محمد علي جواد تقي
انفرد هارون العباسي بين الحكام من قبله، أنه أوصل الترغيب والترهيب الى الذورة، فقد بلغت ايرادات الدولة الاسلامية في عهده حوالي 500 مليون درهم سنوياً، وهو رقم مهول لم يسبق ان حظى به حاكم في الاسلام، وربما في الممالك الاخرى بالعالم، لان موارد هذه الاموال كانت مميزة، فهي ليس فقط من نتاج عمل الناس على شكل ضرائب كما هو في جميع الممالك في الارض على مر التاريخ، وإنما كانت للحكومة الاسلامية آنذاك ثلاثة موارد غنية جداً وهي: أولاً: الخراج (الضريبة وفق المصطلح الحالي)، وهو مقدار من المال المفروض تسديده من قبل اصحاب الاراضي من المشركين قبل الفتح، ثانياً: تُجبى من الجزية المفروضة على غير المسلمين لبقائهم على ديانتهم لقاء توفير الحماية لهم، وثالثاً: أموال الزكاة التي يصفها الشيخ باقر القرشي بانها “ذات وارد خطير”، حيث يفصل مواردها في النقدين الذهب والفضة، وفي الانعام الثلاثة؛ الابل والبقر والغنم، وايضاً الغلات الاربع؛ الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وهذه “بعض واردات الدولة التي أسسها الاسلام لسد شؤونها الاقتصادية”.
ولكن! لننظر الى أي اتجاه كانت تنفق هذه الثروة الطائلة من قبل هارون العباسي الذي يصفه البعض بانه “العصر الذهبي في الاسلام”!
المصادر التاريخية تزخر بتفاصيل الانفاق على المغنيين والمطربين والغانيات والجاريات، وعلى موائد القمار والخمور، فضلاً عن موائد الطعام الباذخة بشكل جنوني، ولمن يريد المزيد والتفصيل بالامكان مراجعة كتاب حياة الامام موسى بن جعفر، للشيخ المرحوم باقر القرشي وهو يبين كيف كان هارون ينثر مئات الدراهم والدنانير على اقدام الشعراء والمداحين، والمطربين والمطربات، وتفاصيل عن حياة سرف غير طبيعية، ولم يكتف بما يفعله داخل القصر من موبقات ومنكرات، وانما عمل بقصد وتخطيط مسبق لتحويل نمط الحياة هذه الى ثقافة عامة، “فانتشر الغناء في بغداد بشكل هائل، حتى عُدّ حاجة من حاجات الانسان الضرورية، فكان المغنون والمغنيات في الاماكن العامة وفي الشوارع وفي بيوت الاغنياء والفقراء”.
محاولة بائسة لمواجهة تيار الإصلاح
كما هو ديدن الحكام المزهوين بالسلطة والمَنعة، تحيطهم الاموال والسلاح والمشرّعين والطبلين، لا تبرح رؤيتهم أبعد من رؤوس انوفهم، لتصورهم تملّك كل شيء في الحياة، ثم تصورهم القاتل بأن تصفيتهم الجسدية للمعارضين كفيل بتوفير الأمن والاستقرار لهم، فكما أن المصادر التاريخية تسهب في تفاصيل حياة البذخ والمنكرات لهارون، فانها تسجل ايضاً أعمال القتل الجماعي لاتباع أهل البيت، وتحديداً من أولاد الأئمة المعصومين، بعد تغييبهم عن أعين الناس في المطامير والسجون المظلمة تحت الارض.
في هكذا واقع اجتماعي وسياسي ظهر الامام الكاظم، عليه السلام، وتسلّم خلافة جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهو في مدينة جده، يروي الحديث ويثبته للكتبة والحَمَلة، عن رسول الله، وعن أمير المؤمنين، ويلقي الدروس والعلوم على اتباعه وشيعته، كما كان يلهمهم سبل الكفاح والجهاد ضد الظلم والانحراف والتضليل، وهذا ما كان يخشاه هارون، بل وجميع الحكام من قبله، والى اليوم، فاذا نقرأ ونسمع عن ترفهم وبذخهم، فهذا لا يعني غفلتهم عن أعظم خطر يتهددهم وهو الوعي واستنفار الضمائر والعقول بين افراد الامة، ولذا كان هارون، بما أوتي من الموارد المالية الضخمة يسعى لمواجهة هذا التيار الاصلاحي الجارف من خلال “اتخاذ الشعراء بوقاً للدعاية والتهريج، فأشاعوا بين الناس فيما نظموه أن هارون حامي الاسلام، وممثل العدالة الاسلامية في الارض، وانه قد بسط الحق في جميع انحاء البلاد”!
ننقل مثال واحد من مئات الأمثلة على تلك المحاولات البائسة لتضليل الرأي العام، عندما مدحه شاعر أموي بقصيدة جاء في مطلعها:
يا أمين الله اني قائلٌ
قول ذي لُبّ وصدقٍ وحسبْ
لكم الفضل علينا ولنا
بكم الفضل على كل العربْ
فأمر له هارون بكل بيت ألف دينار، وقال له: لو زدتنا لزدناك!
سياسة البذخ هذه لم ينل منها افراد الامة في أقاصي البلاد، شرقاً وغرباً، فقد كان شضف العيش والمعاناة ملازمة لعيشهم، وانما كانت لشراء الذمم، وتمويل وعاظ السلاطين، وايضاً كبار الملاكين والوجهاء لاسكات سائر ابناء الامة، أو إشغالهم عن الهمّ الاساس في حياتهم وهو؛ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحكيم شرع الله وقيم السماء.
ومما يسجله التاريخ لنا أن رجلاً في منطقة نصيبين بارمينيا، يدعى؛ الوليد بن طُريف، ثار ضد والي هارون سنة 187للهجرة، وأخذ الحكم بعد قتله الوالي، فبعث اليه هارون بيزيد بن مزيد، وهو احد القادة العسكريين الكبار في جيش كثيف فحاربه، وكان الوليد ينشد في معركته:
انا الوليد بن طُريف الشاري
قسورة لا يصطلي بناري
جوركم اخرجني من داري
حركة الإمام الكاظم امتداد لحركة الانبياء
اذا كان منهج الحكام سياسياً بامتياز في تعاملهم مع افراد الأمة، فان منهج الإمام الكاظم، ومن قبله؛ الأئمة الاطهار، بل وحتى جدهم النبي الأكرم، صلوات الله عليهم اجمعين، هو البناء والإصلاح للنفوس والضمائر، فهي التي تأخذ باصحابها الى التغيير الحقيقي الذي يرتضوه لدينهم ودنياهم، فلم يكن الامام فقيراً او متقوقعاً في زوايا بيته، انما كان في قمة القوة والاقتدار في وسط القوة السياسية والاقتصادية لهارون العباسي، بيد انه كان يوجه قوته في تربية اتباعه على مواجهة الظلم، ونشر الوعي والايمان في افراد الامة، ومن ثمّ خوض المواجهة ببسالة وشجاعة.
الامام الكاظم، عليه السلام، لم يقم بعملين طالما يتحدث عنه البعض في الوقت الحاضر، على انه من أدوات المواجهة المجدية هما؛ شراء الولاءات بالمال، واعتماد العمل السري والسياسي، لان حركته لم تكن مشروعاً شخصياً، بقدر ما هي امتداد لحركة الانبياء والمرسلين، فكانت مهمتهم: “تنمية الضمير الديني الحق في الانسان، تنظيم حياة الانسان على الارض، وذلك من خلال وضع البرامج وبلورتها بشكل كامل، ورفع العقبات والعراقيل التي تعترض تطبيق تلك البرامج”.
هذا المشروع الفكري والثقافي هو الذي ضحى من اجله الامام الكاظم بحياته، وهو ذاته ما كان يخشاه هارون تحديداً رغم ادعائه الهيمنة والسلطنة على نفوس الناس وتفكيرهم ومواقفهم، فقد بلغ تطور الحركة الرسالية للإمام الكاظم أوجها، عندما تحولت الى دولة داخل دولة في غفلة من هارون وجهازه الحاكم، وثروته الطائلة، وجواسيسه، وعملائه، فالى جانب المتوغلين من اتباعه في البلاط العباسي مثل علي بن يقطين، وجعفر بن محمد بن الاشعث، وكانا من وزراء هارون في الظاهر، فقد كان للإمام سلاحٌ ماضٍ في مجال الفكر والثقافة باسم هشام بن الحكم، وهو ربيب الامام الصادق، عليه السلام، علّمه فنون الحوار والجدال والإفحام، وكان غنياً بالعلم والمعرفة، وقال عنه هارون ذات مرة: “مثل هذا حيّ ويبقى لي ملكي ساعة، فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف”.
ولوجود امثال هشام، وما كان يتحسسه هارون من توغل المعارضة الشيعية بقيادة الامام الكاظم في بلاطه، وفي كل مكان، ولاسباب عديدة تذكرها المصادر التاريخية، اتخذ هارون قراره الذي طالما كان يخشاه باعتقال الامام وإحضاره من مدينة جدّه الى بغداد، وكانت طريقة الاعتقال هي الاخرى مثيرة للتساؤل، حيث وقتها مع موسم الحج لئلا يثير حفيظة الناس، فجاء الى الديار المقدسة بدعوى إقامة مراسيم الحج، وحمل معه أكياس الذهب والفضة لينثرها على الناس رجاء صمتهم وعدم ابدائهم أية ردة فعل على اعتقاله الإمام واصطحابه مخفوراً الى بغداد.
ومنذ لحظة اعتقاله وحتى آخر لحظة في حياته الشريفة، كان الامام الكاظم يثقف الناس والمسلمين كافة على أنه معتقل دون ذنب قانوني، بينما هارون العباسي، وهو الحاكم المطلق، يرتكب باعتقاله وقتله ابشع الجرائم بحقه وبحقهم ايضاً بما يعزز عدم شرعية هذا الحكم في النفوس، وم ثمّ يحفزهم لاعلان المعارضة والتصدّي له بكل الوسائل، حتى انه كان يبعث العيون ليتجسسوا على الإمام وهو في سجنه المظلم ليسمعوا منه ما يقول، فسمع أحدهم من الامام يقول في دعائه: “اللهم انك تعلم انني كنت أسألك ان تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت، فلك الحمد”.
مع هذا التوجه الروحي والانقطاع المطلق الى الله –تعالى- كان صريحاً وحازماً أمام الظلم والطغيان، فحينما وقف امام هارون في قصره سأله: ما هذه الدار؟ فقال الامام: هذه دار الفاسقين، قال هارون: فدار من هي؟ قال: هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة، ثم سأله هارون: وما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ أجابه الامام: أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلا معمورة، قال: فأين شيعتك؟! فقرأ الإمام قوله تعالى: {لَمْ وَالْمُشْرِكِينَ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ}.
بهذه المواجهة الذكية والمباشرة، انتصر الامام الكاظم وهو في سجنه شهيداً، كما انتصر جدّه الامام الحسين شهيداً في كربلاء بقوة الحق، فيما هُزم هارون وهو في أوج قوته وسلطانه، كما ينهزم الحكام المتخذين السلاح والمال والجواسيس والتضليل، وسائلاً لبقائهم ايام معدودة في الحكم، ومن أبلغ ما يجسد هذه الحقيقة رسالة الامام الكاظم من داخل السجن الى هارون: أن “ياهارون! أعلم انه لا ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتى نُفنى جميعاً الى يوم ليس له انقضاء، وهناك يَخسرُ المبطلون”.
رابط المصدر: