجتماع بلينكن في القاهرة حمل عدد من الأولويات الرئيسية تمثلت في:
أولًا: الجهود المستمرة لتقديم وإيصال ودخول الجهود الإنسانية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إذ ركز اللقاء على دخول المساعدات الإنسانية، وتوزيعها داخل القطاع، بالكمية الكافية لإنهاء الكارثة الإنسانية وإنقاذ أهالي غزة من المعاناة الهائلة التي يتعرضون لها، والتنسيق في ذلك مع الأمم المتحدة ومصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والجهات الأخرى الفاعلة في المنطقة. وفي هذا الشأن أعرب بلينكن عن تقديره لشراكة مصر في المساعدة في إيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين في غزة.
ثانيًا: رغبة الوزير بلينكن في الاستماع وجهًا لوجه من الرئيس السيسي عن رؤية مصر بشأن أفاق الحل، وإطلاع السيد الرئيس على مجريات جولته بالمنطقة الهادفة إلى الحؤول دون اتساع رقعة النزاع بين إسرائيل وحركة حماس إقليميا. والتنسيق مع مصر في وقت تسعى فيه واشنطن إلى وضع حد لإراقة الدماء في قطاع غزة في ظل التهديد بامتداد الصراع إلى لبنان والعراق والممرات الملاحية بالبحر الأحمر. ومنع أي طرف من الأطراف في المنطقة من توسيع حدة الصراع.
ثالثًا: مناقشة الجهود المستمرة لتبادل الأسرى، ومن هذه الجهود وجود ترتيبات مصرية جديدة مع وسطاء لعودة التفاوض على صفقة تبادل أسرى بين إسرائيل وحماس، حيث تعمل مصر على ترتيب اجتماعات جديدة بين فصائل فلسطينية لمناقشة آليات التفاوض بالإضافة إلى أن وفدًا أمنيًا إسرائيليًا زار إلى القاهرة لإجراء مباحثات تركزت حول اتفاق وقف طويل لإطلاق النار مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الموجودين لدى الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة. وفي هذا الإطار ستدعم الإدارة الأمريكية الوساطة المصرية – القطرية، ضمن مساندتها لأي جهود تؤدي لإطلاق سراح المحتجزين في قطاع غزة، ولاستخدامه مكسبًا سياسيًا في عام الانتخابات الأمريكية.
رابعًا: مناقشة وقف إطلاق النار، شهد الاجتماع عرض الجهود المصرية للتواصل مع كافة الأطراف بهدف الوصول إلى وقف فوري لإطلاق النار، وكانت القاهرة قد قدمت مقترحات قبل اغتيال العاروري في بيروت، تتضمن 3 مراحل متتالية ومترابطة تنتهي بوقف إطلاق النار، إلا أن عملية الوساطة شهدت حالة من الجمود في أعقاب عملية الاغتيال.
خامسًا: مستقبل قطاع غزة، حيث تأتي مباحثات بلينكن في القاهرة في ظل تنامي الحديث في إسرائيل عن ضرورة المضي قدمًا في مشروع “التهجير” لسكان غزة خارج القطاع، وهو الأمر الذي ترفضه مصر بشكل قاطع حتى لا يتم تصفية القضية الفلسطينية وتفريغها من محتواها. وأكد بلينكن التزام الولايات المتحدة بضمان عدم تهجير الفلسطينيين في غزة قسرا وتحقيق السلام الإقليمي الذي يضمن أمن إسرائيل ويعزز إقامة دولة فلسطينية. كما قدمت مصر لوزير الخارجية الأمريكي “رؤية متكاملة” لمستقبل غزة تؤكد ضرورة إسناد إدارة القطاع حصرًا للفلسطينيين، ورفض أي مخطط إسرائيلي لإدارة غزة وإعادة المستوطنات.
سياقات حاكمة
قمة العقبة: جاءت زيارة بلينكن للقاهرة بعد يوم واحد من قمة العقبة التي عقدت بين الرئيس السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن والملك عبد الله الثاني ملك الأردن، حيث جاءت القمة في سياق الجهود المصرية للتنسيق مع الأردن والسلطة الفلسطينية فيما يتعلق بالموقف العربي المطلوب لمواجهة التدمير والكارثة الإنسانية التي خلفتها الحرب على قطاع غزة. واستطاعت القمة أن تعكس أعلى درجات التنسيق العربي من أجل الضغط لوقف العدوان الإسرائيلي وحماية المدنيين. توقيت قمة العقبة جاء للرد على تصريحات بلينكن، والتي لم يتعرض خلالها لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة ووقف الاستفزازات في الضفة الغربية، بل أشار إلى أن الحرب لم تصل إلى نهايتها وأهدافها، ما يعني أن الولايات المتحدة لا تضغط باتجاه وقف الحرب.
وكان العنوان الرئيسي للقمة الثلاثية هو رفض التهجير ووقف الحرب، وضرورة إدانة إسرائيل دوليا والتصدي لها. وحذر الزعماء في ختام القمة، من محاولات إعادة احتلال أجزاء من غزة أو إقامة مناطق آمنة فيها، وأكدوا على ضرورة تمكين أهالي غزة من العودة إلى بيوتهم. ووقف العدوان الإسرائيلي على غزة وحماية المدنيين العزّل، وضرورة إيصال المساعدات الإغاثية والإنسانية إلى غزة بشكل دائم وكاف، والرفض الكامل لجميع محاولات تصفية القضية الفلسطينية، والفصل بين غزة والضفة الغربية اللتين تشكلان امتدادا للدولة الفلسطينية الواحدة.
زيارة الرئيس الفلسطيني للقاهرة: التقى رئيس السلطة الوطنية الفسلطينية، محمود عباس أبو مازن، بالرئيس السيسي، واستعرض الرئيسين مستجدات العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة وما خلفته من مأساة إنسانية كارثية، إلى جانب الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة، وما تشهده من تصاعد للتوتر والعنف من قبل الاحتلال. وأكد السيسي أن القضية الفلسطينية تمر بمفترق طرق الآن، ومن الضروري أن يتحلى المجتمع الدولي بالمسؤولية التاريخية والإنسانية والسياسية لإقامة دولة للفلسطينيين. وبحث اللقاء سبل التعاون الثنائي من أجل الوقف الفوري والمستدام لحرب الإبادة الجماعية، التي تشنها إسرائيل في كافة أنحاء الأراضي الفلسطينية، وبحث اللقاء أيضًل الجهود المصرية والعربية والإقليمية والدولية المبذولة للتعامل مع الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في قطاع غزة. هذا اللقاء من أجل التنسيق والتشاورات والاستماع إلى الموقف المصري والتعرف على التنسيقات الأمنية خلال الفترة القادمة في قطاع غزة أيضا تحمل رسالة على الآلية الثالثة مصر والأردن وفلسطين.
التصعيد في البحر الأحمر: جولة بلينكن في المنطقة توقفت في مصر وتركيا، الأردن، قطر، الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، وإسرائيل، وهو ما يعني أن هناك أدلة كثيرة أن نقطة التوترات في المنطقة على وشك الغليان. لقد شن الحوثيون في اليمن هجمات متكررة بالصواريخ والمسيرات على السفن المدنية في البحر الأحمر، ما أدى إلى توقف حركة المرور عبر هذا الممر. وحذرت الولايات المتحدة من أنها ستدافع عن مصالحها، إذا استمرت هجمات الحوثيين واستمر الاضطراب في التجارة العالمية. فقد يكون الرد العسكري الأمريكي أمرا لا مفر منه.
التوترات في لبنان: تخشى واشنطن امتداد حرب إسرائيل في غزة إلى أنحاء المنطقة، لا سيما مع اغتيال إسرائيل القيادي في حركة المقاومة الإسلامية حماس صالح العاروري في بيروت والقيادي الميداني في حزب الله وسام طويل، وتهديد مسؤولين إسرائيليين بشن هجوم واسع على لبنان في حال عدم التوصل لاتفاق مع حزب الله يبعده عن الحدود. ويتبادل حزب الله إطلاق النار مع جيش الاحتلال عبر الحدود منذ 8 أكتوبر الماضي دعما لقطاع غزة، في حين يقول الحزب إنه لا يسعى لحرب واسعة النطاق مع إسرائيل. وتصاعد الوضع على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية بشكل كبير بعد أن استهدفت غارة إسرائيلية القائد الميداني لحزب الله وسام الطويل، الذي كان يقود قوة الرضوان النخبوية التابعة للجماعة. ومنذ ذلك الحين استمر تبادل إطلاق النار بين الطرفين، حيث هاجم “حزب الله” مقر القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي بطائرات مسيرة، في حين قتلت إسرائيل العديد من القادة الميدانيين الآخرين للجماعة المسلحة اللبنانية.
استهداف القواعد الأمريكية: تعرضت المنشآت العسكرية الأمريكية لهجمات بالصواريخ والمسيرات من مسلحين في العراق وسوريا، حيث يتمركز أكثر من 3000 جندي أمريكي. وفي أواخر أكتوبر، اخترقت مسيرة الدفاعات الأمريكية وضربت ثكنة لكنها لم تنفجر، ما جنب وقوع خسائر أمريكية كبيرة. وردت الولايات المتحدة بعمل عسكري، بما في ذلك غارة جوية في بغداد أسفرت عن مقتل مشتاق طالب السعيدي، القائد في الحشد الشعبي. وكشفت المقاومة الإسلامية في العراق عن أنها أدخلت وللمرة الأولى صاروخا ذكيا قصير المدى من طراز “صارم” إلى الخدمة، خلال استهدافها القواعد الأمريكية في المنطقة. وأوضحت أن استهدافها القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة يأتي في إطار ردها على “الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة بتوجيه وإدارة أمريكية.”
ثوابت ومحددات الدور المصري لحل القضية الفلسطينية
الرؤية المصرية لحل القضية الفلسطينية تنطلق من أنّ السلام العادل والشامل القائم على حلّ الدولتين، هو السبيل لتحقيق الأمن المستدام للشعب الفلسطيني، وأن مصر لا تتخلى عن التزامتها تجاه القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تتوانٍ القاهرة في الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة، واعتبرت أن استمرار العنف داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة يقوض الأمن والاستقرار بالكامل في المنطقة.
وعلى هذا تركزت التحركات المصرية حول عدة محاور:
المحور السياسي: الاتصالات المصرية المكثفة لم تتوقف منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصاعد وتيرة الحرب على القطاع، وإحكام الحصار على سكانه. وتقوم الإدارة السياسية باستقبال وفود من قادة حركة حماس بشكل دائم لبحث وترتيب قضية الإفراج عن المعتقلين في السجون الإسرائيلية مقابل الإفراج عن الرهائن الموجودين لدى حركة حماس. ومناقشة آليات التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار وتكثيف الاتصالات مع الولايات المتحدة وإسرائيل للتوصل إلى تفاهمات أمنية تفضي إلى وقف لإطلاق النار في القطاع غزة.
كما أعلن الرئيس السيسي، أن هناك استعدادًا لإقامة دولة فلسطينية حتى لو كانت منزوعة السلاح. خاصة أن مسار حل الدولتين فكرة استنفدت على مدار 30 سنة ولم تحقق الكثير. الطرح المصري يكمن في أنه يدفع باتجاه تجاوز الحروب المتكررة بين الجانبين، وينسجم مع مرتكزات الموقف المصري الداعي لإقامة الدولة الفلسطينية. ويحمل رسالة طمأنة لإسرائيل وداعميها، خصوصًا للولايات المتحدة، حتى لا يعرقلوا المقترح، فالهاجس الأمني لدى إسرائيل وداعميها كان أحد أسباب عرقلة كل محاولات إقامة دولة فلسطينية على مدى عقود، وإقامة دولة فلسطينية مكسب مهم وأداة فاعلة لكسر دائرة العنف، وتوفير أجواء من التهدئة المستدامة والاستقرار المنشود بالمنطقة.
المحور الأمني: أكدت خلاله القيادة المصرية رفضها القاطع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية وتصفية القضية الفلسطينية. وقدم الأمريكيون تعهدات واضحة للقاهرة بعدم تهجير سكان غزة نحو الأراضي المصرية. كما رفضت مصر إدارة قطاع غزة، وتواجد قوات من الناتو أو قوات أجنبية داخل القطاع بأي شكل أو تحت أي مسمى. واستطاعت مصر بالتنسيق مع الجانب الأمريكي إلى وضع تفاهمات أمنية جديدة حققت من خلالها تقدم على المسار السياسي وملف الأسرى، الأمر الذي أسهم في تحقيق هدنة وقامت مصر بتسليم الأسرى الإسرائيليين للجانب الإسرائيلي. ويتم الحديث حاليًا عن هدنة جديدة لتبادل الأسرى من الجانبين.
المحور الإنساني: نجحت مصر من خلاله في التوصل إلى اتفاق هدنة لإدخال عدد أكبر من شاحنات المساعدات الإغاثية إلى القطاع، خاصة أن زيادة كميات المساعدات إلى قطاع غزة ضمن أولويات الاتصالات المصرية ، ومن بينها الاتصالات الهاتفية بين الرئيس السيسي ونظيره الأمريكي جو بايدن، والاتصالات بقادة الدول الغربية والعربية التي أكدت إلى ضرورة التوصل إلى هدنة إنسانية فورية لتعزيز الجهود المكثفة التي تقوم بها مصر، بالتعاون مع الأمم المتحدة وكل الأطراف الدولية الفاعلة، لإيصال المساعدات الإنسانية والطبية والإغاثية إلى أهالي قطاع غزة. كما وجه الرئيس السيسي الجهات المعنية بسرعة التنسيق لاستقبال الأطفال حديثي الولادة من قطاع غزة، في ظل المخاطر التي يتعرضون لها نتيجة القصف الإسرائيلي للمستشفيات ونقص الوقود. ونقل الطفل الفلسطيني المصاب في قدمه عبد الله كحيل من رفح إلى معهد ناصر لتلقي الرعاية الصحية اللازمة، بناء على توجيه الرئيس السيسي، بعد تداول استغاثة الطفل للعلاج في مصر، عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
المحور الدبلوماسي: تواصلت الاتصالات المصرية مع كثير من الأطراف، إذ عقد وزير الخارجية سامح شكري مؤتمرات لدعم القضية وأجرى اتصالات مع جميع الدول العربية والغربية تقريبًا، وتركزت مباحثاته حول التصعيد في غزة، وضرورة إنفاذ هدنة إنسانية فورية، ومخاطر توسيع إسرائيل لعملياتها البرية في القطاع، وضرورة تكاتف الجهود الدولية لضمان النفاذ المستدام للمساعدات للتخفيف عن الفلسطينيين.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80509/