سلطة الصورة في وسائل الإعلام: مداخل تأسيسية

 سارة الصاوي

 

مقدمة:

عرفت الصورة مآلا ومصيرا مذهلا في الزمن المعاصر، وبدأت تتبوأ مكانة رفيعة، وتستقل تدريجيا بذاتها، وتنفرد بمعجمها الخاص، وتؤسس لغتها الخاصة بمعزل عن الخطاب. ومن شأن هذا التحول الهائل أن يطرح مشكلات فلسفية عميقة حول وضعها ومكانتها في الثقافة المعاصرة. إن الصورة تمثل لوحدها مشكلة فلسفية نظرا للتغيرات العميقة التي أحدثتها في تشكيل وتكييف ما هو بصري بصفة عامة.

صار من الضروري إعادة النظر في الأدوات الفكرية والمنهجية من أجل تأسيس مقاربة فلسفية جديدة للغة البصرية، ووجب استفتاء النظر في كثير من المقولات الفكرية والجمالية من أجل فك خلفيات وأبعاد الصورة بفضل ما تحقق لها من طفرات تكنولوجية ورقمية. انتقلت الصورة من طور كانت فيه ذهنية إلى طور صارت فيه بصرية، بمعنى أنها بعدما كانت في خدمة غايات روحية أصبحت تحيل إلى ذاتها. إنها استحالت إلى وسيط أساسي في الثقافة المعاصرة، مما يشرع الباب على مصراعيه أمام رهانات متعددة.

تحظى الصورة بمكانة خاصة ومتميزة في حياتنا، فهي أول ما يستقبلنا من مكونات العالم لحظة الميلاد، وهي توأم الكلمة عندما تتفتح حواسنا ومداركنا، وهي مفتاح السر في صندوق الذكريات، وهي أيضا وثيقة هامة في حياتنا لأنها حاضرة في أحاديثنا اليومية وتلعب دورا كبيرا في وسائل الإعلام العلوم والفنون.

ولكن العالم الذي تقدمه لنا الصورة كما تعكسه وسائل الإعلام، ليس واقعيا، بل هو ما ترغب وسائل الإعلام في تصويره لنا، سنحاول تحليل مفردات الصورة ومما تتكون، وشرح كيف يمكن قراءة الدلالات والرسائل التي تحملها الصورة، في زمن يطلق عليه “زمن الصورة”.

لقد شغل خطاب الفضائيات، اهتمام الباحثين في ميادين علم النفس وعلم الاجتماع والتربية والاتصال؛ ونظرا لما له تأثير واضح على اتجاهات الفرد، إذ لوحظ أن بإمكان هذا الخطاب، أن يحدث تغييرا في اتجاهات الفرد، عند بث صورة واحدة، ولكنه في مواقف معينة، لا يتمكن من تغيير هذه الاتجاهات، إن بث عشرات الصور.

انقسمت الآراء حول خطاب الفضائيات إلى رأيين: رأي يرى أن الفضائيات ظاهرة سلبية، وأنها وجدت لاختراق الثقافات. ورأي آخر يرى أن الفضائيات ظاهرة إيجابية، أسهمت في معرفة ما يدور من أحداث وتطورات في المعمورة، فضلا عن إسهامها في تقريب الثقافات.

إن للإعلام اليوم تأثيرا مباشرا وحاسما على التكوين النفسي والذهني للمتلقين، وله دوره الفاعل في بناء الرأي العام وصنع السلوكيات الإنسانية، وتحديد التصرفات والمواقف والاستجابات بالاتجاه الإيجابي المتماسك والبناء والفاعل في تنمية الإنسان قيما وأفعالا ومواقف، أو بالاتجاه السلبي القائم على التشويش والتفكيك الفكري والقلق النفسي والهدر الاقتصادي، وانعدام الشعور بالأمن والتخلخل الروحي، وعدم الاكتراث بقيمة العمل والقيم والإحساس بالعجز عن مجابهة المأزق الذي يعيشه الإنسان.

وإني لأشعر أن بعض هذه الدراسات قد تعتروها ثغرات هنا، ونقص هناك، ولكنها قد تفتح بعض السبل أمام الإعلاميين والدارسين والباحثين والطبلة وكل القراء لتتبع زواياها المختلفة، واستكمالا ما نقص منها، وتعديل ما جانب الصواب فيها.

إشكالية البحث

إن أهمية إشكالية هذا البحث تبرز من خلال بيان دور الصورة في الإعلام، ومعرف التطور التاريخي لوسائل الاتصال، من أجل فهم أهمية وسائل الإعلام والثقافة البصرية وتأثيرها على المجتمع وتكوينه.

إن الصورة ومنذ العصور القديمة احتلت أهمية كبيرة في الإدراك والمعرفة. فالصورة لا تنقل إلى الواقع كله، وإن كانت كل الصورة تروي قصة، لكن المعرفة كفيلة بتتمة المعنى. علاقة الصورة بالمعرفة هي كيف يستغل الانسان الصورة في إيصال رسالته.

في التاريخ نجد أنه قبل حوالي خمسة آلاف سنة، أضاف السومريون الكثير من معاني الصيغ المبسطة لرسوم الكهوف، وطوروا تلك الرسوم إلى رسوم توضيحية لتكون علامات للغة مكتوبة.

ورد في كتاب ديني ظهر في إنجلترا في القرن الثاني عشر، نص إلى جانب رسم للسيد المسيح، جاء فيه: “الصورة للناس البسطاء، والكتابة للذين يعرفون القراءة، فالذين لا يعرفون القراءة يرون الصورة منها الطريق الذي يجب اتباعه. الصور، فوق ذلك كله، هي إرشادات للناس”.

وبالتالي السؤال المركزي لإشكالية هذا البحث: لقد شكلت الصورة على الفكر المعاصر بسبب تعدد أنماطها، ويمكن صياغة بعض تلك الإشكاليات كما يلي: كيف يمكن التمييز بين الصورة الفنية والصورة باعتبارها وسيطا إشهاريا على سبيل المثال لا الحصر؟ كيف نتعرف على الكثافة الدلالية في الأولى ونميزها عن الصورة أحادية المعنى، وأنى لنا أن نتغلب على هذه الصعوبة عندما يتعلق الأمر بالشاشة وبالروابط؟

وهنا يمكننا أن نثير الأسئلة الآتية: لماذا تحدث صورة تغييرا في اتجاهات الفرد، ولم تتمكن العشرات من الصور من إحداث التأثير نفسه؟ ما الذي اشتملت عليه الصورة الواحدة، حتى أصبحت فعالة في تأثيرها؟ وهل أن الصور الأخرى كانت فاقدة التأثير؟ وعندما تكون الصورة فعالة في تأثيرها، ما نوع التأثير المتوقع أن تحدثه؟

مصطلح وسائل الإعلام

أصبحت وسائل الاعلام ترسم الكثير من ملامح ثقافات الشعوب المتحضرة، فالإعلام يصوغ، الى حد ما، المجتمعات إجابا أو سلبا، وتتخلل وسائله المرئية والمطبوعة والسمعية صور بصرية وغايات متنوعة وتأثيرات مقصودة، بغية خدمة أغراض متعددة، وتظهر في نسق من الأوضاع لصنع معان لأشياء مختلفة لأناس مختلفين.

وبالتالي فمصطلح “وسائل الإعلام” (Media) أو (Mass Media) أصبح مألوفا لمعظم الناس، لكن بعضهم يفهم ان المقصود به هو التليفزيون، ويجادل أخرون بأنه الصحافة المطبوعة، وهناك من يطلقه على التقنيات الحديثة المتطورة لوسائل الاتصالات من انتاج واستقبال، غير أن التليفزيون على الرغم من أهميته كوسيلة اتصال، لا يقتصر مفهوم الإعلام عليه فقط، ولا يحدد الإعلام بالصحافة المطبوعة، كما أن تقنيات الاتصال ليست هي وحدها المقصودة بهذا المصطلح.

فمصطلح “وسائل الإعلام” يطلق على جميع وسائل الاتصال الحديثة، كالسينما والتليفزيون والصحف والمجلات وأجهزة الحاسوب والهواتف الثابتة والجوال والعاب الفيديو وأكثر هذه الوسائل أهمية هو الإنترنيت.

تعريف “وسائل الإعلام” ليس سهلا؛ لأنها تختلف في طبيعة قنوات اتصالاتها (ورق مطبوع “الكتب والمجلات والصحف”/ إليكترونية “التليفزيون”/ مواد كيماوية “الفيلم”/ ممغنطة “أقراص وأشرطة”) أو في طريقة تقديمها (مرئية ومقروءة “الكتاب” أو مسموعة “الراديو” أو ملموسة “طريقة برايل” أو مرئية ومسموعة “التليفزيون والفيلم” أو مقروءة ومسموعة ومرئية “الإنترنيت”، وتتغير مع تطور التقنيات والاستخدام وتتنوع حسب غاياتها السياسية والاقتصادية والثقافية وتركيب الشريحة الاجتماعية التي تخاطبها تلك الوسائل.

يمكن تصنيف وسائل الإعلام حسب المؤسسات التي تنتجها وتديرها، ومثال على ذلك، أننا نميز بين القنوات التليفزيونية، الحكومية والمستقلة، المحلية والعالمية. كما نميز بين وسائل الإعلام التي تنتجها شركات (الشبكات التليفزيونية مثل CNN و CBS و BBC شركات الإنتاج السينمائي مثل Associated Artists، Columbia، Warner Bros) وبين التي تستخدم لأغراض شخصية (فيديو العائلة).

يمكننا أيضا التمييز بين مظاهر تكنولوجية مختلفة لذات وسيلة اتصال، فالمشاهد لابد أن يدرك الفرق بين جهاز التليفزيون في صالة الجلوس وبين الشاشة الكبيرة المعلقة في ملعب كرة القدم، كما أن وسيلة الإعلام تستخدم لأغراض مختلفة، فجهاز التليفزيون يلتقط البث التليفزيوني لكنه أيضا يستخدم لعرض أقراص الفيديو أو لمتعة اللعب (Videogames)[1].

يمكن تجسيد الاختلاف بين الدارسين والمنظرين في تعريف الإعلام من خلال الزاوية التي ينظرون بها إلى وسائل الإعلام وفق ما يؤمنون به من نظريات وايدولوجيات ومبادئ. فالليبراليون المؤمنون بالتعددية مثلا يؤكدون أن دور وسائل الإعلام هو تعزيز حرية الرأي ومراقبة أداء الحكومات، بينما الماركسيون نقيض ذلك، فوسائل الإعلام، من وجهة نظرهم تخدم الطبقة الحاكمة (البورجوازية)، ويعتبرون أفكار هذه الطبقة هي الأفكار الطبقة الحاكمة، ذلك أن هذه الطبقة هي التي تحكم قوة المجتمع المادية، وتسيطر في الوقت نفسه على قوة الأفكار لتجعلها مجرد تعبير عن علاقة الهيمنة، وأن دور وسائل الإعلام هي إعادة إنتاج الوضع السائد.

لابد لنا أيضا، وصولا إلى فهم وسائل الإعلام وتعريفها، من التمييز بين وسائل الإعلام والثقافة. إن أحد الأخطاء الشائعة في استخدام مصطلح وسائل الإعلام هو مساومتها بالثقافة الشعبية. يميل الناس الى الخلط بين التليفزيون كوسيلة للاتصال ومحتوى الترفيه الذي يغطي معظم برامجه. فقد مرت تكنولوجيا وسائل الاتصال، منذ بداية القرن العشرين، بتطورات كبيرة أصبحت معها المصدر الرئيسي للثقافة الشعبية، حتى غدت أشكال هذه الثقافة تنسب إلى واحدة أو أكثر من وسائل الإعلام[2].

ترتبط الثقافة بوسائل الاتصال ارتباطا قويا، فالثقافة يمكن تعريفها بأنها المعتقدات والقيم وأطر المراجع الأخرى التي يمكننا بها أن نجعل لخبراتنا معنى. والثقافة تتعلق أيضا بالكيفية التي نوصل بها هذه القيم والأفكار. وتساهم وسائل الإعلام في إنتاج الثقافة الحديثة. ما تنتجه وسائل الإعلام، وما تعيد إنتاجه يتأثر بالقيم الثقافية.

وسائل الإعلام ووسائل الاتصال

هناك خصائص مشتركة بين وسائل الإعلام يمكننا من خلالها فهم معناها:

  • وسائل الإعلام هي أنظمة الاتصالات بين الناس.
  • الإعلام يستخدم عملية تصنيع التكنولوجيا لإنتاج “الرسائل”
  • يهدف الإعلام بصورة عامة إلى الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور، أو انه يستخدم من قبل الناس، ويصبح هنا “إعلاما واسعا” يعد من خلال “إنتاج واسع” وصولا إلى “اتصالات واسعة”.
  • يهدف الإعلام إلى تيسير الاتصالات بين الناس عبر المسافات (مع / أو الزمن) من دون أن يضطر المرسل إلى الحضور، فالاتصالات هي التي تسجل وترسل.
  • الإعلام هو الوسيط الذي يوصل المرسل بمستلم الرسائل.
  • تأثر وسائل الإعلام بالمصالح التجارية واستثمارها كصناعة تحقق أرباحا عالية أدى إلى تطورها السريع[3].

تطور تقنيات وسائل الإعلام

اخترع السومريون في جنوب بلاد ما بين النهرين (العراق) الكتابة قبل خمسة الاف سنة (3100 قبل الميلاد)، عندما استمدوها من الرموز التي كانوا يستخدمونها في حفظ حساباتهم قبل ذلك التاريخ بأربعمائة سنة.

كانت الكتابة مقتصرة على النقوش على الأحجار والأختام الأسطوانية، لكن السومريون طوروا فيما بعد ألواح الطين، وبعد الكتابة عليها كانوا يتركونها تحت أشعة الشمس كي تتيبس وتتصلب، ويمكن اعتبار تلك الألواح أول أشكال الكتاب. وفي مصر ابتكر الفراعنة الكتابة على لفائف البردي فحفظوا بذلك أحداث تاريخهم الطويل وإنجازات حضارتهم. أما الصينيون فقد اخترعوا الورق من اللحاء والقنب (حوالي سنة 104 ميلادية).

انتقلت صناعة الورق من الصين إلى العرب عبر سمرقند في أواسط اسيا، وساهم العرب في تطوير صنع الورق ونقله إلى أوروبا، فوصل إيطاليا عام 1276، ولم يصل إنجلترا إلا عام 1495 ميلادية. كانت مطبعة غوتنبرغ أول وسيلة إعلام مهمة في الثقافة الغربية. كان “يوحنا غوتنبرغ” (1398 – 1468) صائغا محترفا، اكتسب من مهنته معرفة بالمعادن ومهارة في استخدامها، وعندما فكر في تنفيد اختراعه عام 1436، استدان مبلغا من المال، ولم يكن ي أن البشرية ستظل مدينة له بفضل معجزته.

استطاع “غوتنبرغ” صنع قوالب الطباعة من مزيج من الرصاص والقصدير والأنتيمون، فطبع كتبا ذات نوعية أفضل من تلك التي طبعت في شرقي اسيا بقوالب من الخزف والخشب أو البرونز. وقد فجر اختراع “غوتنبرغ” تغيرات سياسية ودينية واجتماعية واسعة، وأدت هذه التغيرات إضافة إلى استكشافات العالم الجديدة، إلى تغيير عظيم في المجتمع الأوروبي، بما يطلق عليه “عصر النهضة”، شمل الفنون والعلوم والاهتمام بالمعرفة[4].

كانت من نتائج تلك النهضة أن تلاحقت التطورات التقنية لوسائل الاتصال، خاصة في القرن العشرين، لتفرض في زمننا هذا (أوائل القرن الحادي والعشرين) هيمنتها على حياتنا وثقافتنا.

نذكر هنا أهم تلك التطورات مع تاريخ تسجيلها:

1556 صدور أول صحيفة شهرية في البندقية.
1631 اختراع أول صحيفة فرنسية.
1873 اختراع الالة الكاتبة.
1876 اخترع “ألكسندر غراهام بيل” التليفون.
1877 اخترع “أديسون” الة “الفونوغراف” الأسطواني.
1877 اخترع “إميل بيرلاينر” أول ميكروفون.
1880 أضيئت شوارع نيويورك بالمصابيح الكهربائية الوهاجة التي اخترعها “أديسون”.
1887 اخترع “بيرلاينر” أسطوانة “الغرامفون” المسطحة.
1889 اخترع الدنماركي “فلادمير بولسون” الأسلاك المغنطيسية لتسجيل الصوت.
1891 دول أوروبية تتبنى اتفاقية حقوق التأليف.
1897 “ماركوني” يخترع التلغراف اللاسلكي.
1910 “ماري بكفورد” تصبح أول نجمة سينمائية لفيلم صامت.
1913 انتاج أول فيلم سينمائي طويل.
1914 أول مكالمة تليفونية عبر القارة الأمريكية بين نيويورك وسان فرانسيسكو.
1924 اختراع آلة “الموفيولا” لعرض الأفلام في المنازل.
1926 بدأت شبكة (NBC) الأمريكية بثها الإذاعي.
1927 “فيلو فارنسورث” يصنع أول تليفزيون كهربائي بحجم طابع البريد.
1928 كان الكوميدي الشاب “ميلتون بيرل” أول شخص في العالم يظهر على شاشة التليفزيون في بث تجريبي، وأطلق عليه في حينها “رجل التليفزيون”.
1932 “فلادمير زوريكن” يخترع الكاميرا التليفزيونية.
1935 عرض أول شريط ممغنط لتسجيل الصوت في ألمانيا.
1947 إنشاء أول إعلان تجاري من الراديو في أمريكا.
1961 أول بث إذاعي على موجة إف إم.
1963 “إفان سوثرلاند” يضع أطروحته عن التصميم على أجهزة الحاسوب.
1973 موتورولا تصنع أول هاتف خلوي.
1974 عرض أول كاميرا فيديو.
1982 أنتجت اليابان الأقراص المضغوطة (CD).
2000 أصبح الكتاب الرقمي الإليكتروني جزءا من صناعة النشر[5].

لم نعد، ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، نعيش في ثقافة قائمة، بل على ثقافة الوساطة: الصحافة والسينما والراديو والتليفزيون وحاليا الإنترنيت، الذي تطور ليصبح أكبر وسائل الاتصالات العامة. ثقافتنا الان مستندة على عالم واسع من الوساطة، وبات العالم “قرية عالمية” بفضل وسائل الاتصالات.

عندما تظهر تقنيات جديدة لوسائل الإعلام، فهي تستعير في حالات كثيرة الأشكال الثقافية لتقنيات أقدم منها، الأفلام السينمائية تشبه كثيرا الأعمال المسرحية، والبرامج التليفزيونية استنسخت شكل برامج الراديو، وهكذا[6].

الصورة في وسائل الإعلام من الثقافة الشفهية إلى الثقافة الإليكترونية

من الضروري أن نعرف التطور التاريخي لوسائل الاتصال، من أجل فهم أهمية وسائل الإعلام والثقافة البصرية وتأثيرها على المجتمع وتكوينه. لذلك لابد من أن نتطرق هنا بإيجاز إلى المراحل الأربع التي مر بها هذا التطور تبعا لدور وسائل الاتصال والثقافة وتأثيرها على المجتمع، على امتداد التاريخ، وقد اعتمد هذا التقسيم عدد من أبرز الباحثين، من بينهم: “والتر أونغ” (1982) و”إريك هافلوك” (1982) و”هارود إنيس” (1950) و”مارشال ماكلوهان” (1964) و”إليزابيث ايسنستين” (1978)[7].

رسوم الكهوف:

كان الإنسان يشعر دائما بالحاجة إلى وصف كل ما يحيط به، وكان الرسم الوسيلة الملائمة تماما لتحقيق هذه الرغبة. كان الإنسان القديم يرسم على جدران الكهوف أو على جلد الماعز ليسجل أهم فعليات حياته اليومية وهي الصيد. ومن الكهوف، كهف “شوفيت” في فرنسا (الصورة رقم 1).[8]

يعتقد بعض الدارسين أن الإنسان القديم أراد فقط تزيين جدران الكهوف التي كان يعيش فيها مثلما نفعل اليوم في منازلنا. يرى البعض الاخر من الدارسين أن إنسان الكهف، وبسبب عدم وجود لغة مكتوبة، عمد إلى الرسم ليروي قصصه ومغامراته في الصيد، ولو أنه لم ينجح في صيد تلك الحيوانات لم يرسمها. علماء اخرون يعتقدون أن الإنسان القديم كان يفعل ذلك اعتقادا منه أن  رسم الحيوانات على الجدران سيجعل أرواح الحيوانات تأتي إليه حاملة الطعام، أو أن رسوم الكهوف تحمل رسالة إلى الاخرين الذين سيأتون للعيش في تلك الكهوف مستقبلا. (1) رسوم كهف “شوفيت”

الثقافة الشفهية:

كان الناس في المجتمعات في مرحلة قبل الزراعة يعيشون في مجموعات قليلة كصيادين وجامعي حطب ونباتات طبيعية. هذه الثقافات كانت تعتمد على الكلمة المنطوقة كوسيلة اتصال، وتنتقل تقاليدهم شفهيا من جيل إلى جيل. وفي عصرنا هذا، ما زالت هنالك مجموعات من الناس الذين يعيشون في مناطق معزولة وبعيدة (في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية)، تعتمد على الثقافة الشفهية في حياتها اليومية، وهذا ينطبق أيضا على مجموعات المشردين في المدن المتقدمة، لكونهم أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، وقد وصفهم البعض بأنهم صيادون في “غابة حضرية”[9].

فقد كان التفاعل في الثقافة الشفهية يتم بصيغة “وجها لوجه”؛ لأن أي مجتمع قبل اختراع الكتابة لا يملك أي أية وسيلة لتبادل الرسائل. ويرى الباحث والفيلسوف ومؤرخ الأديان الأمريكي “والتر أونغ” (1912 – 2003) أن هناك إحساسا مختلفا بالزمن في أي ثقافة شفهية، والسبب في ذلك يعود إلى عدم وجود تسجيلات، كما أن تاريخ تلك الثقافة يكمن في اللحظة الحاضرة، وليس بالمستطاع العودة إلى الماضي البعيد لمعرفة إن كانت هناك رؤية مختلفة  عن الرؤية المعاصرة عن حدث ما. ويرى يونغ أيضا أنه ليس ممكنا استعادة “الحقائق” أو ما رواه الآخرون في الماضي؛ لأن الماضي ليس هو الحاضر، لكنه حاضر في الكلام والتشكيلات الاجتماعية. ويعتبر “أونغ” أن الحقائق والخرافات عن الماضي قد تتداخل في ذاكرة الثقافة الشفهية، وهذا التداخل يشبه كثيرا تاريخ أجدادهم، فعندما يرغب الناس في إعادة اكتشاف تاريخ أسرهم، يمرون شفهيا من جيل إلى جيل، ولأن مثل هذه القصص مليئة بالثغرات، يعملون على ملئها بما تخترعه مخيلتهم ومقاصدهم. يعتقد “والتر أونغ” أن الناس، في ظل هذه الثقافة، يتكل بعضهم على بعض، ويعملون بصورة جماعية من أجل خير مجتمعه، لكن الثقافة الشفهية في الوقت نفسه تتميز بالتعصب والالتزام بالتدرج الهرمي (نظام القبيلة وتفرعاتها)، وغير متسامحة مع الذين يفرقون عنها ويختلفون معها، وقاسية إزاء من يتحرى للانحراف عن تقاليدها الاجتماعية، وهي أيضا مقاومة للتغيير الجذري، ومع ذلك فقد تغيرت تدريجيا بمرور الزمن مع تغير مضامين القصص التي تنتقل من جيل إلى جيل[10].

ثقافة الكتابة:

بعد ظهور الكتابة توسعت سبل الاتصال على مدى أوسع. يعتقد الكاتب الكندي “هارولد إنيس” (1894 – 1952)، مؤلف عدة كتب في نظريات وسائل الإعلام، أن وسائل الاتصال المكتوبة قد دأبت على مساعدة المجتمعات على مر الزمن بخلقها نصوصا دائمة يمكن تداولها والاستشهاد بها؛ مما سمح بسيطرة المعرفة من قبل تسلسل هرمي مركز (مثل الكهنة ورجال الكنيسة)[11]. غيرت الكتابة العلاقة بين المتصل والشخص المتصل به،  فثقافة الكتابة تختلف عن سابقاتها (الثقافة الشفهية) بأن الجمهور المخاطب قد يكون متباعدا في الزمان والمكان، وأن المتصل (المرسل) يضمن أن الرسالة قد سلمت بحذافيرها من دون الاعتماد على ذاكرة الرسول، وهذا يعني أن المرسل يمكنه الوصول إلى الجمهور واسع ومختلف ومتفاوت. في مقابل الوعي بهذا التوسع لم يعد المجتمع بحاجة إلى الاتصال وجها لوجه. لقد استطاعت المجتمعات توسيع حدودها لتضم أماكن كثيرة وأناس متعددي الأجناس، وكذلك هو بداية الاستعمار، كما يرى “إنيس”[12].

إن المحور الرئيس لدراسات “إنيس” هو التاريخ الاجتماعي لوسائل الاتصال، فالاستقرار النسبي للثقافات يعتمد على التوازن ونسبة عدد وسائل إعلامها، مؤكدا أن تطور وسائل الإعلام هو المفتاح الاجتماعي[13].

يؤكد الباحث والفيلسوف الكندي “مارشال ماكلوهان” أن الأبجدية اللفظية هي وحدها التي امتلكت وسيلة خلق “الإنسان المتحضر”، وجعلت الأفراد متساوين أمام مواد القانون المكتوبة. ويرى “ماكلوهان” أن المجتمع يعرفون بأماكنهم وبأدوارهم في الحياة الاجتماعية، لكن في ثقافة الكتابة وبعد كتابة القوانين وتطويرها، أصبح الفرد كيانا قائما بذاته منفصلا عن المجتمع، وبفضل الكتابة أصبح بمقدورنا القول: “قال فلان…” و”أخبرتني فلانة…”.

فانفصال الفرد عن المجتمع وفق نظرية “ماكلوهان”، أورث مفهوما مختلفا عن الزمان والمكان، ففي الثقافة الشفهية ليس للزمان والمكان معنى كبير بمعزل عن مكان خاص يعيش فيه المجتمع بالحاضر، والكتابة تسمح بفهم الزمان والمكان كاستمرارية تشمل مجموعات أخرى من الناس، وأمكنة أخرى، وأزمنة أخرى[14].

ثقافة الطباعة:

هي تعبير جامع تطور ليشمل طرقا عديدة تؤدي إلى نتاجات صناعية مطبوعة، تسهم في تشكيل ثقافتنا باعتبارها وسيلة اتصال واسعة النطاق. يولي الباحثون في هذا المجال اهتمامهم بدراسة التأثيرات المتبادلة بين المطبوع، كوسيلة اتصال، وبين ثقافة المجتمع التي هيمنت على العالم طيلة خمسة قرون، ولن تلغيها التطورات التقنية التي نعيشها الآن، كالإنترنيت والكتاب الإليكتروني.

تقنية الطباعة، بالنسبة إلى “ماكلوهان”، هي المثال الأول لتطبيق المعرفة التي تقود إلى تطور تقنيات أخرى. عندما تحولت حرفة الطباعة إلى تقنية الطباعة، تطورت مفاهيم إدراك الكتابة إلى تغيير أكثر في الإدراك بإعطاء الأولوية للشكل الثابت.

الشكل الثابت المستمد من عملية إعادة الإنتاج بصورة أكثر دقة، قاد إلى تغيير أساسي في الوصول إلى المعرفة. فقد كانت المؤلفات السابقة فسيفساء جمعت وجهات نظر متباينة وأساليب مختلفة، وأسهم التعلم في الاستنساخ اليدوي، والمناقشة الواسعة للمخطوطات، في تغيير تفاصيلها. أما في الطباعة الميكانيكية، فقد أصبح الإنتاج على نحو أوسع وبنصوص معرفية تعكس فكرة المؤلف الفرد وملكيته لأفكاره، كما أن زيادة الإنتاج والتوزيع شجعتا على التنوع والمنافسة، وعلى ترسيخ فكرة وجهة النظر الفريدة، وبسبب الشكل الثابت، أصبحت الطباعة “التقنية الفردية”[15].

يرى “ماكلوهان” أن التغيرات الإدراكية والفكرية تؤثر على التقنيات الجديدة: الطريقة التي يصور بها العالم تؤثر على الطريقة التي يفهم بها، وهذه بدورها تهيمن على تصاميم تقنيات المستقبل، أي بعبارة أخرى: الناس تصنع التكنولوجيا التي تغير من يصنعونها[16].

يعتقد الباحث والمفكر “أونغ” أن البنية الأساسية لنظام الطباعة تتعلق بتركيب النصوص وبطرق صياغة الموضوع وتتعلق أيضا بالعلاقات البنيوية بينها. ويرى “أونغ” أن شكل الطباعة ومن خلال الثقافة قد أثر فينا بشكل أعمق من مجرد كونه مظهرا خارجيا لوسيلة اتصال. إن أهمية إنجاز طباعة الحروف غرس الكلمة نفسها في عملية التصنيع وجعلها نوعا من السلع الأساسية[17].

الصورة بين الثقافة والتاريخ

إن قوة تأثير وسائل الاعلام على العقل البشري بخلقها لعوالم افتراضية لا يمكن تصورها. فمثلا يمكننا، إن كنا في غرفة الجلوس، أو في مكان العمل، أو في مكان عام، أن نرى العالم أمامنا وقد حمله جني يتحرك بضغط زر فيخرج من “قمقم” التليفزيون أو ينفلت من شباك الإنترنيت. لكن هذا العالم الذي نراه ليس واقعيا، بل ما ترغب وسائل الإعلام في تصويره لنا. يبقى ثمة واقع خارج وسائل الإعلام، وحقائق أخفتها متعمدة تلك الوسائل، وبحثا عن ذلك الواقع وتلك الحقائق، لابد من التعرف على ماهية وسائل الإعلام وإنتاج المعلومة وتأثيرها على الفرد والمجتمع والرأي العام، فذلك يساعد على زيادة الخبرة في النظر إلى ما وراء الخبر والمعلومة، ومحاولة البحث عن المقاصد الخفية من خلال تدقيق المعلومة وقراءة الصورة، واكتساب مهارة في التحليل، ومن ثم الاقتراب من الواقع ومن الحقيقة. إن وسائل الإعلام تعمل دائما وفق جدول أعمال، خطة تبذل ما في وسعها لتنفيذها، وقد تقتضي الخطط قلب الحقائق، أو تشويهها، فلو كانت وسائل الإعلام تنقل كل الحقائق بدقة ونزاهة وموضوعية، لما كانت هنالك أصلا وسائل الإعلام. إنها تفيد المتلقي (المستهلك) ويستعملها في كثير من أموره في الحياة اليومية، لكنها أيضا قد تستغله، من هنا برزت الحاجة إلى التثقيف بدور وسائل الإعلام، وتاريخها وتطور تقنياتها، وتأثيرها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، فظهر حقل جديد هو “دراسات وسائل الإعلام”، ثم بدأ في السبعينيات من القرن الماضي الاهتمام بحقل دراسات “الثقافة البصرية” التي تهدف إلى تثقيف المتلقي بأهمية النظر في عملية الإدراك، وعلاقة الصور بالتاريخ الإنساني، والعلاقة بين الناظر والمنظور، وكيف يحلل المرء ما يراه من صور وأعمال فنية، وكيف يقيمها ليتمكن من تحليل وتقييم وسائل الإعلام، وكيف يستغل الصورة في إيصال رسالته. يضاف إلى ذلك غاية أخرى لهذه المعرفة، وهي أن الصورة لا تنقل إلى الواقع كله، وإن كانت كل الصورة تروي قصة، لكن المعرفة كفيلة بتتمة المعنى.

أحتلت الصورة ومنذ العصور القديمة أهمية كبيرة في الإدراك  والمعرفة. قبل حوالي خمسة آلاف سنة، أضاف السومريون الكثير من معاني الصيغ المبسطة لرسوم الكهوف، وطوروا تلك الرسوم إلى رسوم توضيحية لتكون علامات للغة مكتوبة. كانت الرسوم التوضيحية رموزا لأفكار مجردة. يطلق على تلك الصور الكتابة المسمارية لأنها كانت تكتب بطرف إسفين، مثلما كتبت اللاتينية فيما بعد.

وقد ورد في كتاب ديني ظهر في إنجلترا في القرن الثاني عشر، نص إلى جانب رسم للسيد المسيح، جاء فيه: “الصورة للناس البسطاء، والكتابة للذين يعرفون القراءة، فالذين لا يعرفون القراءة يرون الصورة منها الطريق الذي يجب اتباعه. الصور، فوق ذلك كله، هي إشادات للناس”[18].

إن الإنسان يتميز عن سائر المخلوقات بالوعي، والمنطق، واللغة، والخيال، وجعلته هذه الميزات يفهم الواقع ويطور ظروف حياته، ويسخر الطبيعة من أجل مستقبله. وتطورات، عبر الزمن، وسائل اتصاله ببقية أفراد سلالته.

يستنتج الباحث “جاك أومون” أن الصورة تشكل دائما بتكوينات عميقة مرتبطة باللغة، وأيضا بالتنظيم الرمزي لثقافة ما أو مجتمع ما، وهي في الحقيقة، كوسيلة اتصال وتمثيل للعالم، من الممكن وجودها في كل المجتمعات الإنسانية. الصورة عالمية، لكنها محددة[19].

فالصورة ترتبط بالتاريخ الإنساني، وقد حدد الباحث “جان بودلير” ثلاث مراحل لهذا التاريخ، ووصف كل مرحلة بطبيعة العلاقة المفترضة بين الصورة والواقع. في المرحلة الأولى، ترى الصورة مزيفة في تقريبها لعالم بقيت حقيقته دائما خارج الصورة. كذلك افتراضها حقيقة طبيعية كقانون الرب، مثلا، والصورة هنا نسخة محدودة ضيقة. الصورة (2) تمثال روماني يرمز إلى الإله ميثرا (مهرا في الديانة الزرادشتية)، وقد عرف الرومان في زمن الإمبراطور نيرو هذه الديانة التي كانت تنتشر في إيران والهند حوالي سنة 1400 قبل الميلاد، فاقتبسوها.

(2) التماثيل تصوير لعلاقة مفترضة: أراد صانع التمثال أن يوضح من خلال “حركة ميثرا” مدى قوته وشجاعته. لذلك اتخذ الرومان ميثرا إلها للجنود والعمال[20].

وفي المرحلة الثانية، استخدمت الصورة كمصدر للواقع. اللغة تنتج الواقع. أما في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة ما بعد الحداثة، فليس لمفردة اللغة، ولا مفردة الواقع أية ميزة، فقد اختفى الفرق بينهما. هذا ما يسمى بالتقليد “Simulacrum”[21].

ويرى الباحث “دونالد لوي” في كتابه “تاريخ الإدراك البرجوازي” أن هنالك تاريخا للإدراك، وللطبقات الاجتماعية طرقها الخاصة في إدراك العالم، ويزعم أن كل مرحلة تاريخية تختلف في تدرج فهمها.

وقد قسم لوي التاريخ الأوروبي إلى خمس مراحل، في المرحلة الأولى: العصور الوسطى – كان السمع واللمس أكثر أهمية من النظر، والمرحلة الثانية: عصر النهضة – احتل النظر المكانة الأولى في تسلسل نظام الإدراك، أما المرحلة الثالثة: فتعود إلى ملكية المجتمع وأهمية تمثيل الآخرين في المكان. تمثل المرحلة الرابعة المجتمع البورجوازي، وتتميز هذه المرحلة ب “توسيع مدى النظر” (مثلا عن طريق الاختراعات، كالتصوير الفوتوغرافي). المرحلة الخامسة والأخيرة القرن العشرين – فيعرفها لوي بأنها مرحلة “الشركات الرأسمالية”، مجتمع الاستهلاك البيروقراطي، وتشكيل الثقافة الإليكترونية، واستقراء الصورة والصوت[22].

غير أن  “دونالد لوي” لم يكن دقيقا في تغليب السمع أو اللمس على البصر في أي مرحلة تاريخية معينة. النظر يأتي قبل الكلمات، فالطفل يميز قبل أن يتكلم. لذلك فالنظر هو الذي يؤسس مكاننا في العالم المحيط بنا، بالكلمات نفسر ذلك العالم، لكن الكلمات لن تلغي أبدا حقيقة أن العالم يحيط بنا. إن معظم المعلومات عن العالم المحيط بنا تنقل بواسطة البصر إلى الدماغ (70% أكثر من بقية الحواس)، وعلى الرغم من الدور الأساسي للغة في العلاقات ألاجتماعية، فالبصر أكثر حيوية، لان المرء حين يرى غرباء، يستطيع أن يكون صورة عنهم من مظهرهم قبل أن يتحدث معهم، فربما كانت الصور في الماضي قليلة مقارنة بالكلمات، لكننا اليوم في محيط مشبع بوسائل الإعلام المتخمة بالصور[23].

وبالتالي فالصورة أيضا لا تكون بديلا عن الأشياء الحقيقية. يقول ليوناردو دافنشي: ” من غير الممكن لأي رسم، حتى لو أنجز بكامل الدقة في الخطوط الرئيسية، والظل والضوء أن يظهر بالشكل نفسه للنموذج الطبيعي، ما لم يكن النموذج الطبيعي بعيدا وينظر إليه بعين واحدة “.

يلاحظ الكاتب “فيكتور بريكت” (1900 – 1997) أن الكتاب والمصورين يعتمدون على رؤيتهم للناس والأشياء بدقة وأعمق مما يبدون، واصفا ذلك باحتراف وعملية تجريد تبحث عن شيء جوهري في شخصية ما لتكون دلالة على هوية تلك الشخصية . قد يلتقط مصورو الفوتوغراف صورهم لأسباب ذاتية، مثلما يفعل بعض الصحفيين في تناولهم لمواضيعهم، أو كما يفعل كتاب القصة القصيرة، فالأعمال تبين قصد المنتج / المبدع[24].

الصورة والكلمات:

كان المصور التوثيقي والباحث الاجتماعي الأمريكي “لويس هاين” (1874 – 1940)، الدي استخدم عدسة التصوير كأداة للإصلاح، يرفق دائما صوره بالكلمات، وقد قال مرة: “لو استطعت أن أعبر بالكلمات عما أريد لما حملت الكاميرا معي”[25].

تمتلك كل من الصورة والكلمات لغتها الخاصة التي يستطيع البعض فهمها أكثر من الأخرى، فقد كتب مؤرخ التصوير الفوتوغرافي “هيلموت غيرنشم” (1913 – 1995): “الصورة الفوتوغرافية هي اللغة الوحيدة المفهومة في كل أرجاء العالم، والقادرة على مد الجسور بين الأمم والثقافات. إنها تربط عائلة الإنسان. مستقلة عن الهيمنة السياسية، فالناس خلالها أحرار. إنها تعكس بصدق الحياة والأحداث، وتسمح لنا أن نشارك في آمال الآخرين ويأسهم، وهي تنير الظروف السياسية والاجتماعية. نصبح معها شهود عيان لإنسانية البشر ووحشيتهم”[26].

إن منهج السيميولوجيا (علم العلامات) يؤكد الفكرة القاتلة إن الصور هي مجموعة من العلامات يربطها المشاهد، بطريقة ما. ويرى أنصار هذه المدرسة أن أية أبدية مكتوبة هي مجموعة من الرموز التي تستجيب للأصوات أثناء الكلام، والوحدة الأساسية في الكلام تسمى “الفونيمة – وحدة الكلام الصغرى”. هنالك 55 وحدة صغيرة في كل لغات العالم. اللغة الإنجليزية، مثلا، فيها 44 وحدة صوت بسطت إلى 26 حرفا “الأف باء”. يضم قاموس “ويبستر” 50 رمزا من الأبجدية التي تستخدم لوصف الأصوات التي تحتاج إلى تلفظ أكثر من 50.000 كلمة في القاموس، لكن 26 حرفا تكفي لذلك[27].

يؤكد أصحاب النظريات اللغوية أنه ومنذ أن عرضت الصور ليست فيها قواعد نحو، ومن دون نحو لا يمكن اعتبارها لغة، ومن دون لغة لا يمكن قراءة الصور.

يعود تركيب الجملة وقواعدها إلى نظام من الأحكام ومن الضوابط التي تحول الكلمات إلى جمل. الكلمات الأساسية لإدراك الإنسان بسبب بنائها السردي. تقول الباحثة “سوزان سونتاغ: ” الذي يسرد هو وحده فقط من يجعلنا نفهم”. إن تعلم القواعد اللغوية يجعل الفرد، من خلال ثقافة ما، قادرا على قراءة وكتابة القصص حول موضوعات متنوعة لا حصر لها تدور حول الأساطير التي تشكل الثقافة. وترى “سونتاغ” أن هنالك عقبتين تحولان دون اعتبار الصور لغة: الصورة ليس لها معنى لفظي، وليس فيها معجم أو تركيب يعطي معنى نحويا، وإن كان للصور شكل وعرف وقواعد[28].

يقول “بول مارتن ليستر”، أستاذ مادة وسائل الاتصال بجامعة كليفورنيا: “قبل أن يتعلم الأطفال القراءة والكتابة، لا يعرفون الفرق بين خط مرسوم وحرف. يكتب صبي الحرف (أ) فالحرف ببساطة رسم آخر. إنه صورة، وإن كانت تختلف عن رسم وجه أو منزل، لكنها تبقى صورة أخرى بقلم ملون على ورق أبيض”[29].

المربي وعالم النفس “جيروم برنر” أكد في دراسات له أن الأشخاص يتذكرون فقط 10% مما يسمعون، و30% مما يقرءون، لكنهم يتذكرون 80% مما يرون ويفعلون. وعندما يستخدم أفراد المجتمع، سواء في البيت أو المدرسة أو مكان العمل، الكمبيوتر حيث تقترن الكلمة بالصورة ، تتحول المشاهد إلى استخدام نشط، حيث تصبح الكلمات والصور وسيلة اتصال قوية وقابلة للتذكر[30].

الصورة والثقافة:

للثقافة عدة معاني، لكن أهمها هو اعتبارها مجموعة من أنماط السلوك البشري. وورد اصطلاح “الثقافة” بهذا المفهوم لأول مرة في كتابات رائد الأنثروبولوجيا، “إدوارد بورنيت” (1832 – 1917) الذي يعتبر رائد ‘التطور الثقافي”. ويعرف تايلر الثقافة في كتابه “الثقافة البدائية” الذي صدر عام 1871، بأنها “هي ذلك المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات التي يكسبها الإنسان كعضو في المجتمع”، أو هي كما يقول (برمجة جماعية للذهن يميز من خلالها أفراد طائفة من الناس عن غيرهم )[31].

ومن تم فإن لغتنا، وأنظمة الحكم والمباني وكل ما هو من صنع الإنسان، مجرد نتائج الثقافة، لكن ما يعثرون عليه من كسر الفخار والأعمال الفنية القديمة يعكس لهم الأنماط الثقافية لمجتمع ما، فتلك الأشياء التي يعثرون عليها قد صنعت واستخدمت من خلال المعرفة والمهارات الثقافية.

وباعتبار أن  أبرز وسائل الاعلام هي الصورة، فهي تساهم بدور هام وفعال في إنتاج الثقافة الحديثة. فالإنتاج الإعلامي يشبه سلسلة مترابطة من الدوائر، وكل ما تنتجه هذه الدوائر يتأثر بالقيم الثقافية، وتشكيل النص وتمثيله يتأثر بالطريقة ذاتها، فقراءة النصوص خاضعة لوجهات نظر ثقافية. وما ينطبق على النص ينطبق أيضا على الصورة.

مصطلح الثقافة البصرية:

الثقافة البصرية هي الترجمة الحرفية لعبارة “Visual culture “. ويطلق على هذه الثقافة أيضا “الدراسات البصرية”، وهي حقل من حقول الدراسة يضم بصورة عامة خليطا من الدراسات الثقافية تاريخ الفن، النظرية النقدية، الفلسفة وعلم الإنسان. بالتركيز على سمات الثقافة المعتمدة على الصورة البصرية. تشمل هذه الدراسات نظريات الباحثين في مجال الثقافة المعاصرة، وهذه تتشابك غالبا مع الدراسات السينمائية، نظرية التحليل النفسي، دراسات الجنس، الدراسات التليفزيونية، ويمكن أن تشمل أيضا دراسات ألعاب الفيديو، الرسوم المتحركة، وسائل الإعلام الفنية التقليدية، الإعلان، الإنترنيت، وأية وسيلة تعتمد على الصورة.

وقد ظهر مصطلح “الثقافة البصرية” لأول مرة عام 1969، على غلاف كتاب ليست لموضوعاته علاقة بالفن، “نحو ثقافة بصرية: التعليم من خلال التليفزيون” (Towards a Visual Culture : Educating through Television 1969)  تأليف “كالب غاتينو (ولد في الإسكندرية بمصر عام 1911، وتوفي في باريس عام 1988، المعروف بطرقه التربوية في التعلم والتعليم. وظهرت بعد ذلك كتب كثيرة تحمل في عناوينها مصطلح “الثقافة البصرية”[32].

استخدم هذا المصطلح في التليفزيون لأول مرة عام 1972، في مسلسل تليفزيوني عنوانه “طرق النظر” (Ways of Seeing) قدمته محطة “BBC ” للكاتب “جون بيرغر”، تم تحول إلى كتاب بالإسم نفسه، انتقد بيرغر فيه الجمالية الغربية التقليدية بإثارته العديد من الأسئلة من العقائد المخفية في الصور البصرية.

وبالتالي فان الثقافة البصرية تعني كل ما نراه، أو قد رأيناه أو قد نتصوره: اللوحات الفنية والتماثيل والتليفزيون والصور الفتوغرافية والأثاث والأدوات المنزلية والحدائق والرقص والبنايات والتحف الفنية والمناظر الطبيعية والدمى والإعلانات والمجوهرات والثياب والأضواء والرسوم البيانية والخرائط، وكل جوانب الثقافة التي ترسل وتستقبل عن طريق وسيلة البصر[33].

وتشمل الثقافة البصرية عددا من وسائل الإعلام تمتد من الفنون الجميلة والأفلام السينمائية والتليفزيون إلى الإعلان وإلى الرسوم البيانية في حقول كثيرة، كالعلوم والقانون والطب. ما يعنينا في هذا الكتاب هو عملية انتاج الصورة واستقبالها عن قصد وتوظيفها في وسائل الإعلام. إن فهم “الثقافة البصرية” أو “ثقافة الصورة” لن يكون واضحا من دون الاستفادة من منهجيات الفنون، والعلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، والأخذ في الاعتبار العوامل المؤسساتية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعقائدية.

وقد تبدو الثقافة البصرية، أحيانا، أمرا لم يفهم بعد. هناك طريقتان أساسيتان للنظر إلى الثقافة البصرية. الأولى هي أن ننظر إلى ما يجري حاليا في فترة محددة من الزمن، ودراسة كل جانب من الجوانب ما يحدث في تلك اللحظة بالذات في مجرى التاريخ. على سبيل المثال، أن ننظر إلى عصر النهضة، ونرى ما يحدث سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وغير ذلك، وهذه هي الفكرة في رؤية الأمور بشكل شامل.

أما الطريقة الأخرى لرؤية الثقافة البصرية فهي النظر إلى ذلك باعتباره تقدما على مر التاريخ. والفكرة هي أنه بمجرد أن يتم تخزين صورة في عقلك تصبح ممكنة التعريف والتحديد ولا تبدو غريبة على فهمنا البصري. الصور القابلة للتمييز بسهولة هي العناصر المألوفة لثقافتنا البصرية. ينظر إلى الثقافة البصرية في كثير من الأحيان على أنها منهجية جديدة لطرح أسئلة مهمة عن الدوافع ولرؤى فيها وراء العمل الفني. التوافق العام في الآراء بين دارسي الثقافة البصرية هو أن فهم العالم من خلال الصور أصبح ذا أهمية متزايدة، إلا أن العلوم الإنسانية في إطار التعليم متخلفة في فكرة التصور على أن هذا التصور فكرة باعتبارها وسيلة للمعرفة بدلا من الخطاب اللغوي التقليدي.

ويؤكد مؤرخ الفن “مايكل باكساندال” (1933 – 2008) في كتابه “الرسم والخبرة في إيطاليا خلال القرن الخامس عشر “أهمية ثقافة الصورة في حقل تاريخ الفن، حين يقدم فكرة “زمن العين” ويربط إنتاج الفن بالتاريخ الاجتماعي، وطبقا لكتاباته، يجلب المتلقي (المشاهد) كما من المعلومات والافتراضات التي يستمدها من خبرة عامة. ويرى “باكساندال” أن مهارات المشاهد تختلف من جيل إلى جيل بشكل اطرادي[34].

والاهم من ذلك أن أجهزة الكمبيوتر جعلت أمر إنتاج وتوزيع الصور متوفرا وممكنا لأي شخص وبسرعة عالية. إن الكمبيوتر، وأكثر من أي ابتكار تقني آخر، وهو الذي تسبب في عملية الاتصالات. يرى المختصون في الدراسات البصرية (في دراسة أجريت عام 2000)، أن أكثر من ربع سكان الولايات المتحدة يستخدمون الكمبيوتر، و80% من الاطفال في عمر المدرسة تعلموا كيفية استخدامه، ويتوقعون أن 98% من الكلمات والصور التي تستخدم في عالمنا خلال الأعوام القليلة المقبلة ستكون عن طريق وساطة الكمبيوتر، الذي سيكون أقل كلفة وسهل المنال.

أسئلة في قراءة الصورة:

عند النظر في صورة في صحيفة أو لوحة إعلان أو على شاشة التليفزيون أو الكمبيوتر، لابد أن يطرح المرء على نفسه أسئلة للوصول إلى فهم ما يراه ويدرك أهداف منتج الصورة والتأثيرات التي يبتغيها. من هذه الأسئلة التي تنمي ثقافة الفرد البصرية:

  • لماذا ننظر إلى هذه الصورة؟
  • ما الذي نبحث عنه؟
  • كيف ننظر إليها؟
  • ما هي الخيارات التي صنعها الفنان أو منتج الصورة؟ وكيف أثرت تلك الخيارات على معناها؟
  • ما هي المكونات المختلفة في الصورة؟
  • كيف ترتبط هذه المكونات مع بعضها؟
  • ما هي الفكرة أو الحجة التي تعبر عنها الصورة؟
  • بأي سياق وتحت أية ظروف أبدع أو صنع أو عرض هذا العمل؟
  • من صنع هذه الصورة؟
  • ما الذي يهدف إليه منتج الصورة؟ (يقدم شرحا… وصفا؟ هل يقصد إقناعنا؟ أو كل ذلك معا)؟
  • هل يمكن أن نجد توترا أو نماذج من الصراع من خلال الصورة؟ إذا كان كذلك، فما هي هذه النماذج؟ ما هي مصادرها؟ كيف تم تمثيلها؟
  • هل تعجبك الصورة؟ (أيا كان جوابك، لماذا؟)
  • كيف تصف تقنية الفنان أو المصور؟
  • ماهي الأعراف التي تحكم الصورة؟ هل تساهم أم تقلل من قدرة الصورة على إيصال رسالتها؟
  • ما الذي تتكون منه الصورة؟
  • ما هي الفكرة الرئيسة وراء الصورة؟
  • ما الذي تعرضه هذه الصورة؟ (إذا كانت عن حرب أو صراع، فهل يؤيد منتج الصورة جهة ما)؟
  • هل تقدم تفسيرا .. تسجيلا واقعيا .. انطباعا؟
  • ما هو السياق الذي تكون هذه الصورة جزءا منه؟
  • أي مكان من الصورة جذب انتباهك قبل غيره؟
  • ما هي التفاصيل الصغيرة التي أوضحت الكثير؟
  • كيف يمكنها أن تغير في المعنى إذا كانت المواد المستخدمة فيها مختلفة وكذلك المنظور؟
  • ما هي دوافع منتج الصورة أو مبدعها؟
  • كيف يمكنك أن تصف مكونات الصورة والألوان والخطوط و الفراغ والأشياء والشخصيات؟
  • كيف توقع منتج الصورة أن نقرأها (كتفسير … توقع … وثيقة)؟
  • ما هو أسلوب مبدع الصورة أو المدرسة التي ينتمي إليها؟
  • ما هي الزاوية المناسبة للنظر إليها؟
  • هل تتضمن الصورة رموزا؟ أين هي وكيف وظفها منتج الصورة؟

قراءة الصورة وزاوية النظر:

إن تفسير أية صورة يعتمد على الزاوية التي نراها منها. إن أية صورة هي نتيجة تفسير الإنسان لما يراه. إذا كان نظرنا يتجه مباشرة إلى الجزء الأيسر من الصورة (رقم 3)، سنرى “بطة”. سنؤكد أننا نراه كذلك، لكن منا أيضا من يركز نظره على الجانب الأيمن من الصورة فيرى صورة “أرنب” ويؤكد ذلك، والجميع ليسوا على خطأ.

هذا المثال المبسط يرينا أن تفسير الصورة يعتمد أيضا على الزاوية التي ننظر منها.

(3) تفسير الصورة يعتمد على زاوية النظر

العوامل التي تصنع قيمة الصورة :

إن عملية الكشف عن المعاني الاجتماعية والثقافية والتاريخية في الصور غالبا ما تحدث من دون وعينا بها؛ لكونها جزءا من متعة النظر في الصور. بعض المعلومات التي نستخدمها في قراءة الصور لها علاقة بتصورنا لقيمتها في ثقافة ما بشكل عام. هنا يتبادر سؤال: ما الذي يعطي صورة ما لقيمة اجتماعية؟

الصور لا تملك قيمة بذاتها، بل نضفي عليها قيمة نقدية واجتماعية و سياسية لكن أكثرها هي القيمة الاجتماعية. في سوق الأعمال الفنية، تقرر قيمة العمل الفني عوامل اقتصادية وثقافية، ومن ضمنها مجموعات المؤسسات الفنية كالمتاحف والمجموعات الشخصية. مثال ذلك لوحة “السوسن” للفنان غوغ (الصورة رقم 4). (4) لوحة للفنان “فان غوغ”

 

كان الرسام الهولندي “فان غوغ” (1853 – 1890) من رواد ألانطباعية، وأثرت أعماله على فن الرسم في القرن العشرين. أنتج حوالي ألفي عمل فني، منها 90 لوحة، والبقية تخطيطات ورسوم مائية. ولوحته “السوسن” حققت شهرة أكثر عندما بيعت عام 1991 بمبلغ خيالي في ذلك الحين (8,53 مليون دولار) لمتحف غيتي في لوس أنجلوس. وفي عام 2006 بيعت لوحت للرسام الأمريكي الانطباعي التجريدي “جاكسون بولاك” بملغ 140 مليون دولار. وفي كل حالة، لا يكشف العمل الفني قيمة نقدية، لكن المعلومات التي تستخدمها في تفسيره من خلال العوامل الاقتصادية والثقافية هي المتغيرات في سوق الفن والتذوق المعاصر، مع اعتبار أسلوب الفترة الماضية. لماذا بلغت لوحة “بولاك” هذه القيمة النقدية عام 2006؟ ولماذا ضربت لوحة “غوغ” السعر القياسي عام 1991؟

تلعب الأصالة والتفرد، إضافة إلى الأسلوب الجمالي، دورا في تحديد قيمة العمل الفني. كما تؤثر الأسطورة الاجتماعية التي تدور حول العمل الفني أو حول مبدعه، في تحديد قيمته. لوحة “فان غوغ” تعتبر أصيلة فقد ثبت أنها رسمت بيد غوغ، وليست نسخة عنها، وكذلك كونها من أفضل النماذج لفن الانطباعية الحديثة التي تبناها غوغ في أواخر القرن التاسع عشر. وقد ساهمت الأسطورة عن حياة “فان غوغ” وعمله في تقييم أعماله. معظم الناس يعرفون أن الرسام لم يكن سعيدا، ولم تكن حالته العقلية مستقرة، وأنه قطع أذنه، وأنه انتحر. وعن دراسات مؤرخي الفن، فإننا نعرف عن حياته أكثر مما نعرف عن أعماله وجمالية أسلوبه. ولعل بعضنا على علم بأن بولاك قد مات وهو في الرابعة والأربعين من عمره، في حادث اصطدام مأساوي بعد أن قاد سيارته ثملا، وأنه رسم أغلب أعماله وهو يمشي حول لوحات كبيرة مقطرا الأصباغ من علبة ثم يحرك فرشاته عليها، ليشكل خطوطا ودوائر.

وتكسب أعمال “فان غوغ” قيمتها الاقتصادية من أحكام المجتمع عليها والمعلومات التي يملكها عن حياة الفنان وعمله، كذلك أصالة العمل الذي يحمل توقيع الرسام[35].

الصورة بين العلامات والرموز:

تتوحد الأفكار الشفهية والبصرية لتخلق سياقا يربط العلامات مع شكل الرموز لكي يمكن تذكرها واستعادتها. وسياق الكلام هو الغراء الذي يلصق الرموز اللفظية والبصرية معا، فعندما تتذكر أحدهم، يمكنك استعادة وجهه كصورة في الذهن، لكن الوجه الذي نستعيده ليس هو وجه ذلك الشخص بكل ملامحه وتفاصيله. إن الصورة الذهنية هي تركيب من عناصر الإدراك الحسي – اللون والشكل والعمق والحركة – التي يمكن بها وصف المظهر، ويجمعها مع الأفكار اللفظية التي تحدد الحالة التي يبدو الشخص فيها.

فالصور قابلة للتذكر، سواء كانت مباشرة أو ترى من خلال وسيط، عادة ما تكون بسيطة التكوين وذات تأثير آني. إنها الصور التي تتجه إلى الجانب العاطفي والعقلاني من الذهن، ونستعيدها مرارا بعد زوالها من شبكية العين. هذه الصور تستعاد بالتفكير بها من خلال الكلمات.

أما الرسائل البصرية فهي جزء من اللغة؛ لأنها مجموعة من الرموز، ولأنها كذلك تصبح لغة تقرأ في الذهن. عندما تكون الكلمات والصور متساوية في وسائل الإعلام، فالإشارات الثقافية التي تعرف مجتمعا ما، لن تكون فقط أكثر كفاءة لتنتقل من جيل إلى جيل، وإنما أيضا في هذا الجيل، هنا وهناك، وستكون الشعوب من مختلف الثقافات قادرة على فهم بعضها البعض بشكل أفضل.

(الصورة رقم 5)   “هذا ليس غليونا”.

عندما ننظر إلى هذه الصورة (الصورة رقم 5) نحسب أنها ترينا صورة غليون من إعلان لمحل لبيع التبغ. العبارة المكتوبة على الرسم تقول: “هذا ليس غليونا”. هذا القول ليس كذبا أو زيفا، بل هو حقيقة، كيف ذلك؟

هذا الرسم من أعمال الفنان السريالي البلجيكي “رينيه مارغريت” (1898 – 1967)، الذي اشتهر برسمه الأشياء في سياق غير مألوف ليعطي معنى جديدا لأشياء مألوفة، وأنجز سلسلة من هذه الأعمال أطلق عليها “خيانة الصور”. يقول مارغريت عن رسمه هذا: “طبعا هذا ليس بغليون. هل يمكنك أن تملأه بالتبغ؟ كلا، إنه مجرد تمثيل. لو أني كتبت على رسمي (هذا غليون) أكون قد كذبت”.

الصورة والسيميولوجيا:

ذكرنا أن منهج السيميولوجيا (علم العلامات) يؤكد ان الصور هي مجموعة من العلامات يربطها المشاهد، بطريقة ما. فما هي السيميولوجيا؟

هنالك تعريف أساسي للسيميائية: “دراسة العلامات”، لكنها لا تقتصر على العلامات فقط، كما سنرى لاحقا، وإنما تتعلق بأي شيء يمثل شيئا آخر، هذا نستنتجه من تعريفات كبار الباحثين في هذا المجال. الروائي واللغوي والباحث “أمبرتو ايكو” يرى أن السيميائية (السيميولوجيا) هي المجال الذي يهتم بكل شيء يمكن اعتباره علامة.

أما الفيلسوف والسيميائي “تشارلس موريس” (1903 – 1979) فيضع تعريفا مختزلا لتعريف سوسير، فيرى أن السيميولوجيا هي “علم العلامات”.

وبالتالي فالعلامات، في مفهوم السيميولوجيا، تأخذ شكل كلمات و صور وأشياء وأصوات و إشارات وإيماءات. أنصار هذه المدرسة المعاصرون لا يدرسون العلامات منفصلة بل كجزء من “نظام العلامات” (كوسيط لنقل الرسالة أو نوع “الجنس”). إنهم يدرسون كيف تصنع المعاني وكيف يمثل الواقع. ظهرت نظريات العلامات (أو الرموز) في تاريخ الفلسفة منذ الأزمنة البعيدة وحتى اليوم، لكن كفرع من الفلسفة، ظهرت أفكار عن السيميولوجيا لأول مرة في كتابات الفيلسوف “جون لوك” (1690)، لكن تبلورها تم فيما بعد عندما بعض تقاليدها اللغوية الرئيسية في كتابات اثنين من روادها، السويسري “فرديناند دي سوسير” (1857 – 1913)، والفيلسوف الأمريكي “تشارلز ساندرز بيرس” (1839 – 1914). يقول سوسير في كتابه الذي نشر لأول مرة عام 1916، أي بعد وفاته بثلاث سنوات، معلنا عن وجودها كفلسفة: “من الممكن تصور علم يدرس دور العلامات كجزء من الحياة الاجتماعية، وستشكل جزءا من علم النفس الاجتماعي، وبالتالي من علم النفس كله، وسنطلق عليها “السيميولوجيا”.

وتستخدم طريقة سوسير وبيرس، ومنذ سبعينات القرن الماضي، كوسيلة لتحليل ما تنتجه وسائل الإعلام، وعلى الرغم من مرور عقود على صدور كتاب الفيلسوف “رولان بارت” “الأساطير” (1973)، فإنه لايزال مصدرا مهما للباحثين والدارسين لكونه من أبرز المؤلفات في السيميولوجيا ودراسة وسائل الإعلام.

إن أية رسالة، أو معنى، لا يمكن إيصالها إلا من خلال العلامات ونظام العلامات. العلامة هي السمة الرئيسة في السيميولوجيا، والعلامة هي الإشارة التي توصل شيئا ما إلينا.

يمكن فهم طبيعة وظيفة العلامة بطريقتين متشابهتين:

  • تعمل العلامات على قاعدة أن العلامة بديل عن شيء أو تمثل شيئا آخر: المعنى، المفهوم، أو الفكرة التي تشير إليها.
  • كل علامة تتضمن “الدال” (Signifier) و”المدلول” (Signified). الدال هو أي شكل مادي يستخدم لإيصال المعنى: رسالة بديلة، رسالة إليكترونية، صوت، وغير ذلك. أما المدلول فهو المفهوم الذي تدل عليه الرسائل والأصوات.

مثال للتمييز بين الدال والمدلول، وهو صورة رجل يقدم وردة لامرأة.

الإيماءة هنا تفهم كعلامة. الوردة هي الدال، والمدلول هو الحب ورغبة ذلك الرجل في جذب انتباه المرأة. الوردة لا تفسر ضروريا كدالة حب، لكنها هنا كإشارة (علامة) مبنية على شفرة مشتركة أو قرينة ذلك أن الورد يمكن أن يمثل الحب.

إن أفضل الطرق لتحليل الصورة هي التي قدمها “رولان بارت”، والمبنية على نظرية سوسير؛ لأن طريقة بارت تقدم صيغة واضحة ومباشرة لفهم العلاقة بين التمثيل البصري والمعنى:

الصورة / الصوت/ الكلمة = الدال

المعنى = المدلول

حل الشفرة والمعرفة الثقافية:

(9) ماكنتوش وتفاحة آدم:

(الصورة رقم 6) تمثل شعار شركة “أبل مامكنتوش” للإليكترونيات، وخاصة الحسابات.

إن تركيز الشركات الاستهلاكية الرأسمالية في إعلاناتها لا يكون على المنتج بقدر ما يكون على علامة أو شعار المنتج. هذه الشركة، بالتأكيد، لم تختر هذا الشعار اعتباطا، فما علاقة التفاحة بمنتجات الشركة إذن؟ وما هي الغاية من وضع هذا الشعار؟ إضافة إلى أن التفاحة تحمل أثر عضة؟

نرى كثيرا مثل هذه العلامات في حياتنا اليومية، لكننا قليلا ما نفكر فيها، ومنها هذه العلامة التجارية. تصوير تفاحة معضوضة على الأجهزة يبدو منسجما مع اسمها، لكن المعنى يدركه من لا يغيب عن أذهانهم قصة آدم وحواء، وإبليس، وأكل الفاكهة المحرمة – التفاح – من شجرة المعرفة، كما في الديانة المسيحية. شركة أبل ماكنتوش تريد أن تبين لنا أن أجهزة الحاسوب هي شجرة المعرفة، باستخدام أجهزة أبل ماكنتوش سنكون أكثر معرفة من دون أن نرتكب معصية.

يتطلب إذا تحليل الصورة، حتى وإن بدت بسيطة كالصور أو الشعارات أو الأفلام الكارتون، المزيدة من ملاحظة التفاصيل للوقوف على ما يود منتج الصورة إيصاله عبر الخطوط والملامح.

يتبين لنا مما ذكرناه عن العلامات أن الصورة علامة، والعلامة هي شيء ما يسند ويمثل شيئا آخر يترجمه عقل الناظر أو القارئ بأنه علامة مساوية لذلك الشيء أو ذلك الشخص، أو ربما علامة أكثر تطورا. العلامة تقف وتمثل شيئا هو موضوعها. إنما تمثل ذلك الموضوع، ليس خصوصيته، بل كمصدر لفكرة ما، يرى “بيرس” أن العلامات ترى من خلال ثلاثية: الأولى كون العلامة مجرد نوعية، أو وجود فعلي، أو قانون عام. أما الثانية فهي علاقة العلامة بموضوعها، أو العلاقة الوجودية، أو علاقتها بالمفسر. والثالثة التفسير الذي يمثلها كعلامة الاحتمالية أو علامة حقيقة أو علامة حجة.

أصبحت السيميولوجيا المنهج الرئيس في الدراسات الثقافية في أواخر الستينيات من القرن الماضي، ويعود ذلك “جزئيا” إلى مقالات “رولان بارت” التي أصدرها في كتابه “الأساطير” (1957)، وزادت كتابته في السبعينيات والثمانينيات في هيمنة هذا المنهج. ومع أن السيميولوجيا (ومنها البنيوية في الأدب) لم تعد المنهج المركزي في الدراسات الثقافية ودراسات وسائل الإعلام، لكنها تبقى أساسية لكل باحث في هذا المجال. إنها مهمة لأنها تساعدنا على ألا نأخذ “الواقع” كشيء مسلم به وذي وجود مستقل عن التفسير الإنساني.

إن السيميولوجيا تعلمنا أن الواقع هو مجموعة من العلامات، وأن دراستها تجعلنا أكثر وعيا بتركيب الأدوار التي نلعبها نحن والآخرون في بناء الواقع، كما تساعدنا على إدراك أن المعلومات أو المعاني لا توجد في العالم أو الكتب، أو في أجهزة الحاسوب أو في الإعلام المسموع و المرئي. المعنى لا يحول إلينا، بل نحن نخترعه وفق تفاعلات معقدة من الشيفرات والقراءات التي لم نعها، لكننا من خلال هذه الاختراعات نكون واعين بإمكانيات هذه الشفرات الفكرية. نتعلم من السيميولوجيا أننا نعيش في عالم من العلامات، ولا نملك سبيلا لفهم أي شيء إلا من خلال العلامات والشيفرات التي تنظمها. إننا أعيش في عالم مليء بالصور البصرية، ولا يغيب عن بالنا أنه حتى وإن كانت معظم العلامات “واقعية”، لكنها ليست كما تبدو لنا. من هنا تأتي أهمية السيميولوجيا.

الهامش

[1] عبد الجبار ناصر، ثقافة الصورة في وسائل الإعلام، ص36.

[2] Grossberg, Lawrence, et al, Media Making, Sage Publications, 2nd edition, 2006, p 10.

[3] O’shaughnessy, Michael et al, Media and Society, Oxford Press, 4th edition, 2008. p 4.

[4] Kapr, Albert. Gutenberg : The Man and His Invention. Scholar Press, 1996. p 322.

[5] The Media Management Group.

[6] Grossberg, Lawrence, Media Making, p 15.

[7] Grossberg, Lawrence, Media Making, p 36.

[8] http://googleads.g.doubleclick.net/pagead

[9] Dordick, H. And Wang, The information society, Sage, 1993, Introduction.

[10] Ong, Walter J., Orality and Literacy, London : Routledge, 2002, pp.35-40.

[11] Innis, Harold. The Bias Of Communication. Pp 35-40.

[12] عبد الجبار ناصر، ثقافة الصورة في الإعلام، ص47

[13] المصدر نفسه، ص47

[14] عبد الجبار ناصر، ثقافة الصورة في الإعلام، ص49

[15] McLuhan, M., Understanding media, McGraw-Hill, 1964, p80.

[16] عبد الجبار ناصر، ثقافة الصورة في الإعلام، ص50

[17] Ong, Walter J., Orality and Literacy, p 117.

[18] Morra, Joanne & Marquard Smith, Visual culture : critical concepts in media ans cultural studies, Routledge, 2006, p18.

[19] Aumont, Jacques. The Image. London : British Film Institute, 1994, p95.

[20] http://museums.ncl.ac.uk/archive/mithras

[21] Morra, Joanne & Marquard Smith, Visual culture : critical concepts in media ans cultural studies, Routledge, 2006, p18.

[22] Walker, John A. & Sarah Chaplin, Visual culture : an introduction, Manchester Uni Press, 1997, p20.

[23] Morra, Joanne & Marquard Smith, Visual culture, p 32.

[24] Prichett, Victor S., « The Image Trade. » In A Careless Widow and Other Stories, Random House, 1989, p154.

[25] Smith-Shank, Deborah L., « Lewis Hine and His Photo Stories : Visual Culture and Social Reform ». Art Education, March 2003 p 33.

[26] Busselle, Michael, Guide to Photographing Landscapes and Gardens, Rockport Publishers, 2002, pl.

[27] عبد الجبار، ثقافة الصورة في الإعلام، ص69.

[28] Biederman, Irving. (1987). « Recognition-by-Components : A Theory of Human Image Understanding. « Psychological Review, Vol. 94, pp. 115-147.

[29] http://firstmonday.org.

[30] California State University at Fullerton www.commfucaluty.fullerton.edu.

[31] Hofstede, G. National cultures and corporate culture, Wadsworth, 1984, p51.

[32] Dikovitskaya, Margaret, Visual Culture : The study of the Visual after the Cultural Turn, Massachusetts Institute of Technology Press. 2005.

[33] University of Wisconsin, Madison (www.visualculture.wisc.edu/whatisvisualculture).

[34] Visual Culture : The Study of the Visual after the Cultural Turn, p46.

[35] Sturken, Marita and Lisa Cartwright, Practices of looking, p 35.

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%b3%d9%84%d8%b7%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%88%d8%b3%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%85-%d9%85%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84-%d8%aa%d8%a3%d8%b3%d9%8a%d8%b3%d9%8a%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M